رغم أن المثقفين والكتّاب والباحثين يدركون بامتياز الدور الذى قام به الدكتور ثروت عكاشة فى تفعيل وإنهاض الثقافة المصرية عندما كان وزيرا للثقافة، وأنشأ مؤسسات ومجلات ثقافية كبرى. وما زالت هذه المؤسسات الثقافية قائمة وفاعلة حتى الآن، منها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب سابقا، والمجلس الأعلى للثقافة حاليا، وفيه تأسست لجان للقصة وللشعر وللفنون الشعبية وللموسيقى وغيرها من لجان، وكذلك تأسست من خلال هذا المجلس مجموعة فاعليات، منها جوائز الدولة، والمؤتمرات الدولية، والندوات المحلية، وكذلك قطاع النشر الذى نشر سلسلة إبداعات مفيدة آنذاك، ولا يفوتنا أن نلفت النظر إلى أن هذه المنافع كانت مجندة لقطاعات عديدة من المثقفين، ولكن الحظوة كانت للقريبين من فلسفة الدولة، وللمنفّذين لسياساتها بشكل ما، والمتأمل للدفعات الأولى التى حصلت على الجوائز يرى أنها كانت من هذا الصف الأول الذى تأتنس إليه الدولة، ورغم ذلك فكان للمجلس الأعلى دور محورى فى الثقافة المصرية. كذلك فقد أثرى الدكتور ثروت عكاشة المكتبة العربية عبر عقود عديدة منذ الخمسينيات حتى ما قبل رحيله بشهور قليلة بمؤلفات وترجمات وافرة، منها كتابات الشاعر المهجرى جبران خليل جبران، وترجمته لكتاب فاجنر، و«مسخ الكائنات»، وغيرها من الكتابات المهمة والعظيمة. ولم تكن إسهامات عكاشة جديدة على الحياة الثقافية المصرية، رغم أنه كان ينتمى إلى القوات المسلحة، ولكنه كان يساهم بالكتابة والترجمة قبل ثورة يوليو فى كل الدوريات الثقافية المصرية، مثل مجلة «قصص للجميع»، التى كان يترجم فيها رواية مسلسلة، وقام بترجمة كتاب عن حرب العصابات، وترجم رواية قبل الثورة عنوانها «سروال القس»، لم تنشر مجددا رغم طرافتها ورشاقتها. ولكن سيظل دور ثروت عكاشة الأهم والمجهول -فى نظرى- هو إرساء دعائم وشكل ومضمون صحافة ثورة 23 يوليو، وذلك من خلال مجلة «التحرير»، التى صدر عددها الأول فى منتصف سبتمبر 1952، وترأس تحريرها فى الأعداد الثلاثة الأولى الضابط وعضو تنظيم الضباط الأحرار أحمد حمروش. ولأن أحمد حمروش كان قريبا من فرق اليسار والليبراليين فقد فتح صفحات المجلة لفئات سياسية عديدة، فكتب كامل الشناوى فى العدد الثانى مقالا عنوانه «متى يعود الجيش إلى ثكناته؟»، وكتب مأمون الشناوى فى العدد الثالث ينتقد مجلس قيادة الثورة عندما قرر تغيير شارع «فاروق» إلى شارع «الجيش المصرى»، وكتب: «فهذا الخبر إن دل على شىء فعلى أن العقلية التى أطلقت اسم فاروق على أحد الشوارع هى نفس العقلية التى تطلق اليوم اسم الجيش المصرى على نفس الشارع». وزاد الشناوى فى تفسيره قائلا: «لقد قامت حركة الجيش لتحررنا من الخوف وتجردنا من التملق وتسلحنا بالأخلاق والعمل والنظام.. قامت حركة الجيش لتحررنا من الخوف حتى من الجيش نفسه وتجردنا من