في عالم تتسارع فيه خطوات التحول نحو الطاقة النظيفة والتصنيع المستدام، تبرز الحفازات الصناعية كأحد الأعمدة الخفية التي تقوم عليها صناعات العصر الحديث. . ورغم أهميتها البالغة، لا تزال دول عدة، من بينها مصر، تعتمد اعتمادًا شبه كلى على استيراد هذه المادة الحيوية، ما يفتح الباب أمام تساؤل جوهري: متى تبدأ مصر خطواتها الجادة لتوطين هذه الصناعة الاستراتيجية؟ والحفازات الصناعية ليست مواد عادية، بل هى «العقول الكيميائية» التي تُسرع التفاعلات الصناعية دون أن تستهلك، وتدخل في أكثر من 80% من العمليات الكيميائية حول العالم، وتشكل حجر الزاوية في صناعات ضخمة مثل البتروكيماويات، تكرير النفط، إنتاج الأسمدة، الأدوية، والبوليمرات، ومن خلال استخدامها، يمكن تقليل استهلاك الطاقة، تحسين جودة المنتجات، وزيادة الكفاءة الاقتصادية، فضلا عن خفض الانبعاثات الكربونية فى ظل سعى العالم لتحقيق الحياد المناخي. ◄ السوق العالمي متسارع النمو... وموقعنا الجغرافي لم يُستغل ◄ خارطة التوطين تبدأ بتدشين المختبر الوطني ومع صعود مفاهيم الاقتصاد الدائري والهيدروجين الأخضر، أصبحت الحفازات أداة أساسية فى إنتاج وقود المستقبل مثل الميثانول، الإيثانول، ما جعل السوق العالمى للحفازات يشهد نمواً متسارعاً، حيث قدر حجمه عام 2024 بنحو 40.4 مليار دولار، ومن المتوقع أن يتجاوز 65.7 مليار دولار بحلول عام 2034. إمكانات هائلة .. واعتماد دائم على الخارج رغم امتلاك مصر قاعدة صناعية كبيرة فى قطاعات حيوية كالبترول، والأسمدة، والحديد والصلب، إلا أن 100% تقريبا من الحفازات المستخدمة فى هذه الصناعات يتم استيرادها من الخارج. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن فاتورة الاستيراد السنوية للحفازات تتجاوز 20 مليار جنيه، ما يجعل هذه الصناعة من أهم مصادر الضغط على الميزان التجارى وسلاسل الإمداد الوطنية، خاصة فى أوقات الأزمات الجيوسياسية. ويُقدّر أن قطاع الأسمدة يستحوذ على 30–35% من استهلاك الحفازات، يليه قطاع تكرير النفط بنسبة 25–30%، ثم البتروكيماويات بنحو 20%، ويأتى بعدها قطاع الحديد والصلب بنسبة 10–12%، فيما تذهب النسبة المتبقية إلى الصناعات الدوائية، الغذائية، والغاز الحيوي، والتى تشهد حالياً نمواً ملحوظاً فى ظل التوجه العالمى نحو التصنيع الأخضر. نمتلك الكثير... لكن لم نبدأ بعد ما تمتلكه مصر من مقومات يضعها فى موقع مثال لتأسيس صناعة وطنية للحفازات، مثل: موقع جغرافى استراتيجى يربط بين ثلاث قارات، قاعدة علمية متميزة تضم باحثين فى مجالات الكيمياء وعلوم المواد، توافر خامات محلية مثل الألومينا، السيليكا، الفوسفات، والمنغنيز، وبنية تحتية صناعية متنامية فى مجالات النفط والغاز والمعادن. لكن رغم هذه العوامل الواعدة، تواجه البلاد تحديات تعيق انطلاقة حقيقية، أهمها غياب رؤية وطنية متكاملة، نقص فى المواد الخام النادرة مثل البلاتين والفاناديوم، ومحدودية المرافق القادرة