ملامح تحول استراتيجى فى النهج الأمريكى تجاه إفريقيا بدأت تتكشف اتضح ذلك فى تصريحات مايكل لانجلى قائد القوات الأمريكية فى إفريقيا، حيث حملت رسائل واضحة للحلفاء فى القارة، مؤكدة ضرورة تعزيز قدراتهم الذاتية وتقاسم الأعباء الأمنية.. وشدد لانجلى على أن «الأولوية القصوى هى حماية الوطن الأمريكى»، وأضاف أن الولاياتالمتحدة تتوقع من الدول الأخرى المساهمة بشكل أكبر فى إدارة مناطق عدم الاستقرار العالمية. وأشار إلى أن «النهج الحكومى الشامل لمكافحة التمرد لم يعد يحتل نفس المكانة فى الخطاب الأمريكي، رغم نجاحه فى دول مثل ساحل العاج». صدرت هذه التصريحات بعد انتهاء مناورات «الأسد الإفريقي»، التى تُعد أكبر مناورات تدريبية مشتركة فى القارة، وجاءت كلمات لانجلى لتكشف أن الولاياتالمتحدة توجه رسائل جديدة لحلفائها تعكس تحولًا فى استراتيجيتها العسكرية فى المنطقة. اقرأ أيضًا | رئيس جنوب أفريقيا: خطوات شاملة لتخفيف العبء عن المواطنين مع إعادة هيكلة الجيش الأمريكي، وتقليص بعض المناصب القيادية فى إفريقيا، لتبدو كإشارة صريحة لدول القارة السمراء، بضرورة تعزيز اعتمادها على نفسها فى إدارة شئونها الأمنية. هذا التحول الذى يعد أحد محاور الاستراتيجية الامريكية الجديدة يؤكد سعى واشنطن إلى تجنب التدخلات العسكرية المباشرة واسعة النطاق، وتفضيلها دعم الحلفاء لتعزيز قدراتهم على إدارة أمنهم الداخلى ومواجهة التهديدات الإقليمية. ويرى السفير د. إسلام عاشور المستشار الخاص والمراقب الحكومى الدائم بالأمم المتحدة أنه لا يمكن فصل تصريحات لانجلى عن مسار بدأ منذ سنوات داخل المؤسسة الاستراتيجية الأمريكية، يتجه إلى تقليص الانخراط المباشر فى مناطق التماس غير الحيوية للأمن القومى الأمريكى التقليدي، وعلى رأسها إفريقيا. فبعد عقدين من التورط المكلف فى الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، تسعى الإدارة الأمريكية ومعها البنتاجون لإعادة صياغة أولوياتها، وفق نموذج «الردع عن بعد» و«التفويض الإقليمي»، حيث يُطلب من الحلفاء القيام بالدور الميداني، بينما تحتفظ واشنطن بدور التخطيط والدعم المحدود والمصالح النوعية. لهذا يرى د. عاشور أن لانجلى لم يتحدث من فراغ، بل عبّر عن هذا التوجه بوضوح، حين أشار إلى أن «الشركاء المحليين باتوا مؤهلين بشكل متزايد لتحمل المسئولية عن أمنهم».. وهو توصيف يحمل فى طياته رسالة مزدوجة بأن واشنطن ستُقلص تدريجيًا وجودها الميدانى وتدخلها المباشر فى النزاعات الإفريقية، وتُغلف ذلك بغطاء من المجاملات الدبلوماسية حول «بناء القدرات» و»دعم الاستقلال الاستراتيجي».. وكذلك ضرورة إعادة الدول الإفريقية تموضعها داخل هذا الواقع الجديد، سواء بملء الفراغ بأدواتها الذاتية، أو بالسعى لتحالفات بديلة. ويوضح أن ما يُثير القلق فى تصريحات القائد الأمريكى ليس ما أعلنه، بل ما لم يقله، فالحديث عن «الاعتماد على النفس» لم يواكبه أى التزام أمريكى واضح بضمانات دعم طويل الأمد، أو حتى تعهد باستمرار التمويل أو التعاون الاستخباراتي، بل كان أقرب إلى تلميح ضمنى بانسحاب تدريجى مغلف بلغة الشراكة.. لذلك يمكن قراءة خطاب لانجلى باعتباره جزءًا من استراتيجية أشمل تتبعها واشنطن حاليًا فى عدة مناطق حول العالم، وهى تخفيف الأعباء المباشرة على الميزانية العسكرية، وإعادة تمركز قواتها فى آسيا والمحيط الهادئ، حيث تتصاعد التهديدات الصينية، وبهذا تترك الإدارة الأمريكية حلفاءها الإقليميين يتعاملون بأنفسهم مع الملفات «الهامشية» بالنسبة لواشنطن.. وهو الأمر الذى يعنى أن الدول الإفريقية، خصوصًا الواقعة فى مناطق الصراع أو التهديدات الإرهابية، ستجد نفسها وحيدة فى المواجهة على الأرض، إلا إذا اختارت اللجوء إلى تحالفات جديدة أو نماذج أمنية جماعية أكثر استقلالية. ويضيف أن تصريحات لانجلى تكشف أن واشنطن لا تنسحب من إفريقيا بالكامل، لكنها تُعيد ترتيب أولوياتها.. حيث ستُبقى على قواعد استخباراتية وانتقائية وسوف تشارك فى المناورات الرمزية والبرامج التدريبية.. لكنها لن تُقدم الالتزامات القديمة ذات الطابع الشامل.. وهو ما يضع الدول الإفريقية أمام معادلة صعبة: إما أن تتكامل ذاتيًا فى مجالات الأمن والدفاع والاقتصاد أو أن تقع فريسة للفراغ الاستراتيجى والتجاذبات الدولية. بالتأكيد لم يكن قائد القوات الأمريكية فى إفريقيا يعبر عن وجهة نظر شخصية، بل يعلن انطلاق مرحلة جديدة فى سياسة بلاده تجاه القارة السمراء، وهو ما يطرح سيناريوهات عديدة، قد تشهد تشكيل تحالفات غير تقليدية، تتيح للقارة أن تحمل مسئولية أعبائها، والمستقبل وحده سيكشف هل يتحقق حلم التكامل الإقليمى بين دولها، أو يفتح أبواب كوابيس جديدة إذا ما تدخل لاعبون خارجيون لتحقيق مصالحهم.