من قاعات كلية الهندسة بجامعة قناة السويس، بدأ الدكتور محمد شعبان رحلته العلمية، متخرجاً فى قسم الكهرباء، حيث واصل دراساته العليا فيها ليحصل على درجة الماجستير. غير أن طموحه لم يتوقف عند حدود بلاده، فانطلق فى منحة شخصية إلى جامعة هونج كونج، التي كانت فى تلك الفترة، بعد عودتها إلى السيادة الصينية عام 1997 تسعى لاستقطاب العقول النابغة من مختلف أنحاء العالم، عارضة امتيازات مالية وسخية وميزانيات بحثية استثنائية. ◄ «مصانع الأبحاث» و«سماسرة النشر الأكاديمي» حولوا العلم إلى سلعة ◄ سأفضح النشر العلمي المزيف.. ما دمت حيًا هذه الجامعة، التى ضمت بين جنباتها حائزين على جوائز نوبل، كانت نقطة تحول فى مسار الدكتور شعبان، إذ أشرف على رسالته للدكتوراة أحد هؤلاء العلماء البارزين. عاد بعد ذلك إلى مصر، حيث عمل ثلاث سنوات في جامعته الأم، قبل أن تنطلق مسيرته الدولية متنقلاً بين جامعات سعودية وأمريكية وبريطانية، ليستقر بعد ذلك فى ماليزيا نحو ثلاثة عشر عامًا، واليوم، يستقر كأستاذ لهندسة الكهرباء فى جامعة تايوان، مواصلاً عطاءه الأكاديمى والعلمي. لكن لمن يتابع صفحته على فيسبوك، يتجلى وجه آخر للدكتور محمد شعبان، وجه «حارس النزاهة البحثية»، كما شعرت وأنا أتابع تغريداته اليومية، حيث نذر نفسه لمواجهة آفة تهدد جوهر البحث العلمي، وهي» الاستسهال والتزييف والغش الأكاديمي». ويحذر الدكتور شعبان من ظاهرة تضخم الإنتاج البحثى على حساب جودته، متسائلاً بدهشة: «هل من المعقول أن ينجز باحث طبيعى 40 بحثاً فى السنة؟»، يرد بنفسه على هذا التساؤل بالإشارة إلى الآليات المريبة التى تقف خلف مثل هذا الإنتاج، وفى مقدمتها «سماسرة الأبحاث» و»مصانع الأوراق البحثية»، التى حولت العلم إلى سلعة. ما الفارق بين «سماسرة الأبحاث « و»مصانع الأوراق» ويشرح أن سماسرة الأبحاث غالبا ما يكونون باحثين فى جامعات ثرية تسعى لرفع تصنيفها الأكاديمي، فيعمدون إلى توظيف ميزانياتهم لإنفاقها على نشر أبحاث باحثين آخرين، غالبا فى دول نامية، مقابل إدراج أسماء باحثى الجامعات الثرية على تلك الأبحاث، أما «مصانع الأوراق البحثية»، فهى مكاتب تكتب الأبحاث وتبيعها جاهزة للباحثين، الذين لا يحتاجون سوى إلى الدفع لإدراج أسمائهم. ويعتبر الدكتور شعبان أن هذا النمط من النشر البحثى الذى يقف خلف اهتمام بات مرضيا بقضية التصنيف، تسلل إلى بعض الجامعات الخليجية، التى كانت تحاول السير على نهج جامعة هونج كونج فى استقطاب الكفاءات، لكنها تراجعت عن هذا المسار، وأصبحت تركز على عدد الأبحاث أكثر من نوعيتها، ويرى أن جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) بالسعودية، تحاول السير على نهج جامعة هونج كونج فى استقطاب الكفاءات، لكنها لم تبلغ بعد نفس مستوى الجودة. ◄ اقرأ أيضًا | «آداب جامعة القناة» تنظم مؤتمر «اللغات والعلوم الإنسانية ودورها في رقي ◄ الكيف أهم من الكم ويؤكد أن الحل الجذرى لهذه الأزمة هو «تغيير معايير التقييم»، بحيث يتم التركيز على جودة النشر وليس كميته، وتحرير الجامعات من هوس التصنيفات الذى يدفعها لمراكمة الأوراق على حساب المعنى الحقيقى للبحث العلمي. ويحذر شعبان من انزلاق الجامعات الناشئة فى فخ التفاخر الكمي، في محاولة لإثبات أنها تفوقت على الجامعات العريقة، ويشير إلى أن بعض الجامعات الخاصة تستخدم عدد الأبحاث المنشورة كوسيلة جذب للطلاب، متجاهلة أن التقييم الحقيقى يكمن فى القيمة العلمية لا في كثرة الأرقام. ويلفت إلى أن بعض الجامعات فى الهند بدأت تتنبه لهذا الخطر، وتطلق مبادرات ترصد النزاهة البحثية وتفضح المتعاملين مع سماسرة الأبحاث والمصانع الورقية. ويؤكد أن نشاطه فى هذا المجال لا يستهدف أشخاصاً بعينهم، بل يسعى إلى توعية المجتمع الأكاديمى والبحثي، داعيا إلى استخدام المنطق فقط فى تقييم الحالات، ويعطى مثالًا واقعيًا لباحث نشر 15 مراجعة بحثية (Review) فى عام واحد، فى حين أن إعداد مراجعة واحدة يتطلب عادة عدة سنوات من التراكم المعرفي. ◄ تسلل الاستسهال ويعبر عن حزنه العميق إزاء ما وصفه ب»تسلل الاستسهال إلى عقول الأجيال الجديدة»، مشيرا إلى تلقيه رسائل من طلاب جامعيين فى سنواتهم الأولى يسألون عن النشر البحثي، رغم أن كثيرا منهم ليسوا من المتفوقين. ويقول: «كأن البحث العلمى تحول إلى مطبخ، يدخل فيه الباحث ليخرج بعد دقائق بوجبة جاهزة!» ويحذر من أن دخول الذكاء الاصطناعى على خط البحث العلمى قد يزيد الطين بلة، إذ أصبح وسيلة سهلة لإنتاج محتوى بحثى بلا جهد حقيقي. ورغم توفر أدوات لكشف هذا النوع من التزييف، إلا أنه يتوقع أن يتطور الذكاء الاصطناعى ليتفوق على أدوات الكشف، فيما يشبه «لعبة القط والفأر»، وهنا، يؤكد أن الخبرة الشخصية للمشرف الأكاديمى تظل هى الدرع الحقيقية، إذ يعرف قدرات طلابه ومدى واقعية ما يقدمونه. ورغم تعرضه لانتقادات لاذعة، يصفها ب»الإرهاب المعنوي»، بسبب مواقفه الصارمة، فإن د. محمد شعبان يؤكد إصراره على مواصلة معركته من أجل النزاهة العلمية، مؤمناً بأن «العلم لا يقوم على المجاملات، بل على الصدق والأمانة والاجتهاد الحقيقى».