فإذا أردنا أن نكون ممن لا يضيعهم الله فعلينا بذبح الدنيا فى قلوبنا كما ذبحها إبراهيم وهاجر وإسماعيل تأمل معى فى تلك الصفات المشتركة التى جمعت بين الأب والأم والابن والتى جعلت كل ما قاموا به منسكًا أساسيًا من مناسك الإسلام إلى يوم الدين. هذه الأسرة أدركت أن تنفيذ الأمر الإلهى معناه أن الله لن يضيعنا. فعلها الأب إبراهيم عليه السلام. كما فعلتها زوجته السيدة هاجر، هذه المصرية التى تزوجها سيدنا إبراهيم فانتقل بها من حياة القصور الرغدة فى مصر إلى صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء. ليس هذا فقط بل وجدت هاجر نفسها مسئولة عن طفل رضيع فى تلك البيئة الموحشة. ذلك أن الأب جاءه أمر إلهى جديد بتركها وطفلها فى ذلك المكان والسفر إلى مكان جديد. تخيل مثلًا رد فعل سيدة مصرية (وضع تحت مصرية مئة خط) تربت وترعرعت فى أحد الأحياء التى نطلق عليها راقية - مع أن سكانها ليسوا جميعًا كذلك - تجد أن زوجها قرر أن ينتقل بها إلى منطقة عشوائية مزدحمة بالناس ومع احترامى لكل مكان وكل شارع فى مصر لكن كيف سيكون رد فعل هذه السيدة؟!. الأمر عند السيدة هاجر كان واضحًا: نظرت إلى الآمر وعرفت قدره وليس للأمر الذى هو فى اعتقادها صغير جداً، والنتيجة عندها واضحة تمامًا، فطالما أن هذا أمر إلهى إذن فلن يضيعنا الله. حتى عندما اشتاق سيدنا إبراهيم لرؤية زوجه وولده وأذن الله سبحانه وتعالى له بأن يسافر ليطمئن عليهما. كان شرط الزيارة أن يكتفى سيدنا إبراهيم برؤيتهما وهو ممتطيًا فرسه لا يترجل منه. ثم يعود من حيث جاء.. منطق غريب فى رأينا نحن ولكنه لم يكن غريبًا عند إبراهيم ولا زوجه ولا ولده. فهذا أمر الله الذى لا يضيع أهله. ثم جاءت الزيارة الثانية لإبراهيم لأسرته بعد الأولى بسنوات ليجد الطفل قد أصبح شابًا، فيفرح قلبه، وهنا تتجلى الحكمة الإلهية من جديد، يجب ألا يكون فى قلبك يا إبراهيم إلا الله عز وجل، لا شريك له فى قلبك حتى لو كان ولدك وفلذة كبدك، فيجيء الأمر الإلهى واضحًا جليًا: اذبح هذا الولد يا إبراهيم! ويعلنها القرآن صراحة: إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى؟!. آية واضحة لا لبس فيها، لم تترك الفرصة لأى متفذلك ليشكك أو يرتاب فى تأويلها، فلو كانت حديثًا شريفًا وليست آية مثلًا ربما قال البعض إنه حديث ضعيف فيه كثير من المبالغة. وهنا يجيء رد فعل الشاب الذى تربى فى حجر هاجر يسير على درب أمه ووالده الذى لم يره إلا لحظات قليلة آخرها جاء فيها ليذبحه، يرد بإجابة قاطعة: يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين. تربى الولد على أن أمر الله واجب التنفيذ ولو على رقبته. فيمتثل للأمر وينام طالبًا من أبيه أن يجعل وجهه للأرض حتى لا يضعف عند تنفيذ الأمر لو وقع نظره فى عين ابنه!. هنا يأتى دور الشيطان الرجيم الذى أراد أن يحول بين هذه الأسرة وبين تنفيذها لأوامر الله عز وجل، يذهب أولًا للأب: كيف يا رجل تذبح ابنك؟ فيمسك سيدنا إبراهيم ببضع الحجارة ليلقن هذا اللعين درسًا قاسيًا ويطارده حتى ينصرف. لكن الشيطان المجتهد والمتفكر لا ييأس فيذهب إلى السيدة هاجر: أدركى طفلك يا امرأة، هل ستتركين ذلك الرجل الطاعن فى السن يمتثل لرؤية منامية؟ فتقوم هاجر بمثل ما قام به زوجها وتلاحقه ببضع حجارة وكذلك فعل إسماعيل والشيطان يحاول أن يقنعه بأن والده سيذبحه بدلًا من أن يعوضه سنوات الحرمان. فإذا بما فعله الثلاثة يصبح من أركان الحج لو لم يفعله الحاج وجب عليه فدية ودم. الدرس أن ملة إبراهيم هى ترك كل غالٍ والتضحية بكل نفيس فى سبيل إعلاء كلمة الله وتنفيذ أمره، فعلينا أن ندرك ضرورة أن تكون تلك الأوامر واضحة فى حياتنا وأن نصدق مثلما صدقت هذه الأسرة التى أراد الله عز وجل أن تكون لنا قدوة ومثلًا أعلى فى طاعتهم لأوامره، فخلد كل خطواتهم ليحتفل بها كل العالم فى مثل هذه الأيام من كل عام والتى جعلها سبحانه وتعالى أحب الأيام إليه. فإذا أردنا أن نكون ممن لا يضيعهم الله فعلينا بذبح الدنيا فى قلوبنا كما ذبحها إبراهيم وهاجر وإسماعيل. أن نضحى بالدنيا مقابل جنة عرضها السموات والأرض، أن نبذل فى سبيلها كل غالٍ، كيف لا وهى سلعة الله الغالية. فعلينا أن نقوم بالتضحية حتى يكرمنا الله عز وجل بالأضحية. قولوا آمين.