تستحق كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسى فى القمة العربية بالعراق أن نتوقف عند دلالاتها طويلًا، وأن نتعامل مع معانيها بميزان حساس، لأن توقيتها يتزامن مع متغيرات إقليمية ودولية ضاغطة على مصر والمنطقة، ورغم ذلك جاء صوت الرئيس عاليًا منحازًا من قلب بغداد عاصمة الرشيد للحق الفلسطينى، تحمل من معانى الفروسية والشرف الكثير، وتؤكد للجميع أن أحلام إسرائيل التوسعية والمبنية على ضعف العرب لن تمر، وأن اتفاقات التطبيع مع الدول العربية لن تكون بديلًا عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية. اقرأ أيضًا| القمة العربية ال 34| الرئيس السيسي: آلة الحرب الإسرائيلية دمرت كل شيء في غزة حديث الرئيس كان واضحًا فى مقاصده، ولذلك شق طريقه سريعًا إلى قلوب وعقول ملايين العرب، وصنع حالة إيجابية حقيقية لدى البسطاء ورواد وسائل التواصل الاجتماعى، مؤكدًا للجميع صلابة ورسوخ الموقف المصرى الداعم للحق الفلسطينى والمتمسك بثوابت موقفها الداعم للقضية الفلسطينية وحل النزاع فى الشرق الأوسط عبر معادلة واضحة، تُغلب قرارات الشرعية الدولية على مخططات حكومة بنيامين نتنياهو وجنرالات تل أبيب. حالة الانتباه لحديث الرئيس حول التمسك بالدولة الفلسطينية باعتبارها الحل العادل والنهائى للأزمة فتحت الباب أمام مراجعاتٍ عديدة حول حقيقة ما كان يُشاع حول تراجع الدور المصرى عقب توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية ودور تنظيم الإخوان الإرهابى وضلوعه فى عمليات التشويه المنهجية للدور المصرى المساند للحق الفلسطينى منذ تفجر الأزمة فى بدايات القرن الماضى، ومحاولة التنظيم الإرهابى تقديم نفسه باعتباره داعم المقاومة، وهو ما تسبب فى أزماتٍ عصفت بالحق الفلسطينى وانتهت باحتلال إسرائيل لمزيد من الأراضى. اقرأ أيضًا| ستبقى مصر بوحدة شعبها وبسالة جيشها ورعاية ربها عزيزة النفس شديدة البأس تعرضت مصر لحملات تشويه وتشكيك إخوانية وإقليمية رهيبة ومستمرة، كادت أن تؤثر على العقل الجمعى العربى، ووسوست أذرعها الإعلامية بأن الدور القيادى أصبح تابعًا أو اختفى، ثم أشاعت أن إسرائيل تتحكم فى القرار المصرى، والحقيقة أن الجماعة الإرهابية خدمت إسرائيل بمحاولات تشويه الدور المصرى ومحاولة إضعافه، ومهدت أمامها الطريق للتحلل من التزاماتها المترتبة على عملية السلام والتحرك دون قيود فى ظل استهداف أبواق التنظيم وأعوانه بمهاجمة مصر والتطاول على مكانها ومكانتها. من شيم الكبار الترفع عن الصغائر وترك الأحداث والمواقف الحقيقية لترد على المشككين، وفى تقديرى التزمت مصر بذلك المنهج فى التعامل، وقررت أن يكون ردها هو ممارسة دورها بفاعلية ودون مواربة، فهى لا تدعم الحق الفلسطينى فقط، بل تقوم بحشد دولى للاعتراف بالدولة الفلسطينية تنفيذًا لقرارات الأممالمتحدة، وخلال أعوام الأزمة الأخيرة وضعت مصر مجموعة من الثوابت، التى لم تتراجع عنها يومًا خلال تلك الأزمة مهما كانت الضغوط والتهديدات. قالت مصر بشجاعة «لا» خمس مرات هى: 1- لا لتهجير الفلسطينيين قسريًا من أراضيهم. 2- لا لتصفية القضية الفلسطينية والتمسك بقرارات الشرعية الدولية. 3- لا للاعتداءات الإسرائيلية على الضفة الغربية ورفض توسع الاستيطان بها. 4- لا للتوغل الإسرائيلى فى قطاع غزة. 5- لا لسياسة التجويع وحصار الأشقاء فى القطاع المنكوب. تمسك مصر بالحق الفلسطينى رغم المتغيرات الإقليمية والدولية نابع من رؤية مصرية مبنية على الخبرة الطويلة فى الصراع العربى - الإسرائيلى، وهى أن سلام العدالة هو ما يمكن التعويل عليه لإنهاء هذا الصراع، ذلك السلام المبنى على قرارات الشرعية الدولية، وهو التزام قانونى على الطرفين، ويمثل حجر الأساس لأى مفاوضات تبدأ بين الطرفين. اقرأ أيضًا| أستاذ علوم سياسية: الرئيس السيسي بعث برسائل مهمة من الأكاديمية العسكرية تُعلى مصر من شأن العدالة، وتختار