في كل حجر نقش، وفي كل جدار من جدران المعابد سرّ من أسرار حضارة لا تزال تنبض بالحياة، وفي طيّات التاريخ نجد فصولًا نُقشت بأيدٍ مصرية خالصة، تحمل عبق الماضي وروح التحدي والإبداع. ومع كل اكتشاف أثري جديد، يأخذنا الدكتور مصطفى وزيري، عالم المصريات والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للآثار، في رحلة عبر الزمن، يكشف فيها الستار عن عظمة الفراعنة وما تركوه لنا من تراث خالد. ◄ ليست وسيلة ترفيهية من بين دهاليز المعابد وأروقة المقابر، ومن النقوش التي زينت جدران التاريخ، نروي حكاية جديدة، مليئة بالحركة والمهارة والانضباط.. إنها قصة الرياضة في مصر القديمة، التي لم تكن مجرد وسيلة للترفيه، بل كانت نمط حياة، وتدريبًا بدنيًا وروحيًا، ومظهرًا من مظاهر القوة والنظام. حكاية تُثبت أن المصري القديم سبق عصره، ووضع قواعد لمفاهيم رياضية سبقت حتى الألعاب الأولمبية. من يتأمل جدران المعابد المصرية القديمة يجد أن الرياضة لم تكن مجرد وسيلة ترفيهية، بل كانت جزءًا أصيلًا من نسيج المجتمع المصري القديم، تعبر عن القوة والانضباط، وتحمل رمزية دينية وثقافية عميقة. وفى الوقت الذي تُنسب فيه الألعاب الأولمبية إلى الحضارة اليونانية، كان المصري القديم قد سبقها بمفاهيم رياضية مُتقدمة أثرت لاحقًا فى تطور الفكر الرياضي عالميًا. ◄ خدمة الدولة والدفاع أدرك المصريون القدماء منذ آلاف السنين أهمية التوازن بين الجسد والعقل وشغلت الرياضة مكانة بارزة فى الحياة اليومية خاصةً بين فئات الجنود والطلبة والأمراء، وكان يتم تدريب الشباب على الرياضة ضمن منظومة تعليمية تهدف إلى إعداد مواطن قوي البنية، متزن العقل، قادر على خدمة الدولة والدفاع عنها، فيذكر الأمير "خيتي" من عصر الدولة الوسطى "لقد سمح لي الملك أن أتلقى دروسًا فى السباحة"، كما يوجد نص للملك "امنحتب الثاني" بالمعبد الذي أقامه داخل حرم أبو الهول يقول فيه "أن لا أحد يستطيع أن يجاريه فى العدو". وتنوعت الرياضات التي مارسها المصري القديم، وكان أبرزها المصارعة والتي ظهرت بوضوح فى مقابر وأسوان وغرب طيبة وبني حسن ومير ودير البرشا، فى وضعيات مُختلفة تعكس مستوى تقنيًا متقدمًا، وأقدم منظر للمصارعة موجود بمقبرة الوزير "بتاح حتب" بسقارة من عصر الأسرة الخامسة، بجانب ظهور مناظر لرياضات السباحة ورفع الأثقال والعدو وألعاب الكرة التي تظهر بمقابر بني حسن وتمارسها فتيات، ويحتفظ المتحف المصري بالتحرير بعدد من الكرات وكانت مصنوعة من الجلد الذي يحشى بالياف النخيل أو القش، بالاضافة إلى المبارزة بالعصا التي لاتزال مُنتشرة فى صعيد مصر حتى الآن باسم "التحطيب". ◄ رمز القوة لم تكن الرياضة فى مصر القديمة مجرد أداء بدني بل حملت فى طياتها طابعًا رمزيًا ، فالجري فى «عيد السد» كان يُمثل التجدد والبقاء، والمصارعة كانت تُعرض فى الاحتفالات كرمز للقوة والانتصار على الفوضى، بل إن بعض الرياضات كانت تُمارس فى الطقوس الدينية لتقوية العلاقة بين الإنسان والمعبودات القديمة. اقرأ أيضا| أصل الحكاية | رحلة «سن نفر ومريت» إلى «أبيدوس» طقوس الحج المقدس في مصر القديمة رغم أن أول دورة أولمبية سُجلت فى اليونان إلا أن الرياضات التى عرفها الإغريق كانت فى معظمها تمارس بالفعل بمصر قبل ذلك بقرون ويرجح الكثير من المؤرخين أن الاتصال الثقافي بين مصر واليونان خاصةً خلال عصر الأسرة السادسة والعشرين قد ساهم فى نقل بعض مفاهيم الرياضة المُنظمة من مصر إلى اليونان. الرياضة كما عرفها المصري القديم كانت خاضعة لقواعد وتُمارس فى أوقات محددة، وتُستخدم لأهداف تعليمية وروحية، وهى مفاهيم أساسية فى أي منافسة أولمبية تمت بعد ذلك، فالمصري القديم لم يمارس الرياضة فقط بل أسس لفكر رياضي شامل، يقوم على الانضباط والاحترام والتوازن بين الجسد والروح. إن دراسة الرياضة في مصر القديمة ليست مجرد رجوع إلى الماضي، بل هى استحضار لقيم إنسانية راقية سبقت زمانها، وربما ساهمت فى صناعة حضارة ما زالت تبهر العالم حتى يومنا هذا.