بقلم المستشار/ محمد عبد المجيد في مشهد سياسي معقد ومتغير، يبقى الدور المصري ثابتًا كحجر زاوية في دعم القضية الفلسطينية، متجاوزًا حدود الدعم التقليدي ليخوض معركة متعددة الأوجه تمتد من العمل الدبلوماسي المكثف في المحافل الدولية، إلى قيادة جهود الإغاثة الإنسانية عبر "شريان الحياة" في رفح، وصولًا إلى المواجهة القانونية المباشرة لفضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي أمام أعلى هيئة قضائية في العالم. على مر الحقب السياسية المختلفة، تطور الدور المصري من الدعم العسكري الذي قدمت فيه مصر تضحيات جسامًا بلغت أكثر من 100 ألف شهيد، إلى دور الوسيط المحوري وصانع السلام، وصولًا اليوم إلى استخدام "حرب القوانين" كأداة متقدمة لمواجهة الاحتلال، مؤكدةً أن التزامها تجاه فلسطين ليس مجرد ملف في سياستها الخارجية، بل هو جزء لا يتجزأ من أمنها القومي وهويتها الوطنية. ركيزة تاريخية والتزام لا يتزعزع يمتد الدعم المصري للقضية الفلسطينية إلى جذور تاريخية عميقة، فمنذ مشاركة الجيش المصري في حرب 1948 استجابةً للرأي العام العربي، مرورًا بالدعم المطلق في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي احتضن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وصولًا إلى المبادرة التاريخية للسلام في عهد الرئيس أنور السادات، ظلت القضية الفلسطينية بوصلة رئيسية للسياسة المصرية. ورغم أن اتفاقية كامب ديفيد أحدثت تحولًا في طبيعة هذا الدور، إلا أنها لم تنههِ، بل أعادت تشكيله. فمن خلالها، اكتسبت مصر وضعًا فريدًا مكنها من لعب دور الوسيط المقبول من كافة الأطراف، وهو الدور الذي أثبت حيويته في نزع فتيل أزمات لا حصر لها ورعاية جولات المفاوضات والهدن المتعاقبة. شريان الحياة في غزة وجهود الإعمار في قلب الأزمات الإنسانية المتكررة، يبرز الدور المصري كقناة رئيسية للحياة في قطاع غزة. فمعبر رفح، المنفذ الوحيد الذي لا يخضع للسيطرة الإسرائيلية المباشرة، تحول إلى شريان حيوي تتدفق عبره المساعدات وينقل عبره الجرحى. وتظهر الأرقام حجم هذا الجهد، حيث قدمت مصر في بعض الفترات ما يصل إلى 87% من إجمالي المساعدات الدولية الموجهة للقطاع. وتقود منظمات مثل الهلال الأحمر المصري والتحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي قوافل إغاثية ضخمة، مقدمة آلاف الأطنان من المواد الغذائية والطبية ومواد الإيواء. ولم يتوقف الطموح المصري عند الإغاثة، بل تجاوزه إلى التخطيط للمستقبل عبر طرح خطة طموحة لإعادة إعمار غزة بتكلفة تُقدر ب 53 مليار دولار، ترتكز على إدارة فلسطينية وترفض أي محاولات للتهجير القسري، الذي تعتبره القاهرة "خطًا أحمر". جبهة الدبلوماسية والقانون في القرن الحادي والعشرين، صقلت مصر ترسانتها الدبلوماسية، معتمدة على التحرك الفعال في الأممالمتحدة والجامعة العربية. فكانت داعمًا رئيسيًا لحصول فلسطين على صفة "دولة مراقب" عام 2012، ولعبت دورًا بارزًا في اعتماد قرار مجلس الأمن التاريخي رقم 2334 الذي أدان الاستيطان. والتحول الأبرز في الاستراتيجية المصرية هو اللجوء إلى المحافل القانونية الدولية. ففي مرافعاتها الأخيرة أمام محكمة العدل الدولية، قدمت مصر ملفًا قانونيًا متكاملًا يفضح الانتهاكات الإسرائيلية الممنهجة، من الحصار والتجويع إلى التمييز العنصري، مؤكدةً عدم شرعية الاحتلال وممارساته التي تهدف إلى تصفية القضية. هذا التوجه نحو "القانون كأداة نضال" يمثل جبهة جديدة ومهمة في المواجهة، تهدف إلى بناء إجماع دولي لمحاسبة إسرائيل. وسيط السلام ووحدة الصف لطالما كانت القاهرة الوجهة الأولى لجميع الأطراف عند اندلاع أي مواجهة، حيث نجحت مصر مرارًا في التوسط لإبرام اتفاقيات لوقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، بالتعاون مع شركاء دوليين وإقليميين. وفي موازاة ذلك، تبذل مصر جهودًا مضنية ومستمرة لرأب الصدع الفلسطيني، إدراكًا منها بأن الانقسام الداخلي هو أكبر عقبة أمام تحقيق أي تقدم. ومن "إعلان القاهرة 2005" إلى المحادثات المستمرة بين حركتي فتح وحماس، تواصل مصر رعايتها للحوار الفلسطيني بهدف الوصول إلى حكومة وحدة وطنية قادرة على تمثيل الشعب الفلسطيني بأسره. توازنات معقدة ومستقبل الدور المصري لا شك أن الدور المصري محفوف بالتحديات، فهو يتطلب توازنًا دقيقًا بين الالتزام القومي تجاه فلسطين، والحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل، والعلاقات الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة، وضمان أمنها القومي في سيناء. ورغم الانتقادات التي قد توجه إليها أحيانًا، والقيود التي تفرضها التعقيدات الجيوسياسية، يظل الدور المصري حيويًا ولا غنى عنه. فمصر، بحكم تاريخها وجغرافيتها وثقلها الإقليمي، تواصل تحمل مسؤوليتها في السعي نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وفضح ممارسات الاحتلال، مستندة إلى إرث طويل من الالتزام ومواجهة مستمرة لتعقيدات الصراع، مؤكدةً أنها ستبقى درع فلسطين وسيفها في معركة الحق الطويلة.