في أحد الأزقة الهادئة بقرية شنوان التابعة لمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية، يقف الحاج جابر شامخاً، تحيطه رزم البوص كأنها قطع من الذاكرة، يداه لا تتوقفان عن الحركة، كأنهما تحفظان طقسًا مقدسًا ورثه عن الأجداد، حيث تتحول أعواد البوص اليابسة بين أنامله إلى حصائر تُغطّي الجدران أو تُظلّل السقوف. من الطفولة إلى الحرفة يقول الحاج جابر، وقد جاوز الستين، إنه بدأ العمل في مهنة البوص وهو طفل لم يتجاوز العاشرة، كانت القرية في تلك الأيام تعج بأصوات النسّاجين، وكانت أعواد البوص تملأ الحقول، تُحصد وتُجفف، ثم تُشكّل بأيدٍ تعرف قيمة ما تفعل. "كنا زمان بنشتغل من غير ما نحس.. البوص كان حوالينا في كل حتة، وكان الطلب عليه كتير، والمهنة ليها قيمة وهيبة". البوص.. خامة من ذهب البوص ليس مجرد نبات، بل هو مادة أولية متعددة الاستخدامات، يُصنع منه الحصير الذي يُستخدم للسقف أو لتغطية الجدران، ويُعتمد في أعمال البناء القديمة كعازل طبيعي للحرارة، كما يدخل أحياناً في الأثاث الريفي والمشغولات اليدوية. الحاج جابر يُتقن المقاسات المطلوبة لكل استخدام، بعض الحصائر تحتاج مقاييس دقيقة حسب الطلب، وأحياناً يعمل على مقاسات معروفة متوارثة لا تحتاج إلى سؤال. أزمة البوص في زمن البلاستيك يقول الحاج جابر بأسى: "النهاردة مفيش حد بيزرع بوص، والمزارع شايف إن زرع البوص مش مربح، فبيسيبه، والدنيا بقت كلها بلاستيك وصيني!" ويضيف "زمان كنت بشتري البوص بالرُزمة ب10 جنيه، دلوقتي بقت ب100، ولسه الزبون عاوز الحاجة ببلاش!" المهنة تذبل والشباب يعزف المؤلم أكثر أن المهنة التي كانت تزدهر يوماً، باتت اليوم في طريقها للاندثار. الشباب يعزفون عنها، والطلب يتناقص، والأسعار لا تغطي حتى مجهود الحرفي. "اللي يشتغل في البوص لازم يحب الشغلانة، دي مش مجرد أكل عيش، دي فن وأصول، والشاب دلوقتي مش شايف فيها مكسب." لمسة وفاء للمهنة المنسية ربما لا يعلم كثيرون أن الحصير المصنوع من البوص يُعد جزءاً من التراث المصري، وأن وراء كل قطعة حصير قصة وجهد وعرق مثل الحاج جابر، هناك قلة قليلة من الحرفيين ما زالوا يحتفظون بسر المهنة، كأنهم حرّاس لذاكرة تختفي رويداً. هل يمكن إنقاذ ما تبقى؟ ربما يكون الحل في إدماج تلك الحرف في أسواق الحرف اليدوية، أو تسويقها كمنتج تراثي وسياحي. دعم الدولة والمجتمع لهذه الحرف لا يُعد ترفاً، بل هو استثمار في هوية شعب.