◄ يصعب التجسس عليها ◄ من الصعب التشويش عليها وقت الحروب من وقت إلى آخر تطل علينا أفكار وربما دراسات حول مستقبل البشرية، وما تنعم به من تقدم تكنولوجى سريع فى مختلف المجالات، حيث يستند البعض إلى نصوص دينية بينما يفضل البعض الآخر الاستناد إلى الحقائق العلمية فيما يخص مستقبل البشرية، وإن كان كلا الفريقين يصل إلى ذات النتيجة وهى أن الإنسان سيعود فى حقبة من تاريخه القادم إلى البدائية، بعد أن يحرم نفسه وبنفسه من منجزاته العلمية والتكنولوجية سواء بأفعاله هو أو من فعل قوى الطبيعة التى يتحكم فيها الإله. ونحن هنا لسنا بصدد النظر فى منطقية مبررات هذا أو ذاك من التأملات ولكن استرعانى هذا الأسبوع نبأ ربما يبدو بسيطا أو عابرا بالنسبة للبعض، ولكنه له دلالة عميقة عن طبيعة المواجهات فى عصرنا الحالي، وربما متطلبات العصر القادم وضرورة التحوط من بعض التقلبات التى قد تدفع البشرية إلى الاستعانة بالأدوات والأشياء البدائية كوسيلة أساسية لمواصلة العيش والصمود فى هذه الحياة. والنبأ الذى استرعى انتباهى هو زيادة الطلب فى منطقة الحرب بين روسيا وأوكرانيا على الهواتف السوفيتية العتيقة، والتى كانوا فى السابق يطلقون عليها اسم «إيه بي» وهو اختصار يعنى بالروسية «جهاز اتصال»، حيث يدور الحديث هنا عن حركة دءوبة للبحث عما تبقى من هذه النوعية من الهواتف السلكية التى تعمل إما بالقرص الدوار أو الموديلات الأكثر تقدما التى تعمل بالأزرار أو حتى الطرازات المعدلة منها التى تعمل بالنظامين السلكى واللاسلكى معا. ◄ اتصالات عتيقة وأوضح المختصون فى مجال الاتصالات العسكرية أن أجهزة الاتصالات البدائية العتيقة، والتى بدأ العمل بها منذ الحرب الأهلية فى الولاياتالمتحدة ثم الحرب بين روسيا واليابان، ومن بعدها الحرب العالمية الأولى، هذه النوعية من الأجهزة أصبح من الصعب على وسائل التجسس الحديثة الدخول عليها، بل يؤكدون أن أجهزة الهواتف العتيقة صينية الصنع من نوعية (باوفينج - DMR) التى اصطلح وسط الجنود الروس على تسميتها «بافيكي» تستغرق من العدو ما لا يقل عن دقيقتين لكسر الاتصال الذى يجرى من خلالها وهى فترة طويلة نسبيا فى زمن الحرب. وربما يتساءل البعض عن أهمية الاتصالات السلكية خلال العمليات وانتقال الجنود، حيث يرد على هذا التساؤل ألكسندر بودكولزين، المدير التنفيذ لشركة «تيلتا» الروسية، مشيرا إلى أن أجهزة الاتصالات السلكية مطلوبة بين الوحدات المختلفة، وبين نقاط القيادة والسيطرة ومحطات الرادار، وبطاريات الدفاع الجوي. ◄ أمان وسرية بينما يتذكر العقيد ألكسندر مالوف، وهو من قدماء المحاربين فى الجيش الروسى أنه خلال الحرب العالمية الثانية قام بنفسه بتمديد كابل اتصالات سلكى بطول 150 كيلو مترا، نظرا لأن الاتصالات السلكية لها الأفضلية من حيث سرعة الأداء وارتفاع مستوى الأمان والسرية، كما يشير الخبراء إلى أن الاتصالات السلكية لها العديد من المميزات فى زمن الحروب والنزاعات، حيث يصعب تشويش الاتصالات عبرها عن طريق وسائل التشويش والتداخل الصوتي، وفى نفس الوقت يصعب الدخول عليها من خلال وضع أجهزة تصنت على الكوابل والأسلاك، حيث يسهل جدا كشف ذلك من خلال وسائل مكافحة التجسس والتصنت. وهنا من الممكن أن نتذكر معًا أخطاء وقعت فيها بعض القوات الروسية فى بداية المعارك عندما كان الجنود يخالفون