أكثر من 50 ألف قطعة تحتاج كل واحدة منها إلي أن تقف أمامها بالساعات متأملًا متدبرًا ما تعنيه من رمزية وقيمة، وتستحق أن تُكتب عنها مئات الصفحات لنروى بعضًا من جمالها وقيمتها، وهذه القطع النادرة تجاورها منتجات التقنية الحديثة التى تم توظيفها بأناقة لافتة لتقدم لرواد المتحف بعضًا من حكايا الماضى العريق . عندما زارت أم كلثوم العاصمة الفرنسية باريس لإحياء إحدى حفلاتها الخالدة، سألوها عما حرصت على مشاهدته فى عاصمة النور، فأجابت بتلقائية آسرة: المسلة المصرية فى ساحة الكونكورد، فأعادوا سؤالها باندهاش: لماذا؟! فأجابت بتلقائية تليق بمصرية أصيلة: لأنها بتاعتنا! هكذا المصرى دائمًا عندما يقف أمام آثار بلده فى أي مكان، يشعر بالانتماء لكل حجر ونقش وجدارية.. يحس أنه ينتمى إلى ذلك المجد القديم، وأن جزءًا من روحه تمت بصلة إلى تلك الحضارة التى يقف العالم إلى اليوم أمامها مبهورًا. لا أعرف أى بؤس كانت ستعانيه متاحف العالم الكبرى لو لم تكن الحضارة المصرية القديمة قد أشرقت على الأرض؟! فأكثر من مليون قطعة أثرية مصرية تزدان بها قاعات المتاحف فى أكبر 40 متحفًا فى عواصم العالم، وهذا هو العدد الذى نعرفه وموثق، وربما هناك أضعاف ذلك الرقم لا تزال طى الكتمان، يتسرب بعضها من حين إلى آخر إلى صالات المزادات، وتفلح المسارات القانونية حيناً فى استعادتها، وتفشل فى أحيان أخرى. ولا تزال الكتب التى تروى أسرار الحضارة المصرية القديمة ضمن الأكثر مبيعًا فى مختلف أنحاء العالم، سواء كانت تلك الكتب تحوى دراسات علمية جادة من تراث علم المصريات، أو حتى تخاريف من بعض ال «مهاويس»، وفى الحالتين هذا الرواج دليل على مدى جاذبية الحضارة المصرية، والرغبة العارمة لاكتشاف أسرار تلك الحضارة العظيمة. ■■■ زيارتى الأولى للمتحف المصرى الكبير جاءت قبل يومين بدعوة كريمة من وزير السياحة والآثار، شريف فتحي، وقد بات المتحف يشغل العالم حتى قبل افتتاحه، ولا تكاد مطبوعة فى أرجاء الأرض تخلو من خبر أو تقرير بشأنه من حين إلى آخر، ترقبًا لحدث افتتاحه فى 3 يوليو المقبل، والذى ينتظر الجميع أن يكون امتدادًا للإبهار الذى أحدثته مناسبات مصرية سابقة، مثل: موكب نقل المومياوات، وتدشين الهوية البصرية وافتتاح تطوير طريق الكباش بالأقصر. على مدى أكثر من 4 ساعات، دار حوار مستفيض بين وزير السياحة والآثار وبين ما يربو على 50 من رؤساء تحرير ومجالس إدارات الصحف والمؤسسات الإعلامية القومية والخاصة، تحدث الوزير الذى يمتلك قدرات اتصالية تُحسب له، ومهارة فى طرح أفكاره بوضوح، واستمع كذلك إلى عشرات الأسئلة والمداخلات والمقترحات، وكان حريصًا على مناقشة مختلف وجهات النظر بشفافية وموضوعية تعكس ثقة بالنفس وانفتاحًا إيجابيًا يمكّنه من حل المشكلات بطريقة فعالة. توقفت أمام العديد من أفكار الوزير قبل تصريحاته، وبخاصة قوله «ما لا يمكن قياسه، لا يمكن إدارته»، شعرتُ أننى أمام عقلية منظمة، واقعية، لا يهوى التنظير، بل التعامل بواقعية مع المشكلات والحلول. الرؤية التى طرحها الوزير وتتضمنها استهداف الوصول إلى رقم 30 مليون سائح خلال السنوات الخمس المقبلة، رؤية طموحة، والعمل من أجل تحقيقها يجرى بنجاح، رغم ما تعانيه منطقتنا من اضطرابات وتحولات، تضع قيودًا وضغوطًا على أى صانع سياسات أو متخذ قرار بشأن تصوراته للمستقبل، لكن التفاؤل والأمل دائمًا موجود طالما توجد الرؤية والعمل المناسبان. ■■■ توقفتُ كذلك أمام الفكرة التى طرحها الوزير شريف فتحى بشأن استثمار التنوع السياحى والحضارى الذى تمتلكه مصر، وربما لا توجد دولة فى العالم لديها كل هذا الثراء والتنوع فى المنتج السياحي، فلدينا سياحة الآثار والسياحة الشاطئية والبيئية والمغامرات والمؤتمرات، فضلًا عن «السياحة الروحانية»، والمصطلح هنا للوزير نفسه وله الحق فى تحفظه على مسمى السياحة الدينية، فما تمتلكه مصر من «ثروة» فى المقدسات لأتباع الديانات الثلاث يجعلها قبلة لكل محبى تراث الأديان، سواء من أتباع تلك الديانات أو من غيرهم. وأتصور أن التركيز على «السياحة الروحانية» يمكن أن يكون رافدًا هائلًا للسياحة فى مصر بما تمتلك من آثار يندر أن تجتمع فى بقعة من بقاع الأرض غير مصر، فمن المعابد والكنائس والمساجد الكبرى، إلى مسار العائلة المقدسة ومقابر الصحابة والأولياء، إلى مشرع التجلى الأعظم فى سانت كاترين، كلها مناطق تحظى بالتقدير وربما التقديس لدى أتباع كل الديانات، ويمكن إذا ما أحُسن ترويجها، واستطاعت شركات السياحة المصرية والدولية استثمارها أن تقدم منتجًا سياحيًا فريدًا وخارج المنافسة، يستقطب عشرات الملايين من الزوار. ولعلنى أهمس فى أذن وزير السياحة وكل صناع السياحة المصرية، أن يكون المنتج السياحى المصرى قابلًا للتسويق داخليًا بموازاة تسويقه خارجيًا، فالسياحة الداخلية ينبغى أن تكون لها مكانة على أجندة أولويات صناع السياحة فى مصر، فيجب ألا يظل السائح المصرى فى أولوية متأخرة دائمًا، تلجأ شركات السياحة والفنادق إلى استدعائه واسترضائه عندما يقل التدفق الخارجي، بل ينبغى أن تكون هناك برامج سياحية خاصة بالأسر المصرية، تتوازى مع برامج الترويج الخارجية. نعم، جذب السائح الأجنبى مهم لتوفير موارد اقتصادية بالعملات الأجنبية، لكن السائح المصرى أيضًا يمكن أن يمثل قيمة مضافة للمقاصد السياحية المختلفة، طالما توافرت أمامه البرامج المناسبة والأسعار الملائمة، ويمكن التنويع فى المقاصد والتوقيتات المختلفة لضمان تدفق سياحى من الداخل والخارج على مدار العام. ويمكن كذلك أن تكون تلك البرامج المُوجهة لتنشيط السياحة الداخلية بديلًا جيدًا لتلك المقاصد التى لا تجد حضورًا كافيًا على مسارات الترويج الخارجي، وربما هذا ما حرصت على تأكيده خلال اللقاء لوزير السياحة والآثار، الذى أشار إلى أن الوزارة لا تطرح البرامج السياحية فهذه مسئولية الشركات فى المقام الأول، لكن يمكن بالطبع للوزارة تقديم الحوافز المُشجعة لهذا النهج. ■■■ الجولة داخل أروقة المتحف المصرى الكبير أكثر من مدهشة، فالتجول بين هذا الكم الهائل من المقتنيات من آثار الحضارة المصرية القديمة، والمعروضة ضمن سيناريو متحفى مدروس بعناية، تملأ قلبك بالفخر، وتدفع عقلك إلى طرح مئات الأسئلة حول أسرار عظمة تلك الحضارة الخالدة، والأهم - فى تقديرى- حول تلك القيم التى مثلتها حضارة أجدادنا عبر كل هذه القرون ومنحتها هذا الخلود. مدخل المتحف يستقبلك برحابة مقصودة، تهيئك للرحلة عبر الزمن، تفسح أمامك المجال لكى تهدأ روحك، وتنفصل عن الوجود الصاخب الذى تخلفه وراء ظهرك، لتستقبل المسلة المعلقة، التى ظلت قاعدتها خافية عن الأعين لأكثر من 3500 عام، لكنها تبوح اليوم بسرها لزوار المتحف المصرى الكبير، لتكون أول مسلة معلقة فى العالم. واجهة المتحف تحفة معمارية فى حد ذاتها وتحمل دلالات لا تخطئها العين، فهى مصنوعة من خامات محلية وبأيادي عمال مصريين، وبرخام مجلوب من سيناء، ليؤكد الأحفاد أنهم قادرون على استكمال درب البناء والعمران ومواصلة الإبداع الذى بدأه الأجداد على مدى آلاف السنين. فى بهو المتحف الكبير، يستقبلك الملك رمسيس الثانى بشموخ يلقى فى القلب مهابة واحترام يليقان بواحد من أعظم ملوك الأرض، يقف رمسيس الثانى ناظرًا بقوة نحو الأفق الممتد، مستقبلا ضيوفه، فهو أول من وصل إلى هذا الموقع الفريد، بعدما أكمل رحلة انتقاله الثانية قبل نحو 20 عامًا من ميدان باب الحديد بوسط القاهرة، الذى لم يستطع المصريون فى حضرة ذلك الملك إلا أن يطلقوا - شعبيًا - اسمه على الميدان، فصاروا وإلى اليوم يسمونه ميدان رمسيس، حتى بعدما غادر الملك قاعدته الجرانيتية ورحل إلى مسكنه الجديد. الصعود على «الدرج العظيم» رحلة فريدة عبر الزمن، تتوقف أمام كل قطعة، تتأمل ما تركته أنامل الأجداد من رسائل ظاهرة وباطنة، تشى بعظمة هذا الوطن فى كل العصور، وبقدرته على كتابة التاريخ فى كل مراحله، وصياغة ضمير الإنسانية بقيم يفتقدها عالم اليوم ،فقد كانت تلك القيم المصرية تعلى من السلام واحترام الآخر وحب الخير استعدادًا للرحلة نحو العالم الآخر. فى نهاية «الدرج العظيم» تجد نفسك أمام الأفق الفسيح لهضبة الأهرامات، فى مشهد بانورامى لأهرامات الجيزة الثلاثة التى تطل على المتحف فى وقفتها الشامخة وصمودها الأسطورى أمام الزمن، وكأنها تنظر من عليائها إلى تلك الحضارات والقيم المُصطنعة التى أنهكها الدهر ووارتها السنوات، أو تلك الإمبراطوريات المُستحدثة التى تملأ عالمنا اليوم ضجيجًا وصخبًا زائفًا، بينما تقف الأهرامات المصرية منذ آلاف السنين بوقار ترنو نحو الأبد. ■■■ أكثر من 50 ألف قطعة تحتاج كل واحدة منها إلي أن تقف أمامها بالساعات متأملًا متدبرًا ما تعنيه من رمزية وقيمة، وتستحق أن تُكتب عنها مئات الصفحات لنروى بعضًا من جمالها وقيمتها، وهذه القطع النادرة تجاورها منتجات التقنية الحديثة التى تم توظيفها بأناقة لافتة لتقدم لرواد المتحف بعضًا من حكايا الماضى العريق، وتمنحهم فرصة لالتقاط الأنفاس ليواصلوا الرحلة عبر الزمن فى رحاب مجد المصريين المتجدد. المتحف المصرى الكبير، ليس مجرد مكان لعرض بعض مقتنياتنا الأثرية، لكنه قيمة وطنية تجدد إحساسنا وفخرنا بمصريتنا وهويتنا ذات الجذور الضاربة فى أعماق التاريخ، وتأكيد على أن «الجمهورية الجديدة» بكل ما تنجزه وتسعى لتحقيقه مستقبلًا، هى امتداد لتلك الحضارة وشجرة وارفة أصلها ثابت وطموحها وأحلامها لكل المصريين فى السماء.