أصالة لمع لقد قطعوا شجرتى كأنها لا تَخُصُّنى. والآن أقف أمام ما تبقى من جذعها المبتور، وأشعر كأن أحدهم قطع ذراعى وأنا نائمة. الشجرة لم تكن فى حديقتى، ولا قرابة لى بمن زرعها، ولم أعرفها وهى نبتة صغيرة. لكنها تَخُصُّنى، ولا أفهم كيف لشجرة حين تُقطَع أن تترك كل هذا الفراغ فى المشهد وفى داخلى. ككلّ يوم، بعد ساعة الجرى المعتادة، جلستُ ألتقط أنفاسى على المقعد المقابل للشجرة. لكن الشجرة لم تكن هناك. الشجرة التى تقاسمنى منذ سنتين الأغانى والقصائد والشرود، لم يبقَ منها إلا جذعٌ بيضاوى ضخم ملتصق بالأرض فقط. شىءٌ كأن تحتفظ بساعة شخص رَحَل أو بحمّالة مفاتيحه. لماذا لا يقتلعون جذوع الأشجار حين يقطعونها؟ ولماذا لا يثير المشهد فينا الحزن كأى شاهد قبر أو ذكرى قديمة؟ كانت صفصافة جميلة كامرأة بشعر طويل، وكانت تَتّسِع لأكثر من مئة بيتٍ للعصافير، وقد كبرَت إلى حد لم تنتبه معه أن النبع الذى وُلِدَت بجانبه جفّ منذ زمن، فبَقِيَتْ تضرب جذورها فى التربة الجافة، وتورق ورقاً أخضرَ نضراً وتأوى مئات العصافير كما تفعل مدينة كبيرة بغرباء شريدين. لا أدرى لِمَ يُفَكّر أحدهم بقطع شجرة تكبدّت مشقّة التأقلم إلى هذا الحد؟ مع أننى أعرف أن الحياة التى توهمنا بأن التأقلم نجاة، هى أيضاً التى -حين نتأقلم- تُجَفِّفُنا كما تُجَفِّفُ العاصفة غيمةً هزيلة، ولا يبقى منّا فى الأغلب سوى جذع يابس، لا يَتَسِّع لبيت عصفور واحد. يبدو أن الأمر نفسه يحدث للأشجار أيضاً. هل تكون الطبيعة مخادِعة كالحياة؟ حين عدت إلى بيتى الفرنسى هذا الصيف بعد إجازة قصيرة فى لبنان، اكتشفتُ أن زوجى قطع شجرة الكرز الضخمة خلف البيت من غير أن يخبرَنى، ولم يفهم حجم الحزن والغضب الذى شعرتُ بهما وأنا أضرب بقدمى بهدوء سطح الجذع اليابس الملتصق بالأرض. كانت تلك الشجرة ذراعى أيضاً... وكنتُ أنتظر تَفَتُّح زهورها فى بداية كل ربيع كمن ينتظر حكاية يسمعُها كلما استيقظ، ليغفو من جديد. كانت طريقاً سريعاً أسلكُهُ لأقفزَ فى الأحلام، كجُحْر الأرنب فى قصة أليس. لم أنتبه إلى أنها كانت شجرة عجوز -يحدث أصلاً ألا أنتبه أن الأشجار هى مجرّد أشجار- إنما يبدو أن جذعها الوحيد كان متعباً جرّاء حمل كل هذه الأذرُع الممدودة نحو السماء. حتى التأقلم لم يعد بِوِسع الشجرة. سال اللحاء على جذعها منذراً بأنه منخور بالسوس، وبأنها قد تسقط فى أى لحظة. فَقُطِعَت! مثل الأشجار، تقطعنا الأقدار أحياناً بضربة فأس واحدة، وأحياناً أخرى تتركنا نتجوّف ببطء، حتى نسقط، منخورين بالزمن الذى يمرّ، أو بالخيبات والخذلان التى تجعل الزمن حبيساً فى قارورة على رؤوسنا. كنتُ طفلة حين قرأ لى أبى قصيدة «التينة الحمقاء» لإيليا أبى ماضى... التينة التى قَرَّرَتْ ألا تُثْمَر، وأن تُفَصِّل ظلّها على جسدها فلا تُفيدُ به أحداً، اجتَثّها صاحب البستان فى الربيع، حين أوَرَقَتْ كل الأشجار وَبَقِيَتْ هى عارية... «كأنها وتدٌ فى الأرض أو حَجَرُ». أعجبَتْنى هذه القصيدة الوَعْظِيّة فى حينها وكُنّا نُرَدِّدُها أنا وإخوتى بلا كَلَل فى السهرات الشتوية حين تنقطع الكهرباء، ونسهر على ضوء القصائد وهى تخرج من فم أبى. وكُنّا فى كل مرة نلقى القصيدة، نشدّ بألسنتنا الصغيرة على جملة «فاجْتثَّها فَهَوَت فى النار تستعِرُ» شماتةً بالتينة التى استحقّت وصف الشاعر لها بالحمقاء، فقط لأنها لم تعد تريد أن تفعل ما عليها فعلُهُ. كبرْتُ بعدها، ومُذّاك وأنا أبحث عن قصيدة تنتصر فيها الشجرة الحمقاء على صاحب البستان. فأنا مثل الشجرة، «لم أكن أريد إلا أن أعيش وفق الدوافع التى تنبع من نفسى الحقيقية، فلماذا كان الأمر بهذه الصعوبة؟» لماذا على هذه الفأس أن تبترنا مهما فعلنا؟ البَتْرُ فى اللغة هو الإزالة الكاملة لأحد أطراف الجسم. وفى البلاغة، يفيد الاستعارة للشّىء الناقص غير المُكتَمِل... الأمثلة كثيرة، كالجذع المبتور فى بداية هذا النّص، حتى الحكايات المبتورة والأحلام المبتورة بين منتصف العمر ونهايته. تُغَنّى فيروز فى أذُنى «هالحقول وساع، والدنى بتساع»، لكننى فقدتُ شجرتين وأحلاماً كثيرة وأشخاصاً أحْبَبْتُهُم... والحكايات كلها انزلَقَت منّى حتى صارَ يبدو لى أحياناً أن الدنيا لا تَتَسِّع لنا. فى نوبة جنون، لم تَتَسِّع الدنيا لفان جوخ، وضاقت به إلى حدّ أنه قَطَعَ/بَتَرَ أذنَه وأرسلَها إلى المرأة التى أَحَبّ. أحياناً أغضب. وأرغب بأن أُحَوّل هذا الغضب إلى شىء ملموس. لو كنتُ شجرة، لكان الأمر أسهل. لكننى لم أصل بعد بالجنون إلى الحدّ الذى أقطع معه أذنى. أصابعى كذلك، تبدو ملتصقة بى كلعنة وهى تهذى بالكتابات نفسها عن الأشجار والخيبات. أما تلك القطعة السّاخنة المخبأة جيداً فى صدرى، فلا أستطيع الوصول إليها. هكذا ينتهى بى الأمر وأنا أقاوم رغبتى بأن أقصّ شعرى المبلّل أمام المرآة. أحياناً، نحتاج إلى أن نبتر شيئاً منا، لننسى ما تبتره منا الحياةُ... والآخرون. أفكّر بالعصافير المئة أو الألف التى كانت هنا. أتَذكّر كيف كانت تُغَرّدُ وترِفُّ بأجنحتها فى الوقت نفسه، فترتعش الأوراق على الأغصان المتدلية حتى التراب، ويبدو لى أن الشجرة ترقص وأننى الجمهور الوحيد. الآن، صمتٌ مطبق، ما من نغمة هاربة أو رفّة جناح واحدة. كأنّ العصافير بقيت داخل الشجرة وبُتِرَت معها من المشهد الساكن الآن كبطاقة بريدية. ربما بِقَطْع الشجرة-المدينة، بترت الفأسُ أيضاً سماء العصفور... فالسماء كبيرة على عصفور لا يجد عشّاً يعود إليه حين يهدّ التعب أجنحته. حتى لو كان العشّ قفصاً، وحتّى لو بأجنحة مكسورة، يعيد التعبُ العصافيرَ والناسَ دوماً إلى مكانهم الأول. نعم، يمكن للأمكنة أن تكون سجناً، إنما لا داعى للبحث عن الحرية، ما دمنا لسنا أشجاراً، ولم نتعلم بعد كيف نضرب جذورنا فى كل تربة، ونطلق أغصاننا فى كل فضاء، مشرعين صدورنا للألفة والاعتياد.. وما دمنا، كلما غرّبتنا الأمكنة، استوحشنا، فيما شىء منّا يُبتَرُ مع كل مكان إلى غير رجعة: لم يختفِ بيتنا القديم على السفح، لكننى لم أعد أراه، ولم يعد يرانى... وحين أتعب، أجرجر جناحى المكسور فى الطرقات الغريبة، حيث الصمت والسكون كما فى بطاقة بريدية... هل يختلف الأمر كثيراً عن شجرة اختفت واختفت معها العصافير التى كانت تسكنها؟ أجلس على العشب الرّطب، ألتقط أنفاسى. فى الجذع المقصوص، دوائر وخطوط كثيرة، أخذت أتتبعها بأصابعى كأننى أتلمس الأوردة النافرة فى ذراع حبيبى. وجدتُ فى الأمر عزاءً وغمرتنى رقة نسمة شاردة. رحتُ أدندن بقية الأغنية: «وأنا وإنتا يا حبيبى، بكفينا ضو القمر...»، وهذا العالم الذى يبدو مقطوعاً من شجرة فى أغلب الأحيان، ناقصاً بشكل لا يُطاق، قاسياً ووحشياً... بدا فجأة كافياً تماماً، يجلس عند قدمى بوداعة كقط صغير. ليست الشجرة، ولا العصافير، ولا الرغبات المجنونة، ولا الخيبات الأكثر خذلاناً ولا الأمكنة التى اختفت أو الوقت الذى يسحقنا، بل التيه... التيه، هذا القدر الذى يرتدينا كجلدٍ ثانٍ. جلدٌ ثانٍ امتدّ على كامل الجسد وغلّفنى بحزم، كما كانت أمى تغلّف أطباقها الجاهزة كل أسبوع حين أغادرها إلى سكنى الجامعى فى بيروت. جلدٌ التفّ من حولى، كما يحكم الضباب الخناق على رأس ذاك الجبل العظيم فى القرية التى أتيتُ منها. التيه، الجلد الذى امتدّ على مساحاتٍ كانت مفرودة لأمكنة أعرفها وتعرفنى قبل أن أرتحل إلى هذه الأرض الغريبة. الجلد الذى غلفّ الوجوه والأصوات التى صنعت جسدى وذاكرتى، والروائح التى تجرى داخلى كالدماء. التيه، جلد يغطى قلقى، كورقة «سيلوفان لماعة»، تحفظ حرارة الطعام. وتحتها، تتصاعد أبخرة القلق، طازجة دوماً، حارقة دوماً. القلق من أن أكون ضائعة، «ليس فى العالم الواسع، بل فى رأسى الصغير»**، بلا شجرة تظلّل عالمى، وتأخذنى إلى عوالم أخرى... عوالم ترتبط فى الذاكرة بهذه الحياة التى تركتها خلفى هناك، فى بيت جدى فى القرية القديمة، وفى بيت أهلى على السفح، وعلى مقعد خشبى مقابل الشاطئ فى بيروت. الحياة التى، وأنا أجلس على المقعد تحت الشجرة التى قطعوها، كنت أحبّ التفكير، بأنها الحياة التى تنتظرنى هناك. من حيث جئت