التعليمات، ويستخدمون هواتفهم المحمولة للاتصال بذويهم، وكانت هذه وسيلة ناجحة لكشف مواقعهم واستهدافهم. ويعود الخبراء، ليشيروا إلى أنه من المُمكن باستخدام الوسائل الحديثة التغلب على عيوب وسائل الاتصال السلكية، والتى من أهمها صعوبة تمديد الأسلاك والكوابل مع تحرك وانتقال القوات، ولكن مع التطور العصرى أصبح من الممكن الاستعانة بالمسيرة للقيام بهذا العمل بكفاءة ودقة عاليتين. وربما يتساءل البعض عن السبب فى البحث عن أجهزة الهواتف القديمة وعدم اللجوء لتصنيع أجهزة حديثة تقوم بنفس المهام، ويجيب على هذا التساؤل ألكسندر بودكولزين، مشيرًا إلى أن الأجهزة القديمة، وما تبقى منها، والذى ربما يحصى بالعشرات ليس أكثر، قد استخدم فى تصنيعه مواد متينة، كما تتمتع هذه الأجهزة العتيقة بوسائل حماية على غرار الحافظات الجلدية السميكة، وربما يكون معها أيضًا صناديق لحفظها ونقلها بشكل آمن، ناهيك عن المكونات الداخلية التى تتمتع بحماية ومستوى عال من المتانة، ورغم إمكانية تصنيعها فى الوقت الراهن، إلا أن ذلك سيتطلب تعديل خطوط الإنتاج والاستعانة بمراكز مُتخصصة فى هندسة الاتصالات لوضع التصميمات الهندسية، ناهيك عن أن تعديل خط الإنتاج يتطلب أعمالًا إضافية معقدة لا يبدو الأمر معها مجديًا من الناحية الاقتصادية، حيث يدور الحديث هنا عن الإنتاج الكمى بينما الأمر يتطلب فقط بضع عشرات أو حتى مئات من هذه المعدات، بينما الإنتاج الكمى المجدى يدور الحديث فيه عن الإنتاج بالملايين من الأجهزة. ◄ الحروب الحديثة هناك العديد من الأمثلة فى الحروب الحديثة وليست بعيدة عنا، حيث استطاعت قوى كبرى فى مواجهة قوى أقل منها شل حركة أسلحتها ومعداتها من خلال ما يعرف بالحرب الإلكترونية، لذلك لم تتمكن الدول الأقل قوة، والتى ظلت تعتمد فقط على ما تحصل عليه من أسلحة ومعدات عن طريق الاستيراد حصرًا من الصمود وأصبحت فريسة سهلة للدول الأقوى. وعلى المسار المدني، فقد أدت العقوبات المفروضة على بعض الدول إلى توقف قطاعات إنتاجية كاملة، ولنا فى روسيا عبرة ومثال فى هذا المجال، حيث تضرر الكثير من القطاعات من العقوبات المفروضة عليها، وإن كانت روسيا وبصفتها دولة عظمى ولها باع كبير فى التكنولوجيا والإنتاج قد تحملت وصمدت بفضل قدرتها على استبدال المنتج المستورد بمنتج محلى الصنع، ولكن لم يكن ذلك سهلًا أو يسيرًا فى الكثير من الأحيان والمواقف. ◄ وسائل التدمير مؤكد أن العلم والبحث العلمي، وفر للإنسان الكثير من المنجزات التى تسهل عليه حياته، ولكن الإنسان نفسه أبدع فى صنع وتطوير وسائل التدمير بالشكل الذى لا يستبعد معه أن تصبح وسائل تدمير الآخرين هى ذاتها وسائل تدمير الذات والقضاء على كافة منجزات البشرية، بحيث لن يبقى سوى من يعتمد على سواعده واستعد بشكل جيد للعودة مجددًا إلى الوسائل البدائية فى الحياة. عندما نتحدث عن احتمالات عودة الإنسان إلى بدائيته بسبب أفعاله التى يستخدم فيها أحدث التقنيات التكنولوجية، سواء كان ذلك خلال الحروب أو حتى فى الحياة العادية اليومية، حيث يجور الإنسان على الطبيعة والحركات المناخية، عندما نتحدث عن ذلك لا نقصد به العودة إلى البدائية الكاملة، ولكن المقصود هنا العجز عن استخدام الأدوات التكنولوجية التى ابتدعها أو عجز هذه الوسائل عن إنقاذه من تقلبات المناخ والطبيعة التى تسببت أفعاله فيها. وباء