اليوم تعيد مصر كتابة التاريخ بأدوار مشرفة، سيتوقف أمامها الزمن طويلا وينحنى، تنحاز للحق والحقيقة لا عبر شعارات ودغدغة للمشاعر، بل عبر سياسة واقعية تجمع ولا تفُرق، تبنى ولا تدمر، توازن دون أن تتنازل أو تتخاذل. لعقود طويلة زعمت إسرائيل أنها لم تكن مسئولة عن خروج الفلسطينيين من أراضيهم إبان حرب 1948، وأن خروج مئات الآلاف من أبناء الشعب المغلوب على أمره كان استجابة لدعوات قادة محليين وزعماء عرب آنذاك لإخلاء الأرض تمهيدا للحرب التى أعقبت قرار تقسيم فلسطين عام 1947. ظلت تلك الكذبة - للأسف الشديد - تجد رواجا فى المحافل الدولية والأكاديمية، واستطاعت إسرائيل بجهد دعائى ممنهج أن توفر لتلك الافتراءات حضورا واستمرارا، أولا لكى تتخلص من المسئولية القانونية والأخلاقية عن التهجير القسرى للشعب صاحب الأرض، لكن الأهم أنها أرادت التنصل من الالتزام بحق الفلسطينيين فى العودة إلى أراضيهم ماداموا - وفق الدعاية الصهيونية - قد خرجوا طواعية!! بقيت تلك الأكاذيب ذائعة ومنتشرة فى قطاع كبير من دول العالم، ونجحت تل أبيب فى أن تشغل كثيرا من المهتمين بالقضية فى الاستغراق فى تفاصيل إثبات عكس ما روجت له على مدى عقود، حتى جاء عدد من الباحثين الإسرائيليين ممن أطلق عليهم حركة «المؤرخين الجدد» ليعترفوا بزيف مزاعم العصابات الصهيونية، وحجم ما ارتكبته تلك العصابات من جرائم بعضها موثق، وأغلبها لم تسعف أدوات العصر فى ذلك الزمن فى توثيقه. أثبتت دراسات «المؤرخين الجدد» الذين تطاردهم إسرائيل أن الهدف الأول من تلك المذابح التى ارتكبتها العصابات الصهيونية هو دفع الفلسطينيين إلى النزوح من قراهم وأراضيهم لإخلاء الأرض للمستوطنين الذين استمر جلبهم من دول أوروبا وبعض الدول العربية وأمريكا اللاتينية والحبشة وغيرها، ليحلوا قمعا وقهرا وقسرا محل أصحاب الأرض، فى واحدة من أخزى جرائم التاريخ. تلك العصابات الصهيونية كانت هى الأساس الذى بُنى عليه جيش الاحتلال الإسرائيلى، وكان هؤلاء المجرمون الأوائل هم القدوة لأجيال تالية من المجرمين الذين باتوا يتنافسون ويتفننون فى قتل الفلسطينيين والعرب، لذا بقيت تلك العقيدة الإجرامية وجينات ارتكاب المذابح البربرية هى الإرث الأسود الذى تتناقله أجيال متعاقبة من زمن عصابات الأرجون وشتيرن والهاجاناة إلى عصر بنيامين نتنياهو وبن غفير وسموتريتش!! ■■■ لذلك عندما يسمع العالم صوت مصر، ويتابع باحترام وتقدير بالغين مواقفها الرسمية والشعبية لمساندة القضية الفلسطينية، ورفضها القاطع لتهجير الشعب الفلسطينى واقتلاعه من أرضه، فإن مصر - أكبر دولة عربية وصاحبة الرصيد الأوفى والأكبر فى تحمل عبء القضية الفلسطينية على امتداد تاريخها - تقطع كل السبل أمام المتلونين والمتاجرين والمضللين (بفتح اللام وكسرها) الذين يحاولون محو التاريخ والتلاعب بالعقول فما حدث فى النكبة لايمكن تكراره، ومحاولات الخداع والتزييف الاسرائيلية الراهنة لم تعد تنطلى على أحد. الموقف المصرى لم يكن