في قلب طيبة القديمة، وعلى الضفة الغربية لنهر النيل حيث تتعانق الرمال مع عبق التاريخ، نجحت البعثة الأثرية المصرية الكندية المشتركة بين المجلس الأعلى للآثار وجامعة أونتاريو في إعادة كتابة فصل جديد من فصول الحضارة المصرية القديمة. فبعد عقود من الغموض الذي أحاط بمقبرة Kampp 23 في منطقة العساسيف بالأقصر، تمكن علماء الآثار أخيراً من تحديد هوية صاحبها، الذي شغل منصباً رفيعاً خلال أحد أعظم عصور الدولة المصرية القديمة. ويُعد هذا الكشف الأثري المتميز خطوة نوعية في سجل التعاون المصري الدولي في مجال الآثار، حيث يُسلط الضوء على الدور المحوري الذي لعبه المسؤولون الكبار في بناء مؤسسات الدولة القديمة، ويمنحنا نافذة جديدة نطل منها على تفاصيل الحياة السياسية والدينية في عهد الرعامسة. أولاً: خلفية تاريخية عن المقبرة Kampp23 تُعد مقبرة Kampp 23 واحدة من المقابر التي تم التعرف عليها في منطقة العساسيف بالأقصر خلال السبعينات من القرن الماضي، لكنها بقيت طوال عقود بدون هوية واضحة لصاحبها، ما جعلها محل جدل واسع بين الباحثين. وتتميز منطقة العساسيف بأهميتها التاريخية كموقع دفن للنخبة من كبار المسؤولين والكهنة والموظفين في عصور الدولة الحديثة، لاسيما خلال عصر الرعامسة. ورغم أن الموقع كان معروفًا، إلا أن المقبرة لم تُفتح للدراسة المعمقة ولم تُمنح الفرصة الكافية للكشف عن أسرارها، حتى جاءت هذه البعثة المشتركة، التي استطاعت بعزيمة العلم أن تميط اللثام عن شخصية صاحب المقبرة، "آمون مس"، أحد كبار رجال الدولة في عصر الرعامسة. ثانيًا: أهمية الاكتشاف من الناحية الأثرية والتاريخية الكشف عن هوية صاحب المقبرة Kampp 23 ليس مجرد إضافة اسم لقائمة الشخصيات الفرعونية، بل هو اكتشاف يفتح أفقاً واسعاً لفهم تركيبة الدولة المصرية في تلك الحقبة. فآمون مس، الذي تبين أنه كان يشغل منصب "عمدة طيبة"، كان شخصية محورية لها حضور إداري وديني بارز، وقد حمل ألقابًا مثل "مستشار الملك"، و"الأب الإلهي لآمون"، و"رئيس خدمة المحاجر"، و"جامع الضرائب"، وهي ألقاب تدل على سعة نفوذه وتنوع مهامه. ومن شأن هذا الكشف أن يُعيد تشكيل صورة الإدارة المصرية خلال أواخر الدولة الحديثة، كما يساهم في توضيح العلاقة بين السلطة الدينية والمدنية في عهد الرعامسة، خاصة في مدينة طيبة، العاصمة الروحية والسياسية للدولة آنذاك. ثالثًا: دور البعثة المصرية الكندية جاء هذا الكشف كنتيجة مباشرة للتعاون العلمي المثمر بين الجانب المصري، ممثلًا في المجلس الأعلى للآثار، والجانب الكندي ممثلًا في جامعة أونتاريو. وقد أعرب الوزير شريف فتحي عن فخره بهذا الإنجاز الذي يُعزز من مكانة البعثات المصرية الأجنبية في مجال الاستكشاف الأثري، ويعكس حرص الدولة المصرية على دعم جهود البحث والاكتشافات التي تثري ذاكرة الحضارة الإنسانية. كما أوضح الدكتور محمد إسماعيل خالد، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، أن هذه البعثة هي أول من عمل فعليًا داخل المقبرة منذ اكتشافها، وهي التي نجحت في التعرف على صاحبها بعد دراسة دقيقة للنقوش واللقى الأثرية المكتشفة. رابعًا: تفاصيل المقبرة والتخطيط المعماري من الناحية المعمارية، تتسم مقبرة Kampp23 بتخطيط نموذجي يعكس أسلوب مقابر عصر الرعامسة، حيث تأخذ شكل الحرف T، وهو النمط الذي يتضمن دهليزًا يؤدي إلى الصالة المستعرضة، ثم إلى المقصورة الداخلية ومن ثم إلى حجرة الدفن. تُظهر بقايا الفناء المحيط بالمقبرة أنه كان مفتوحًا، تحيط به جدران من الطوب اللبن، مع وجود صرح كبير على الجانب الشرقي. وتحيط بمدخل المقبرة نيشتان منحوتتان