كورونا، ليس ببعيد عنا، حيث اضطر الكثير من الدول للانغلاق، والخشية من التعامل مع الآخرين خوفًا من انتشار الطاعون الجديد، الذى فتك بعدد كبير من البشر فى كافة أنحاء العالم، ولو عجز العلم وقتها عن التوصل للأمصال لكانت الصورة أبشع بكثير، خاصة لو تصورنا توقف عجلة الإنتاج والإبداع فى العالم. ورغم أن القانون الدولى يحظر استهداف المنشآت المدنية فى زمن الحروب، إلا أن الدول المختلفة، وبطبيعة الحال العظمى والكبرى منها التى ترى نفسها فى منزلة أعلى من القانون، غالبًا من تستهدف منشآت الطاقة والاتصالات، وربما منشآت الإنتاج الغذائي، والطرق، ومختلف منشآت البنية التحتية الأساسية للخصوم لإجبارهم على الاستسلام، وإلا فإن المصير هو الحرمان من مُنجزات الحياة العصرية، والعودة إلى البدائية، والمثال هنا ليس ببعيد عن أحد، ويتمثل بجلاء فى الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطينى على مدار عشرات السنين. ◄ ضرب المنشآت لكم أن تتصوروا بأنفسكم دولتين كبيرتين تتصارعان فتقوم كل منهما بضرب خطوط الإنترنت والاتصالات وخطوط السكك الحديدية ومنشآت الطاقة والجسور والطرق والمصانع والمستشفيات وغيرها من البنى الأساسية للحياة، فما هو شكل الحياة الذى ستصل إليه هذه أو هاتان الدولتان، وإذا اتسع نطاق الحرب ليكتسب الطابع العالمى فما هو شكل الحياة الذى سيصل إليه كوكب الأرض بصفة عامة. وأخيرًا لو ألقينا نظرة على تداعيات التعرض للتقلبات المناخية سواء تسونامى أو زلزال قوى أو براكين وغيره من الظواهر فسنجد أن الإنسان بعد التعرض لها يحرم من المنجزات التكنولوجية ويضطر إلى العودة إلى البدائية لحين نجدته، فماذا لو اكتسبت هذه الظواهر الطابع الكونى هى الأخرى؟! مؤخرًا، طالعتنا وسائل الإعلام المختلفة بنبأ يقول إن دولة مثل السويد، وربما قريبًا بريطانيا، قررت الحد بقدر الإمكان من الاعتماد على أجهزة الحواسب والشاشات الإلكترونية فى العمليات التعليمية، والعودة مُجددًا إلى الكتاب الورقى والأقلام وغيرهما من الوسائل التقليدية القديمة فى العملية التعليمية، حيث وجدت أن الاعتماد على الوسائل التكنولوجية الحديثة قد أضعف كثيرًا من مهارات الطلاب العقلية بما فى ذلك القراءة والكتابة والعمليات الحسابية وغيرها من المهارات التى قد تخلى عنها البشر لصالح الوسائل التكنولوجية الحديثة. ◄ تكنولوجيا التعليم ومهما كانت تقديرات خبراء التعليم فى مختلف أنحاء العالم لهذا القرار إلا أنهم لا ينفون أن الاعتماد المتزايد على الوسائل التكنولوجية الحديثة فى العملية التعليمية قد أفرز أجيالا لديها قصور واضح فى التفكير واتخاذ القرارات السليمة والواقعية فى الوقت المناسب وهو ما قد يقود فى المستقبل لنوعية من المسئولين والزعماء الذين ربما تؤدى قراراتهم غير المتزنة لتداعيات خطيرة على البشرية.. وفى نفس الوقت سنجد عددا من دول العالم التى تخشى من المستقبل المجهول للبشرية تعمد إلى تدريب شعوبها على التعامل مع الظروف الاستثنائية سواء فى زمن الحرب أو خلال التعامل مع الكوارث الطبيعية، وهذه التدريبات تشمل التعايش مع غياب الوسائل التكنولوجية والحديثة للحياة والاستعانة بما توفره الطبيعة من مقومات، حيث يبدو أنه رغم غضب الطبيعة قد يبدو فى بعض الأحيان جائحًا إلا أنها قد تكون أكثر عطفًا ورحمة على الإنسان من نفسه.