أبدا مجرد رد فعل للأزمة الحالية التى تعيشها القضية الفلسطينية، بل هو موقف لوجه الله والإنسانية وللتاريخ، فتسجيل هذا الموقف وتأكيده المستمر والذى لم يتراجع أو يتزعزع هو ذاته الموقف منذ عقود، وهو أيضا إعلان متجدد على أن القضية الفلسطينية لم تمت، ولو أراد البعض فى المنطقة وخارجها ذبحها بسكين القتل والتهجير القسرى حينا وبأنصال الفُرقة والفتنة والتخاذل أحيانا عدة. الموقف الذى تتمسك به مصر وتؤكد عليه دائما، هو تجسيد لمقولة الرئيس عبد الفتاح السيسى الخالدة بأننا «ندير سياستنا بشرف فى زمن عز فيه الشرف»، ويا لها من عبارة تحمل من التمسك بالضمير الإنسانى والالتزام الوطنى والقومى بقدر ما تحمل من الألم لما آلت إليه أمور المنطقة والعالم وتحولاته التى باتت عبثية وجنونية فى كثير من الأحيان. ولعل خطاب الرئيس السيسى أمام القمة العربية فى بغداد أصدق تعبير وأوثق تأكيد على تمسك مصر بمبادئها وثوابتها، بعيدا عن الضغوط والتحولات، وهو موقف يليق بقيمة مصر وقيمها، ويليق بقدرِ زعيم مصر وقدَره، فما كانت مصر يوما إلا عنوانا للكرامة والتمسك بالحق واحترام المبادئ. وقد كان لى الشرف أن أتابع خطاب الرئيس أمام القمة من قلب العاصمة بغداد، كل العيون ترنو نحو زعيم مصر وموقفه، فى وقت يدرك فيه الجميع أن بوصلة الموقف العربى تواجه اضطرابا، فإذا بالقائد الذى حمل روحه على كفه ذات يوم حماية لوطنه ودفاعا عن شعبه، يعيد توجيه تلك البوصلة نحو مسارها الصحيح، ويبث النبض مجددا فى القلب العربى المتوجس، ويجدد شحن الروح العربية العزيزة التى تصور البعض أنها تخبو تحت وطأة الخذلان. لامست أعناقنا السماء، ونحن نستمع إلى إعجاب المتابعين للكلمة من دبلوماسيين وإعلاميين من شتى الأقطار العربية الشقيقة، يشيدون بكلمة مصر وبموقف زعيمها، ويرددون عبارة واحدة بلهجات شتى: هذه مصر التى نعرفها. ■■■ مواقف مصر ودعمها لكل الأشقاء من المحيط إلى الخليج ليست بجديدة، لكن المحن التى تعصف بوطننا العربى جعلت من تلك المواقف الثابتة والراسخة طوق النجاة الذى يتشبث به الخائفون على مستقبل المنطقة، فما دامت مصر بخير، فالوطن العربى سيكون بخير، ومادامت القاهرة واقفة على قدمين ثابتتين فستمر العواصف مهما تعاظمت - بحول الله - مر السحاب. هذه هى حكمة التاريخ الذى يريد البعض أن نتناساه، وهذه هى خبرة الأيام رغم محاولات البعض أن ينتزع الزمن من سياقه، فيدفعنا إلى الانكفاء على ظلمات اليوم، دون أن نبصر كيف استطاعت مصر فى كل وقائع الدهور السابقة أن تستنقذ المنطقة من براثن الهزيمة والمصير المجهول، لتستعيد النور والانتصار فى أحلك لحظات الظلام والانكسار. اليوم تعيد مصر كتابة التاريخ بأدوار مشرفة، سيتوقف أمامها الزمن طويلا وينحنى، تنحاز للحق والحقيقة لا عبر شعارات ودغدغة للمشاعر، بل عبر سياسة واقعية تجمع ولا تفُرق، تبنى ولا تدمر، توازن دون أن تتنازل أو تتخاذل. تدرك مصر وقيادتها أن الزمن من حولنا يتغير، وأن لكل موقف ثمنا علينا