فى المقالة السابقة تحدثنا عن ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» لمحمد القلينى (دار العين) من منظور عام؛ ذاكرين الملامح الرئيسية دون تفصيل. وفى هذه المقالة نترك للقصائد أن تدلل على ما أوردناه من كلام نظرى جاء أغلبه مديحاً. ذكرنا أولاً الطبيعة شبه الروائية للديوان التى تظهر منذ السطور الأولى من القصيدة الأولى «نافذة تطل على نهاية العالم»؛ والآن نرى معاً كيف استطاع القلينى أن يُوَلّد الشعر مما يبدو ظاهرياً لغة شديدة النثرية؛ لغة وكأنها غير أدبية على الإطلاق: «اسمى محمد القليني/ أكتب الشعر/ وأعمل فى شركة ملابس..»؛ ثم انظر كيف استطاع أن ينسج من هذه النثرية صورته الشعرية الأولي: «ليس بين الأمرين أى تعارض/ فثمة مخزن كبير/ أكدس فيه قمصاناً مستوردة/ يتهافت الناس على شرائها/ وثمة قلب أكبر/ أخزن داخله قصائد/ لا تجد لها مشترياً». وفى قصيدة «وردة خرجت من فوهة بندقية» نموذج شديد المرارة من حس القلينى الساخر المنتشر فى العمل كله: «أنا بخير يا أصدقائي/ لا تقلقوا/ مازلت أكتب كل أسبوع قصيدة أو اثنتين/ وأحتسى القهوة المُرة/ وأعدو بالمقشة وراء الموتي/ الذين يتساقطون من نشرة التاسعة».. ثم ينتقل من هذه الصورة السيريالية الأخيرة, إلى أخرى أشد سيريالية ومرارة وشاعرية حين يضيف: «أنا بخير يا أصدقائي/ وسعيد جداً/ فعامل النظافة شكرنى كثيراً/ فى التقرير الذى قدمه/ إلى الجهة الأمنية التى يعمل بها/ وشرح كيف أعبئ أحلامي/ داخل كيس بلاستيكى أسود/ وكيف أسلم إليه الكيس كل صباح/ دون أن أعبس فى وجهه».. وفى قصيدة أخرى عن البنادق, يقول القلينى ممعناً فى سخريته, مبحراً فى مرارة بلا حدود: «لم أكتب قصيدة عن البحر/ لأنى خفت أن تصطدم كلماتى بالمراكب الغارقة/ أو أن يتسخ قلمى بتقيؤ شاب/ أصابه البحر بدوار/ فى أثناء هروبه إلى بلاد أكثر رحابة». وينتقل القلينى من زرقة البحر العميقة إلى زرقة السماء الأشف والأعلي, لكن درجة المرارة لا تشف ولا تخف: «وأيضاً.. لم أكتب قصيدة عن السماء/ لأن أحلامى بلا جناحين يأخذاننى إليها/ ثم إن البنادق فى الخارج/ لم تترك عصفورة إلا وقتلتها».. وفى قصيدة «يا بائع الأقفال» نلمس طابعاً شعبياً نادراً فى قصائد القليني, حين يقول: «يا بائع الأقفال../ دلنى على قُفل قوي/ أغلق به ذلك الباب فى ذاكرتي/ الباب الذى تجتازه حبيبتى القديمة كل مساء/ لمجرد أن تقوم بطلاء حنجرتي/ بالأغنيات القديمة». هذه الصورة الأخيرة (طلاء الحنجرة) تقودنا إلى ظاهرة شائعة فى شعر القلينى وهى الإغراب. وقد ذكرت فى المقالة السابقة أن هذا الإغراب أحياناً يكون مفرطاً. ومن نماذج هذا الإفراط بعض عناوين القصائد, مثل: أخبز مشاعرى لإطعام قصيدة جائعة/ البصق فى شفتيْ الصبر.. بينما الكثير من عناوين القصائد يقف على الحافة ولا يسقط فى هاوية الإغراب المفرط. وينطبق هذا أيضاً على القصائد نفسها. ولا يسعنى هنا إلا أن أعبر عن إعجابى بجرأة هذا الشاعر التى أثمرت فى معظم الأحيان, ولم تنبُ عن إصابة الهدف إلا فى القليل النادر. وكما فعلنا فى المرة السابقة, أتركك فى نهاية هذا المقال مع الشاعر نفسه, داعياً إياك بشدة أن تحصل على نسخة من هذا الديوان فتستمتع به كله: «لماذا يا الله لم تخلقنى شجرة؟ كان من الممكن حينها أن أبسط ذراعي/ فيقف عصفور فوقها ويغني/ أو أن أتبرع بقطعة من جسدي/ ليصنع بها عاشق جيتاراً/ ../ أو أن أقهقه حين تدغدغنى الرياح/ فتسقط من جيوبى تفاحتان/ فيأكل رجل فقير واحدة/ ويحمل الأخرى إلى زوجته التي/ تتضور جوعاً فى حجرة ضيقة/ لماذا يا الله لم تخلقنى شجرة؟/ ولماذا خلقتنى شاعراً/ حين أتحدث/ تتساقط من فمى كل حبيباتى السابقات/ وحين أضع رأسى على الوسادة/ تُجثم فوق صدرى كل القصائد/ التى لم أتمكن من كتابتها». أما القصائد التى تمكن القلينى من كتابتها فقد أطربتنى كثيرا. لمزيد من مقالات بهاء جاهين