دائمًا الانحياز لها، وهى عقيدة مصرية فى كل تعاملاتها الدولية، فهى لا تبحث عن مكاسب فى عالم أصبحت فيه المواقف السياسية عرضة للتلاعب، ولذلك كانت هى الوسيط النزيه بين الأطراف المتصارعة فى أى نزاع دولى، وهو أمر صعب، وقد يكون سببًا للاستهداف والتضييق، ومع ذلك لم تتراجع مصر لحظة عن انحيازها العقائدى للعدالة. وكما تتمسك بثوابتها تتمسك أيضًا بشركائها فى العمل على التهدئة، وكانت إشارة الرئيس واضحة فى الإشادة بجهود الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» فى التوصل إلى اتفاق التهدئة فى يناير الماضى، الذى أجهضته إسرائيل بهجومها العسكرى على القطاع، وكذلك الإشادة بالتنسيق مع قطر والولايات المتحدة، شريكيها فى الوساطة، التى نجحت مؤخرًا فى إطلاق سراح الرهينة الأمريكى الإسرائيلى «عيدان ألكسندر». لا يتوقف الدور المصرى المساند على القضية الفلسطينية فقط، ولكن يمتد لكل الملفات الساخنة فى المنطقة، ففى الملف السورى أكدت مصر دعمها للشعب السورى وأهمية أن تكون العملية السياسية خلال الفترة الانتقالية شاملة وغير إقصائية، مع استمرار جهود مكافحة الإرهاب، ورفض أى مظاهر للطائفية أو التقسيم، وإدانة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على السيادة السورية، وضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضى السورية المحتلة، واحترام سيادة سوريا ووحدة أراضيها. وفى ليبيا والسودان تدعم مصر الشعبين، وتشدد على الحل السياسى للنزاعات دون تدخل مباشر، وهى مواقف تنطلق من دور مصرى باحث عن إسكات البنادق ودعم الاستقرار. اقرأ أيضًا| خبير سياسي يثمن تشديد الرئيس السيسي على «هوية القدس» بالقمة العربية فى كتابه «شخصية مصر: دراسة فى عبقرية المكان» قدم الدكتور جمال حمدان تحليلًا عميقًا للدور المصرى، من خلال مفهوم «عبقرية المكان»، حيث يرى أن مصر ليست مجرد موقع جغرافى، بل كيان حضارى متكامل تشكّل عبر التاريخ، وكانت نقطة تلاقٍ وتفاعل بين الهوية الوطنية والقومية العربية، وبين التنوع الطبيعى والبشرى والحضارى، لأن مصر كانت وما زالت مركزًا إشعاعيًا بين العرب والأفارقة، مما يجعلها قوة حضارية عربية وعالمية. ذلك الدور فى تقديرى يتطور مع اختلاف الأزمنة والعصور، وصولًا للعصر الحالى، الذى اختفت فيه الدول ذات السيادة، وأصبح الصراع والنزاع الداخلى هو السائد فى منطقتنا العربية، فى ظل وجود جماعة إرهابية تتلاعب بالدين، وتجد دعمًا غير محدود من قوى دولية، مكنتها من هدم دول المنطقة دون أفق للبناء أو العودة، مَن استسلم للهدم تحت مزاعم التغيير والإصلاح المزيفة وجد نفسه عالقًا ومطلوبًا منه تقديم تنازلات فجة ومؤلمة من أجل اكتساب الاعتراف والشرعية، وهى أيضًا بعيدة المنال مهما قدم من تنازلات، فغياب الدولة والمؤسسات القوية لا يُعوض، والهدم بلا بناء سليم معناه دوران فى حلقة مفرغة من الأزمات والاقتتال الداخلى. بلا مواربة، لا تلعب مصر دورًا، بل تجسد صوت الضمير الحى الصادح بمطلب العدالة للجميع، والتذكير بأن الحقوق لا تضيع، وأن الأمل معقود فى التعاون من أجل التهدئة فى غزة، ثم إعادة الإعمار دون تهجير وفق الخطة المصرية، التى حصلت على تأييد عربى، ثم تحولت لخطة عربية، يمكن البناء عليها لصنع السلام الحقيقى القائم على العدالة والقابل - دون غيره - للحياة. خاطب الرئيس الزعماء والرؤساء والعالم أجمع من قلب بغداد، وقال نصًا: «حتى لو نجحت إسرائيل فى إبرام اتفاقيات تطبيع مع جميع الدول العربية، فإن السلام الدائم والعادل والشامل فى الشرق الأوسط سيظل بعيد المنال، ما لم تقم الدولة الفلسطينية، وفق قرارات الشرعية الدولية» وذلك هو الحل الوحيد ونقطة البداية فى سلام العدالة. تفاعل الشارع المصرى والعربى مع كلمة الرئيس، التى تصدرت محركات البحث ووسائل التواصل الاجتماعى، وصنعت حالة من الفخر بموقف مصرى منحاز للعدالة ومنصف للحق الفلسطينى.