كان هذا الكتاب الرقيق الذى اختارت له صاحبته عنوان: الحب والصمت هو الكتاب الأول والأخير الذى كتبته هذه رواية تعتبر درة أدبية، كتبتها الأديبة المنتحرة عنايات الزيَّات «23 مارس 1936 - 5 يناير 1963» صدرت سنة 1967، ونشرها صندوق التنمية الثقافية. تدور أحداثها فى بداية حقبة الخمسينيات من القرن العشرين ونهايات الحكم الملكى فى مصر. حيث بطلة الرواية واسمها نجلاء، تنتمى إلى طبقة اجتماعية غنية فيها المرأة ما هى إلا متاع للرجل بلا رأى. ولا حق لها فى أن تختار حياتها، تُعانى من إحساس مفرط بالوحدة. هذا الشعور القاتل الذى استولى على حواسها قادها لأن تطرح ما تراه، وكذلك فلسفتها الخاصة فى الحياة. هذا الكتاب كتب له المقدمة مصطفى محمود، وهى مفاجأة، وربما كان ذلك فى بداياته وليس نهاياته التى عاصرناها. فماذا قال مصطفى محمود فى مقدمته لهذه الرواية الفريدة والمهمة؟ والتى لعبت دوراً فى سنوات كتابات الرواية المصرية والعربية الأولى. لقد كان هذا الكتاب الرقيق الذى اختارت له صاحبته عنوان: الحب والصمت هو الكتاب الأول والأخير الذى كتبته، فقد ماتت شابة لم تبلُغ الثلاثين من العُمر. كانت آلام قلبها العبقرى وإنسانيتها المعذبة فوق احتمالها. ويختم مقدمته بعبارة جميلة: أذكى الرحمات على روحها النقية وفنها الرفيع. وهى تبدأ روايتها هكذا: - وقفتُ وراء زجاج نافذتى أرقُب الطريق، الشارع خالٍ موحش، ونوافذ البيوت مغلقة، لا حياة ولا حركة، الزمن توقف، والدقيقة أصبحت ساعات مملة. وقتى رخيص، لا أعرف ماذا أفعل به؟ أنا لا شىء، ذهبت وجئت فى الحجرة ونظرت من النافذة، وأمسكت بكتابٍ عدة مرات، وحاولت فى كل مرة الاستمرار فى القراءة، ولكنى فشلت، فأقفلت الكتاب، وانتصر الفشل انتصاره الدائم عليّ، منذ موت أخى لم أعد أستمر فى أى شىء. تكتب أيضًا وهى تصف بعمق حالات عذاب النفس وتمزق الوجدان: - شعرتُ أنى منفية داخل نفسى، وفى حاجة تُخرجنى من داخلى، أحمد كان يحاول ولكنه كان ما يلبث أن يتخلى عنى، صوته هو الآخر أصبح يأتى إليَّ من طريق أذنى مثل سائر الأشياء. أنا وحيدة فى العالم كله والناس يبدون مثل نقاط على الأفق الوهمى البعيد، أنا منفية عن نفسى، لا أحد قادر على استصدار عفو عن روحى لتعود فتُحس أن جسدها هذا هو وطنها الحبيب الذى تملكه. لو أستطيع أن ألغى وجودى وأوجد فى مكان آخر وزمان آخر، نعم زمان آخر. هذه الرواية سبقت زمانها، وصندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة المصرية أهدى كل مثقف مصرى وعربى هدية كبيرة وغالية ولا تقدر بمال أياً كان هذا المال، عندما أعاد نشر هذه الرواية المهمة التى أغفلها سواء بحسن نية أو سوء نية كثير من نقاد الرواية فى زمننا هذا والزمان السابق عليه. والرواية تبدو مونولوج طويل على لسان البطلة، وهذا ما توقف أمامه مصطفى محمود فى مقدمته المهمة لهذه الرواية. والرواية من ألفها إلى يائها مكتوبة بضمير المتكلم. تكتب البطلة عن نفسها: أنا وحيدة فى هذا العالم كله. والناس يبدون مثل نقاط على الأفق الوهمى البعيد. ذكرى أنه ذات يوم بعيد كنت أحلم بأن أصنع شيئاً عظيماً. وعندما يلفنى الحزن كضباب الشتاء، وتتساقط بقايا ابتسامات الصيف كأوراق الخريف، عندئذ تبكيه الستائر المسدلة والشمس الشاحبة عند الأفق. وأغرق فى بحور ذكرياتى ذات العودة المستحيلة. لقد بحثت طويلاً، أردتُ شيئاً يجسم لى أحمد يقربه منى، وهناك فى العزبة أحسست به فى الأرض فى ثراها الطيب، وبراعمها الخُضر، رحتُ أتجول فى الحقول وأتأمل السماء وأتذكره، إنه لم يضع منى، إنه هنا معى، يكلمنى بلغة الورود والأنسام. وفى الفصل قبل الأخير من الرواية تكتب المؤلفة البطلة عن أحمد الذى أحبته، ولكنه غادرها إلى الأبد. أما الفصل الأخير والذى يحمل رقم 43 ففيه مفاجأة ذكرى ثورة يوليو 1952، تكتُب: - فاجأتنى طوابير هائلة من الأسلحة الثقيلة والمصفحات متجهة إلى طريق الإسكندرية، وصكت أذنى صيحات باعة الصحف تعلن عن طوابير الجيش وانقلاب 23 يوليو، وقفت فى مكانى مشدوهة أتتبع الطوابير المتعاقبة أمام عينيَّ. وآخر سطر فى الرواية تكتب فيه: - لقد بدأ الفجر يلوح. وهى تقصد بهذا الفجر ثورة 23 يوليو 1952.