أن نتحمله، لكن القاهرة التى كانت دائما سندا وملاذا لكل مظلوم أو مستجير، اختارت أن تتحمل بشجاعة مسئولياتها وتعلى من ثوابتها وواجباتها تجاه شعبها وأمتها، وأن تفعل ما تراه صائبا بوضوح وشفافية، وهو أمر - لو تعلمون عظيم، بعدما بات من الصعب فى عالم اليوم أن تتخذ موقفا واضحا وتلتزم بسياسات صريحة لا تعرف تلك الازدواجية بين ما يدور فى الغرف المغلقة وبين مايجرى خارجها، ولا تجيد أن تقول أمام الكاميرات عكس ما تفعله من ورائها. ■■■ هكذا هى مصر التى اختارها القدر لكى تكون «سدا عاليا» فى وجه الفتن التى تعصف بالمنطقة، وأن تبقى حصنا لشعوب أجبرتهم تقلبات الزمن على أن يدفعوا ثمنا فادحا من دمائهم واستقرارهم، وأن يفقدوا كل واقعهم ونصف مستقبلهم فى «مؤامرات ومقامرات» لا ذنب لهم فيها. لم تتوان مصر عن دعم كل الأشقاء فى فلسطين والسودان والعراق ولبنان وليبيا والصومال وسوريا واليمن وغيرها، وهى فى ذلك لا تمُنّ على أحد أو تتاجر بما تقوم به، بل تفعله بحب وتواضع يليقان بشقيقة كبرى تدرك مسئولياتها وتحترم التزاماتها ولا تفرط فى واجباتها. تدرك مصر بحكم مكانها ومكانتها، حقائق الأمور وجوهر القضايا، فلا تجدها تنجرف وراء المعارك الفرعية، ولا تنساق خلف مهاترات تعلم أنه لا طائل من ورائها سوى التشتيت وصرف الأنظار عن لب الحقيقة، لذلك فهى تؤمن بأنه لا سلام ولا استقرار إلا بعدالة حقيقية فى منطقة ذاقت من الظلم الكثير. وتؤمن القاهرة إيمانا راسخا بأن أولى قواعد العدالة هى احترام الحقوق، لذلك كان موقفها الثابت والتاريخى بدعم حق الشعب الفلسطينى فى بناء دولته المستقلة والقابلة للحياة على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدسالشرقية، وأن الطريق الوحيد لاستقرار المنطقة يمر عبر بوابة الدولة الفلسطينية حتى لو أبرمت إسرائيل اتفاقيات للتطبيع مع جميع الدول العربية، وهو الموقف الذى أعلنه الرئيس السيسى بصوت واثق وإيمان مطلق من قلب قمة بغداد، وكان موقفا للتاريخ، وتجسيدا لخلاصة تجربة دولة عرفت طريق الحرب وانتصرت فيها، واختارت طريق السلام ونجحت فى الالتزام بخيارها بنفس القدر الذى ألزمت به الطرف الآخر. ■■■ لن تجد فى مواقف مصر وخطابها السياسى وجهين، فكل ما تقوله وتفعله لا يعرف سوى انحيازاً للعمران فى وجه الخراب، وللاستقرار فى مواجهة الدمار، وللتسامح والالتئام فى مواجهة التطرف والانقسام. لن تجد من قيادة مصر سوى تمسك بقوة المنطق بديلا عن منطق القوة، انتصارا للدولة ومؤسساتها فى مواجهة الفوضى وميليشياتها. هذا الالتزام الحاسم، وهذه المواقف الشجاعة لا تأتى إلا من قيادة تعرف دورها .. وتدرك مسئولياتها.. تدقق فى دراسة خياراتها وتتوكل على ربها مستندة إلى تماسك والتفاف شعبها، وقوة وبسالة جيشها. نحن مدينون بشكر عميق للرئيس عبد الفتاح السيسى الإنسان والقائد، ليس فقط لأنه يجسد قيمة مصر وعظمة دورها ورسالتها، ويجعل كل مصرى يفاخر بمواقف وطنه، لكن أيضا لأنه شريف فى زمن عز فيه الشرف.