بالرغم من العقبات والتحديات والأعباء الجسيمة، فإن رجل الأعمال محمد لطفي منصور امتلك رؤية للإصلاح والتطوير خلال سنوات استوزاره. بأسلوبٍ أقرب إلى المصارحة ولا يخلو من الشفافية، فتح هذا الرجل قلبه وعقله وقدَّم شهادته عن فترة شغله منصب وزير النقل من 2005 إلى 2009. لم يشغلني في شهادته شيء أكثر من الجزء الذي تناول فيه مشكلات النقل، وخصوصًا السكك الحديدية، في مصر. يحكي محمد لطفي منصور في كتابه «مسيرتي: سيرة حياة» (مكتبة جرير، 2025): «لا شك أن البنية الأساسية لشبكة السكك الحديدية كانت في حالة يُرثى لها، ولم يتم تحديث الجرارات وعربات الركاب لعقود من الزمن. وأتذكر أنه عندما توليتُ المسؤولية كان لدى الوزارة 700 قاطرة قيد التشغيل، تعمل على نقل الركاب والبضائع معًا، غير أنني اكتشفتُ أن نصفها خارج الخدمة، ويتم استخدامها كقطع غيار فقط. كما اكتشفتُ أن قضبان السكك الحديدية نفسها في حالة سيئة، وكذلك نُظم الإشارات، وأن سجلات مواعيد الرحلات غير منتظمة. كما أدهشني أن نظام السكك الحديدية في مصر آنذاك كان قائمًا على دعم أسعار التذاكر بأقل كثيرًا من تكلفة تقديم الخدمة، مما عرَّض الهيئة لخسارة بلغت نحو 5 مليارات جنيه مصري سنويًا. وبلغ عدد موظفي الهيئة 73 ألف شخص، وكانت أجورهم زهيدة، ولم يتلقوا تدريبًا كافيًا» (ص 114). ويضيف: «وتدريجًا شرعتُ في تنفيذ خطة طموحة تهدف إلى تعظيم عوائد الاستثمار من قطاعات النقل لإنعاش الاقتصاد الوطني التي لاقت تأييد رئيس الحكومة من قطاعات النقل لإنعاش الاقتصاد الوطني، والتي لاقت تأييد رئيس الحكومة. وعلى مدى السنوات الأربع التالية، مددنا 5 آلاف كيلومتر من الطرق الجديدة، ورفعنا كفاءة العديد من الطرق السريعة القائمة، كما تعاقدنا مع شركة «سيسترا» الفرنسية؛ للإشراف على بناء الخط الثالث من شبكة مترو الأنفاق في القاهرة، وخططنا لتنفيذ الخط الرابع. في الوقت ذاته، صنعنا قصة نجاح لافتة في بعض الموانئ المصرية وعلى رأسها ميناء شرق بورسعيد» (ص 115). إلا أن محمد لطفي منصور يستدرك قائلًا: «ومع كل ذلك، ظل التحدي الأعظم الذي واجهناه هو تطوير السكك الحديدية في مصر؛ إذ كانت غير آمنة، وظل معدل الحوادث فيها مرتفعًا لسنوات، وظلت حالة القاطرات منخفضة، خاصة أن العديد من قطع الغيار كان خليطًا من الشركات المُصنِّعة المختلفة، ومن فترات زمنية مختلفة. كذلك اتسمت البنية التحتية لهذا المرفق الحيوي بالضعف، وظلت عُرضة للأعطال المتكررة. لا شك أن التداخل بين البنية التحتية المتهالكة والموارد البشرية المحبطة خلق تحديًا كبيرًا أمامنا». والحل؟ يقول وزير النقل الأسبق في كتابه: «وبعد دراسات وافية، علمتُ أن السكك الحديدية في مصر هي أكبر مالك للأراضي في البلاد؛ حيث كان لديها آلاف الأفدنة حول خطوط السكك الحديدية، فأسستُ شركة لاستثمار الأراضي والأصول العقارية التابعة للسكك الحديدية، وبدأنا تطوير المحطات الرئيسية للسكك الحديدية، من خلال إنشاء منافذ تجارية شبيهة بتلك المنتشرة في المحطات الأوروبية. وهكذا أُجريت تحسيناتٌ ضخمة لمحطة سكك حديد مصر في قلب القاهرة التاريخية؛ بهدف زيادة عوائدها الاستثمارية، وما زلتُ أفتخر بهذا التطوير الذي أجريته كلما رأيتها الآن أثناء عبوري كوبري 6 أكتوبر. والشيء نفسه حدث في محطة سيدي جابر بالإسكندرية. كما قُمنا بتطوير خط سكة حديد الإسكندرية- برج العرب، وطرحنا للقطاع الخاص فرصًا استثمارية في محطات الإسكندرية،والقاهرة، والجيزة، وطنطا، والأقصر، وأسوان، بهدف توفير إيرادات جديدة. ولأن مصر لم تكن تستخدم سككها الحديدية كثيرًا في نقل البضائع، فقد بدأنا استدراك ذلك، من خلال تشغيل أسطول جرارات خاص بنقل البضائع لتحقيق أرباح، وتقليل خسائر السكك الحديدية. كما عملنا على إنشاء مشروعات تجارية على الأراضي المجاورة لخطوط السكك الحديدية؛ بهدف زيادة الإيرادات. وخلال فترة عملي الوزاري، تمكنا من خفض النفقات إلى الحد الذي لم تعدْ الشبكة تتكبد فيه خسائر، وتحوّل الأداء المالي لشبكة السكك الحديدية من خسائر سنوية بالمليارات إلى نقطة التعادل بين الإيرادات والنفقات وجذب الاستثمار الخاص. لعبَ الصديق أشرف راشد، السفير المصري في إيطاليا دورًا مهمًا للغاية؛ حيث نسَّق للتعاون بين السكك الحديدية المصرية وشركة السكك الحديدية الإيطالية، والتي قامت بإرسال ثمانية من كبار الخبراء لديها؛ لمساعدتنا في مجال السلامة والإشارات الكهربائية. كما أطلقنا مبادرة لتحقيق السلامة عند مزلقانات السكك الحديدية المفتوحة. بالمجمل، قُمنا بتحديث نحو 3 آلاف عربة ركاب، مع دخول 200 قاطرة جديدة الخدمة. كذلك اجتهدنا لزيادة خطوط المترو في القاهرة، ودخول أول عربات ركاب مكيَّفة في مصر على هذه الخطوط الجديدة» (ص 116-117). يضع محمد لطفي منصور يده على مكمن الداء؛ إذ يقول: «وبطبيعة الحال، فإن الرأي العام لم يكن يرغب في دفع رسوم استخدام الطرق، أو زيادة تعريفة السكك الحديدية؛ لأن المواطن كان يتعامل معها دائمًا على أنها خدمات مجانية. وكان تغيير هذه الثقافة الاشتراكية ضروريًا بأهمية جذب الاستثمارات وزيادة إيرادات قطاعات النقل نفسها. أدركت حينها أن الموارد المحدودة والظروف الاجتماعية والاقتصادية المعقدة في الدول النامية مثل مصر تجعل تطوير الخدمات العامة أمرًا مستحيلًا» (ص 117). انتهت تجربة منصور بعد حادث قطار في العياط، لكن حصاد التجربة يستحق القراءة والتأمل.