التملق حتى للجيش نفسه!». وعلامة التعجب التى وضعت فى نهاية الجملة كانت من أصل المقال، وأمعن المقال فى انتقاد هذا السلوك، مما أغضب القبضة الحديدية للسلطة العسكرية، فلم تُقِل أحمد حمروش فحسب، بل وضعته فى السجن لمدة 55 يوما عقابا على هذه الملاحظات التى وردت فى المجلة، وأحضرت مكانه الضابط والكاتب والمترجم ثروت محمود عكاشة رئيسا لتحرير المجلة، وهو الأقرب إلى روح السلطة وفكرها، ولم تكن له أى علائق يسارية، ولذلك أطاح بالأخوين الشناوى وآخرين حتى يستقيم خط المجلة مع خط السلطة العسكرية. وكان ذكيا عندما نشر خبرا يقول: «اقتضى التحاق الزميل اليوزباشى أحمد حمروش بكلية أركان حرب أن حرمت مجلة (التحرير) من جهود رئيس تحريرها السابق، بعد أن أصبح الجمع بين رئاسة التحرير والدراسة العليا غير ميسر.. و(التحرير) وهى تسجل لأحمد حمروش جهوده منذ ولادتها فى 17 سبتمبر الماضى، وقدرته ووطنيته، تتمنى له أن يلازمه التوفيق فى دراسته.. وسيوالى أحمد حمروش كتاباته ل«التحرير» بقدر ما يتسع له وقته». ورغم أن عكاشة بدأ عهده فى المجلة بجملة مزاعم، أخفت الوضع الحقيقى لحمروش، ووعدت الناس بعودته، كما نفى أن يكون أحد من الناس جامعا بين وظيفتين، إلا أن المجلة قدّمت الشكل الأمثل والمضمون الأكثر اتساقا مع مسار ثورة يوليو، وظل عكاشة يكتب افتتاحية المجلة، هذه الافتتاحية التى تصلح كنموذج مثالى للمقالات التى تفيد دون مديح مفرط فى السلطة، بل هو أحيانا يوجه خطابه إلى السلطة العسكرية، سلطة الثورة، عاتبا ولائما، ففى مقال عنوانه «من ثائر إلى ثوار» يكتب: «إنما اخترت هذا العنوان لأتزود ببعض الشجاعة فى مخاطبة الجيش، وأول عتب أوجهه إليه أن حركته المباركة بنارها وسعيرها أو بنورها وهديها قد آذت أذنى الاثنتين.. اليمنى واليسر». وليس من الضرورى استكمال بقية ما كتب، فكونه يبدأ معظم ما يكتب بهذه الطريقة فهو يعطى صورة المحاور والمجادل للسلطة، وكأنه ليس متماهيا معها، وهذا هو عين الذكاء، وهذا هو الطريق الذى سارت فيه الصحافة اليوليوية فى ما بعد، وفى 3 يونيو 1952 كتب افتتاحيته تحت عنوان «كلنا.. لهذه الأرض الطيبة»، منتقدا إجراءات التفريق الفاعلة بين أبناء الشعب جميعا، فيبدأ مقاله: «لست أدرى ماذا حلّ بنا اليوم!.. هذا شيوعى، وذلك من الإخوان، والثالث بين بين، والرابع لا يدرى.. ولا أدرى أنا ماذا أريد!.. وهم جميعا على الرغم من كل ذلك مصريون، من مصر، ولمصر.. لهم حقوق، وعليهم واجبات، وفى حدود هذه الحقوق والواجبات أحب أن أخاطبهم». هكذا كتب ثروت عكاشة فى كل مقدماته الجدلية، وليست المتماهية تماما مع ما هو أعلى، لذلك لم يكمل، ففى العيد الأول للثورة تم إبعاده عن المجلة، حينما أمعن فى هذه الطريقة، ولم يصبح متطابقا تماما، بعد أن قدم نموذجا يحتذى فى الصحافة المصرية، والناطقة بلسان حال ثورة يوليو.