عبد الوهاب الحمادى يظن الناس أن محمود عبدالشكور صاحب لغة دبلوماسية ويجامل في كتاباته النقدية وهذا من الظن السطحي، وليس من الحقيقة في شيء. فهو وإن كان يميل بشكل لا لبس فيه لاكتشاف الجمال، ويؤثر استنطاق العمل الفني من مختلف زواياه، إلا أنه لا يخفي الانتقاد عندما يجد سقطة أو هفوة أو خللا في البنية الفنية ويصرح ويشير له بكل أدب وتبيان، ولا غرض إلا حرصه الشديد على ما يراها الصورة الفنية الأكمل والأجمل. تعرفت على الناقد محمود عبدالشكور وأحببت متابعته قبيل أن يكتب وأفاجئ بعرضه لرواية لا تقصص رؤياك التي بلغت اللائحة الطويلة في الجائزة التى تعارف الناس على تسميتها بالبوكر، ثم كتب مرة أخرى عن «ولا غالب» وقبل فترة كتب قراءة عن روايتي الأخيرة «سنة القطط السمان». لذلك هو يحتفى دوما بما أكتب ويكرمني باستنطاق رائع للنص، هل منعه هذا من تبيان ما رآه من وجهة نظرة ضعفا هنا أو هناك فى النص؟ بالطبع لا، والمقالات موجودة لمن يقرأ. وهذا زادنى إعجابا بهذا الرجل. أذكر أننى قابلته في القاهرة فى أواخر اشتغالى برواية سنة القطط السمان وقبل أن تنشر، سألنى عما أكتب، فتحرجت لأننى قلما أتحدث بالتفصيل عن مشاريعى، لكن لم أجد بدا وأنا المحب الكبير له من الحديث، أذكر كيف تهلل وجهه وتحدث عن جمال الفكرة وكيفية الالتقاط واستشهد بأعمالى السابقة. هل أسعدنى هذا؟ لا.. ساعتها أصبت برعب شديد. إذ أن رفع سقف التوقعات عادة يعود سلبيا على العمل. لذلك كنت متخوفا عند صدور العمل ولم أطمئن إلا عندما وجدت المقال يحتفى ويشرح العمل ويوجه نقدا لزاوية منه. هذا هو محمود عبدالشكور الذى أحب كيف يرى هذا العالم ويحاول تفسيره. عندما حبس فيروس كورونا العالم، وأطلقت وحوش العنصرية، انتشرت سماجة أصحاب النظرة النمطية فى وسائل التواصل الاجتماعى، كنت أحاول أن أعيش دون أن أتعرض للأذى قدر الامكان، ودون أن أرد وأضيع وقتى، وللأسف قد فعلت هنا وهناك. لكن فى أثناء أوقات ذلك الصمت، رجعت لكتابين أحبهما لمحمود عبدالشكور وهما، كنت صبيا فى السبعينيات وكنت شابا في الثمانينيات، وبالطبع استمتعت، لكن فى حمى تلك العنصرية، بدأت بالانتباه للمشتركات فى الذاكرة. كلنا نعرف أن هناك رافدا ثقافيا مصريا فى الثقافة الكويتية بدأ منذ ابتعاث طلبة كويتيين إلى القاهرة للدراسة فى الثلاثينيات ومرورا ببعثة المعلمين المصريين إلى الكويت فى أربعينيات القرن العشرين وكل تلك التفاصيل، لكن عبر قراءة هذين الكتابين، أكاد أقول حرفيا أننى اكتشفت أن الحجم كبير جدا، رغم أنه لم يتحدث عن الكويت! بل عن ذاكرته المصرية عبر ما رآه في الإذاعة والصحافة والتلفزيون، لكن القدر المشترك كان ضخما ومن تلك اللحظة زدت يقينا بأهمية المعرفة للقضاء على الجهل، وفهم الآخر ومحاولة تفكيك النظرات النمطية الجاهزية والمعلبة! كلما قررت الذهاب إلى القاهرة، من أوائل الأسماء يكون اسمه. أبعث له رسالة ليختار يوما عنده فسحة من الوقت فيه وبإمكاننا أن نلتقى. نتواعد فى مقهى، وأنا من عادتى الانضباط في المواعيد، ومرة تواعدنا فى مقهى الامريكين الواقع فى طلعت حرب، وكعادتى ذهبت أتسكع في المنطقة حتى يصل الموعد، من الجانب الآخر من الشارع نظرت عبر زجاج المقهى، فوجدته جالس ومندمج فى قراءة! هل أقاطعه؟ ذهبت وعدت بعد ساعة وهو يقرأ. قررت الدخول وما أن رآنى حتى هب مرحبا ترحيبه المحبب الآسر، لكننى سألته محرجا إن قطعت خلوة، فقال لى أن من عادته القدوم مبكرا على كل موعد ليكون ملتزما. كم أكبرت هذه العادة التى عرفتها فيه مرارا وفى كل زيارة. وأحب أن نحضر فيلما فى سينما زاوية، وفى كل مرة أجده وقد حجز التذاكر بكرمه ابن الصعيد الأصيل بل ولا أجرأ على مد يدى لشراء الفشار ولا حتى الشاى أو العشاء بعد الفيلم. هذا الكرم المادى يؤازره كرم معرفى، إذ يسرد طوال الجلسات نتفا من حكايات ثقافية وتجارب شخصية لا تزيدنى إلا صمتا وامتنانا للزمان الذى عرفنى عليه. وبعد الفيلم نجلس ويكون معنا الناشر المعروف الصديق شريف بكر، ونتداول الفيلم وتحليله وطبعا يفاجئنا بنظرته وكيفية تحليله للفيلم. فى مرة دخلنا فيلم أمريكى تتعرض فيه الزوجة لمرض عضال وتخوض صراعات تنتهى بوفاتها، ولا أنكر أننى خرجت من الفيلم مكتئبا. وخرجت منى عبارة: هذا الفيلم كئيب! وماكان منه إلا أن ابتسم وبدأ حديثه وقال: يا عبدالوهاب هذا انطباع سريع ولو تأملت فى أحداث الفيلم - أخذ يعددها- لوجدت أن إرادة الحياة والرغبة فى الفوز والأمل هى أفعال البطلة لذلك هذا فيلم أمل لا يأس. وانطلق يدهشنى حتى آمنت مجددا أن هذا الرجل يمتلك آلة مدربة ومصقولة لرؤية الفن والحياة. كنت أترقب لحظة الإعلان عن جائزة القلم الذهبى من الرياض، منذ أن وصل محمود عبدالشكور إلى القائمة القصيرة عن روايته «أشباح مرجانة»، ولأننى أعرف أنه منافس معروف للأديب نجيب محفوظ فى سجل عدم الرغبة فى الخروج من مصر، فوجئت عندما علمت من الروائية نورا ناجى بأنه سيذهب إلى الاحتفال فى الرياض! عندها زاد خوفى أن تكون رحلته ذهاب وعودة دون فوز. لن أبالغ إن قلت أن لحظة نطق اسمه كانت لحظة فوز شخصى لى، بل لن أبالغ إن قلت أن شعورى هذا كان مشاعا عند كل من تعرف على هذا الرجل عبر الكتابات أو عبر الحياة. وكل الاحتفاء الذى حصده فى الفيسبوك كان صادقا وأحببته لأن هذا التكريم يرتقى فوق الجوائز والمادة، وهو تكريم لا يلقى فى الشارع ويجده أيا كان، وأشكر الرياض التى كرمته وكرمت من خلاله الفن والأدب المصرى الذى يمثل شطرا هاما من ذاكرتنا. لذلك كنت أقرأ ردوده على المهنئين وتسعدنى وفجأة فكرت وقررت أن أكتب المقال وأختمه بهذه الخاتمة. إن الاحتفال الذى سيسعد عبدالشكور أكثر وأكثر هو الابتهاج والتفاعل مع ما كتب فى جميع الفنون التى برع فى شرحها، من سينما ومسرح ورواية وقصة قصيرة وفن تشكيلى وشعر. واقتناء كتاباته والترويج لها.