على اختبار الحفازات فى ظروف صناعية فعلية، باستثناء بعض المراكز البحثية مثل الجامعة المصرية اليابانية. ولتحويل هذا التحدى إلى فرصة، يُقترح تأسيس «المختبر الوطنى للحفازات الصناعية» فى منطقة صناعية مثل برج العرب أو العين السخنة، ليكون مركزا لتطوير وتصنيع الحفازات محلياً. ◄ اقرأ أيضًا | البتروكيماويات| عملاق إنتاجي بالعلمين الجديدة يوفر 20 ألف فرصة عمل كما تشمل خارطة الطريق: - توطين إنتاج الحفازات منخفضة التكلفة، خاصة للأسمدة وتكرير النفط. - إطلاق برامج تمويل تنافسى لدعم البحث التطبيقى بالتعاون بين وزارات الصناعة، التعليم العالي، والطاقة. - تحفيز الاستثمار الصناعى من خلال إعفاءات ضريبية وحوافز تصديرية. - إبرام شراكات دولية لنقل التكنولوجيا وتوطين خطوط الإنتاج. - إعداد برامج تدريبية متخصصة لتأهيل الكوادر الفنية والهندسية. نحو الاستقلال الصناعي بحلول عام 2032 بحسب التصور المقترح، يمكن لمصر خلال السنوات العشر القادمة أن تقلل فاتورة استيراد الحفازات بنسبة تصل إلى 70%، وتوفر ما يزيد على مليار جنيه سنويا، بل وتبدأ فى تصدير الحفازات إلى الأسواق الإفريقية والعربية، مما يدعم استقلالها الصناعى ويخلق فرص عمل نوعية. وتؤكد نماذج دولية جدوى هذا المشروع، ومنها: إيران: رغم العقوبات، نجحت فى إنتاج أكثر من 70% من احتياجاتها من الحفازات محليا عبر شركات وطنية. جنوب إفريقيا: استثمرت فى مراكز أبحاث لتحويل الفحم والكتلة الحيوية إلى وقود باستخدام حفازات محلية. السعودية: أسست شراكات بين جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وشركات مثل أرامكو وسابك لتطوير تقنيات حفزية محلية. الهند: أنشأت مركزاً وطنياً لأبحاث الحفازات بالتعاون بين الجامعات والصناعات، مما خفض أسعار الحفازات بنسبة 40% مقارنة بالمستوردة. الصين: تحولت من دولة مستوردة إلى أكبر منتج للحفازات فى العالم، من خلال تحالفات استراتيجية مع الجامعات، ودعم شركات مثل « سينوبيك كاتليست». الاتحاد الأوروبي: ضخ استثمارات ضخمة فى أبحاث الحفازات الخضراء فى إطار التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون. ◄ السيادة تبدأ من الحفازات كل التجارب الدولية الناجحة فى هذا المجال تؤكد حقيقة واحدة، وهى أن السيادة الصناعية تبدأ من توطين التقنيات الدقيقة، وعلى رأسها الحفازات، فمن يمتلك هذه التكنولوجيا، يمتلك مفتاح التفاعلات الصناعية، ومن ثم القدرة على التحكم فى سلاسل القيمة، وضمان الأمن الغذائى والطاقي. وختامًا، فإن صناعة الحفازات ليست ترفاً تقنياً، بل ضرورة استراتيجية، ومصر تمتلك المقومات، وتحتاج فقط إلى قرار سياسي جريء ورؤية تنفيذية واضحة، وتحالف وطنى بين الجامعات، والصناعة، والحكومة، فالمستقبل الصناعى المستدام يبدأ من المختبر، وينتهى إلى خطوط الإنتاج التى تبنى اقتصاداً مستقلاً وقوياً. ■ د. أحمد عبد المنعم عميد كلية العلوم الأساسية والتطبيقية بالجامعة المصرية اليابانية