د. هشام محفوظ فى روايتها «الهزيمة الزائفة»، الصادرة عن إبهار للنشر والتوزيع، لا تكتفى الكاتبة الروائية رضوى صقر بتقديم سرد حكائى ممتد عبر 21 فصلاً و288 صفحة، بل تنسج مرسلة سردية تستدعى وعياً تأويلياً متعدد المستويات، ينفتح على جدليات فلسفية واجتماعية ونفسية تتقاطع مع مفاهيم التداول الثقافى، والتحليل السيميائى، وفلسفة اللغة، والتأويل وذلك اعتمادا على تلك الإجراءات التى اتبعتها الكاتبة وتجلت قرائيا لنا على هيئة ملاحظات : أولاً: من الغلاف إلى القلب السردى – البناء التداولى لمعنى الهزيمة المفتتح المقتبس على الغلاف الخلفى للرواية ليس مجرد عتبة نصية، بل يُعدُّ «ضغثًا لغويًا» تختاره الكاتبة بعناية ليختزن الرؤية الفلسفية الكامنة خلف الحكاية. الغلاف، بوصفه نصاً موازياً، يؤسس لمفاهيم: الفرصة الثانية، إعادة التهذيب، والنظر فى مدى استحقاق الإنسان للخلاص. وهنا، تطرح الرواية تساؤلات وجودية عميقة: هل الهزيمة حالة شعورية أم واقعة موضوعية؟ هل نحن نُهزم أم نتوهم الهزيمة؟ أسئلة لا تقف عند الحقل النفسى، بل تُفتح على أفق مجتمعى يستدعى تفكيك آليات التنشئة والمعتقدات القيمية. ثانيًا: فاطمة وعمار – الشخصيات بوصفها أنساقًا جدلية: تُعيد الكاتبة رضوى صقر تشكيل ثنائية فاطمة/عمار ليس بوصفها علاقة حب أو خصومة فقط، بل بوصفها حوارًا داخليًا بين نقيضين يلتقيان ليتجاوزا شرط الهزيمة الفردية نحو ما يمكن تسميته بالانتصار الجمعى القيمى. ففاطمة لم تهزم عمار فقط، بل هزمت مثالية حبها الأول، وهزمت الفكرة الرومانسية المريضة عن الاستحقاق العاطفى وقدّمت بذلك صورة للبطلة التى تفكك ذاتها لتعيد بناء الآخر، فتُشفِى لا لتنتصر، بل لتصنع انسجامًا فى محيط إنسانى مهدد بالتشوه والانقسام. ثالثًا: ميكيافيللى كشخصية ظل – إسقاط فلسفى أم تجاوز تأويلى؟ تعاطف الراوي/فاطمة مع ميكيافيللى لا يعكس تأثراً آلياً، بل هو موقف نقدى واعٍ يقرأ أفكار المفكر فى ضوء سياقات مجتمعية حديثة. فالرواية تتساءل ضمنيًا: ماذا لو التقت فاطمة بميكيافيللي؟ هل كانت ستنجح فى تغيير بُعده الأداتى وتدجينه إنسانيًا كما فعلت مع عمار؟ هنا تلمح الكاتبة إلى أن فلسفة القوة إن لم تُقابل بفلسفة الحوار، فإن المجتمعات ستظل رهينة الصراع، والوعى سينهزم أمام الإيديولوجيا. رابعًا: اللغة بوصفها فاعلاً – من يتكلم إذًا؟ الرواية، كما يشير تحليل جان جاك لوسركل، لا تُقرأ فقط عبر بنيتها النحوية أو ألسنيتها، بل من خلال «المتبقّي» الذى لا تلتقطه قواعد اللغة. فهل رضوى صقر هى من تتكلم أم أن اللغة تُعيد إنتاج ذاتها عبرها؟ لقد اختارت الكاتبة أن تكتب بلغة ثقافية ذاتية مصرية/عربية، حوارية، نابضة بالخصوصية، لكن قابلة للتأويل عبر ثقافات أخرى. هذا الاستعمال الواعى للغة يربط الرواية بخطاب الأدب العالى، ويُضفى عليها ديناميكية تجعلها تنتمى لما يسميه أمبرتو إيكو «حقول المعنى» لا سلاسله. خامسًا: بنية الزمان والمكان – السرد كوعى مكانى وزمانى تعتمد الرواية على توزيع زمكانى واعٍ يوازى التحول النفسى للشخصيات. فكل مكان يمر فيه عمار أو فاطمة يشكل خلفية للوعى أو مسرحًا للانقلاب الداخلى. وهذه المكانية ليست استعراضًا ديكورياً، بل هى تجسيد لتضاريس الذات؛ إذ تنبع الأماكن من الداخل، لا من الخارج، وتتحول إلى شواهد على النمو أو الانكسار. سادسًا: جدلية الانتصار والهزيمة – وهم أم حقيقة؟ الكاتبة رضوى صقر، فيما يبدو، قد تكون فكرت فى عناوين بديلة لمرسلتها السردية، لكنها تجاسرت واختارت عنوان «الهزيمة الزائفة» لتضع المتلقى أمام مرآة معكوسة. فالانتصارات ليست دائماً ما تبدو عليه، والهزائم أحيانًا قد تكون الممر الضرورى للشفاء أو الإشراق. وهذا يضع الرواية فى مدار فلسفى عميق يقف على تقاطع نيتشه (فى تحذيره من المثالية) مع مكيافيللى (فى تحذيره من العاطفة)، ليصوغ الإثنان داخل النص تمازجًا يفتح بابًا تأويليًا رحيبًا حول الوعى، والصدق، والبقاء. إن «الهزيمة الزائفة» ليست مجرد رواية اجتماعية أو رومانسية، بل مرآة لأسئلة وجودية كبرى تتعلق بالحقيقة والوهم، الذات واللغة، الواقع والمُتخيّل. لقد قدّمت رضوى صقر خطابًا أدبيًا مفتوح الدلالة، تأويليًا فى بنيته، وجدليًا فى طرحه، ويستحق أن يُدرَس لا كحكاية بل كحقل معرفى تتقاطع فيه السرديات مع علم النفس، وفلسفة الأخلاق، ونقد اللغة. فهل ما نراه هزيمة هو حقًا كذلك؟ أم أن الرواية تمنحنا نحن المتلقين الفرصة الثانية للقراءة من جديد؟ للإجابة عن هذا السؤال نقول بعبارة أخيرة مختصرة: رواية «الهزيمة الزائفة» ليست نصًا سرديًا اعتباطيًا يركن إلى التخييل المجرد أو الانفعالات العاطفية المحضة، بل هى رواية تكتب من قلب العالم، وتنبض بما يعتمل وما يمور مصطخبا على خشبة المسرح الإنسانى من تصدعات، وصراعات وانهيارات قيمية، وفقدان للثقة بين الدول والمجتمعات والأفراد على حدّ سواء. إن رضوى صقر لا تقدّم حكايةً عن «فاطمة» و«عمار» فقط، بل تكتب عن إنسان معاصر مأزوم فى زمن يتآكل فيه المعنى، حيث تتقاطع الهزائم السياسية مع الانكسارات النفسية، وتتماهى الانتصارات الشكلية مع الخسارات الداخلية فى نفوس الكثيرين من شعوب العالم . لقد خاضت فاطمة رحلة لا تستهدف استرداد حبيب، بل من أجل استعادة إنسان. وبذلت من روحها ما يجعلها رمزًا لفعل المقاومة الناعمة، تلك التى لا تُرفع فيها شعارات ولا تُخاض فيها معارك ظاهرة، بل تُخاض بالأفكار فى الداخل، فى العمق، فى أعماق القلب والعقل. إنها تقف بحكمة وصبر لا محدود بوجه الهزيمة لا لتهزم خصمًا، بل لتنتصر للنبيل الكامن فى الآخر، لعمار الممكن، للإنسان المهدد بالانسحاق داخل دوائر القسوة والتشيؤ وفقدان الثقة . الرواية تتماس تأويليًا مع ما يعيشه العالم من تحولات عميقة: صعود مفاهيم القوة الأداتية، اضطراب الخطاب الأخلاقى، إزاحة الإنسان عن مركز المعنى، وارتباك الوعى الجمعى فى مواجهة خطاب الخلاص. وفى كل ذلك، تُقدِّم فاطمة صورة مغايرة لمفهوم «القوة»؛ قوة الشفاء، لا الغلبة، قوة السرد المقاوم، لا الصراخ الشعارى. تصبح الهزيمة الزائفة بذلك ليست مرآة لما هو شخصى فقط، بل تمثيلًا سرديًا لما هو عالمى، حيث تتحول الهزيمة من واقعة فردية إلى استعارة كبرى عن ضياع الإنسان فى عالم يعيد إنتاج أزماته . وعليه، فإن الرواية لا تنغلق على ذاتها، بل تفتح أفقًا تأويليًا يربط الذاتى بالجمعى، ويمنح القارئ كما منحت فاطمة لعمار فرصة ثانية لفهم الهزيمة كاحتمال للشفاء، والانتصار كحالة من الانسجام، لا الغلبة. وبهذا المعنى، تتحول فاطمة إلى تجسيد رمزى للضمير العالمى حين يتجلى فى امرأة: تُرمِّم، لا تُدين؛ تُحب، لا تُساوم؛ تُعيد الثقة، لا تطلب مقابلًا. فهل بعد هذا يمكن أن تبقى الهزيمة زائفة فقط، أم أنها فى بعدها الأعمق ضرورة؟ البحث مستمر عن إجابة هذا السؤال، وهذا مبعث نجاح وانتصار فعل هذا النص الروائى الموسوم ب«الهزيمة الزائفة» !