في الجدارين، وهي عناصر معمارية ذات دلالات دينية ورمزية في المعتقدات الجنائزية المصرية. كما تحتوي المقبرة على تماثيل منحوتة في الصخر داخل الصالة المستعرضة، ما يدل على ثراء صاحب المقبرة ومكانته الرفيعة، وربما كان للمقصورة دور شعائري يرتبط بطقوس العبادة الجنائزية. خامسًا: نتائج الحفائر وتحليل النقوش من خلال أعمال الحفر، تمكن الفريق من الكشف عن نقوش وألقاب لم تكن معروفة سابقًا لصاحب المقبرة، ما سمح بربط الاسم "آمون مس" بمناصب محددة. إلا أن الجدل لا يزال قائمًا حول ما إذا كانت بعض الألقاب تعود للشخص ذاته أو لشخص آخر حمل الاسم ذاته لاحقًا. وأشار محمد عبد البديع، رئيس قطاع الآثار المصرية، إلى أن النقوش التي تم العثور عليها في أماكن متفرقة بالبر الغربي حملت ألقابًا مرتبطة ب "آمون مس"، ما يستدعي دراسة مقارنة دقيقة لتحديد إن كانت كلها تخص الشخص المدفون في Kampp23. سادسًا: أدلة على إعادة استخدام المقبرة كشف عبد الغفار وجدي، رئيس البعثة من الجانب المصري، أن بعض المؤشرات تؤكد إعادة استخدام المقبرة في فترات لاحقة. إذ وُجدت بقايا من الجص الملون الذي كان يغطي النقوش الأصلية، بالإضافة إلى ترميمات واضحة في المدخل، واكتشاف بعض تماثيل الأوشابتي التي تعود لفترات مختلفة. اقرأ أيضا| «الطوب اللبن في مصر القديمة».. اكتشاف جديد يروي حكاية منسية في منقباد مثل هذه الظواهر شائعة في البر الغربي، حيث أعادت أجيال لاحقة استخدام المقابر لأغراض دفن جديدة أو لحماية ما تبقى من النقوش، ما يمثل تحديًا إضافيًا أمام الأثريين لفصل طبقات التاريخ وفك تشابك الأحداث. سابعًا: البعد الأكاديمي والعلمي للكشف أوضحت الدكتورة كيسي كيركباتريك، رئيسة البعثة الكندية، أن العمل مستمر للكشف عن المزيد من التفاصيل المتعلقة بصاحب المقبرة، معبرة عن أملها في أن تساعد مواسم الحفر القادمة في حسم الجدل الأكاديمي حول شخصية "آمون مس"، وتأكيد إن كانت كل الألقاب تعود له أم أن بعضها يعود لأشخاص آخرين. يمثل هذا التعاون بين العلماء المصريين والكنديين نموذجًا يُحتذى به في توظيف أدوات البحث العلمي الحديثة، مثل التصوير ثلاثي الأبعاد والتحليل الطبقي، في خدمة علم الآثار المصري. ثامنًا: الأثر السياحي والثقافي للكشف لم يقتصر صدى هذا الكشف على المجتمع الأكاديمي فقط، بل امتد ليشمل قطاع السياحة الثقافية، حيث تُسهم مثل هذه الاكتشافات في تعزيز جاذبية الأقصر كوجهة عالمية لمحبي التاريخ والحضارة. كما يُعيد الكشف تسليط الضوء على منطقة العساسيف، التي باتت في السنوات الأخيرة محط اهتمام متزايد من البعثات الأجنبية، نظراً لما تحويه من كنوز أثرية لا تزال في انتظار الكشف. تاسعًا: دعم الدولة وتوجهاتها في مجال الآثار هذا الكشف يُعد شهادة واضحة على الدعم غير المسبوق الذي توليه الدولة المصرية لقطاع الآثار، سواء على مستوى التمويل أو التعاون الدولي، بما يعكس الرؤية الاستراتيجية لتعزيز مكانة مصر كمركز للتراث الإنساني. فمن خلال ترميم المواقع الأثرية، وتوفير البيئة المناسبة للبعثات، وتطوير البنية التحتية السياحية، تسير مصر بثبات نحو استعادة دورها الريادي في حفظ وإحياء حضارتها العريقة. إن الكشف عن هوية صاحب مقبرة Kampp23 لا يمثل مجرد اكتشاف أثري، بل هو تجسيد حقيقي لانتصار العلم والصبر والشغف بالتاريخ. ومن خلال الجهود المشتركة بين مصر وشركائها الدوليين، تُعاد كتابة فصول مفقودة من تاريخ الإنسان، وتُضاء شموع جديدة في ظلمات القرون. سيظل "آمون مس"، عمدة طيبة، شاهدًا على مجد دولة لم تنتهِ، بل تعود إلينا كلما لامست أيدي الباحثين ترابها الطاهر.