أثر النزاع في أوكرانيا على كافة العمليات فى العالم، وربما يعتقد الكثير من المحللين أن تداعيات هذه الأزمة بما فى ذلك أسلوب تسويتها ستستمر بتأثيرها العميق على مختلف العمليات التى تجرى على الساحة الدولية. وقد نتفق معا فى أن أحد أهم القطاعات التى تأثرت من هذا النزاع هو قطاع الاقتصاد والاستثمار، حيث باتت أبسط قواعده وهى التجارة الحرة، والتى تم إنشاء منظمة خاصة بها ووضع قواعد منظمة لها رهينة بالقرارات والتحركات السياسية بل وأصبحت الدول تستخدمه كأحد الأسلحة فى الصراعات المختلفة. وخلال المراحل المختلفة للنزاع في أوكرانيا حذرت روسيا أكثر من مرة من مغبة استغلال الاقتصاد والاستثمار وحرية التجارة كأدوات للضغط عليها، وأكدت فى غضون ذلك أنها لن تكون الخاسرة الوحيدة فى هذا المجال، بل وشددت على أن استخدام التجارة والاقتصاد والاستثمار للضغط عليها لن يؤثر فى قراراتها وتحركاتها فى أى شيء. ◄ إجبار الشركات ورغم أن أوساط المال ورجال الأعمال فى العالم قد طالبوا بعدم الزج بهم فى وسائل التنافس والتناحر إلا أن رجال السياسة لم ينصتوا لهم وشرعوا بكل قوة وتشدد فى إجبار الشركات الكبرى ورجال الأعمال على سحب أنشطتهم من روسيا كوسيلة للضغط عليها، ورغم أن ذلك قد تسبب للشركات ذاتها بخسائر فادحة إلا أن ذلك لم يحرك شعرة فى رؤوس رجال السياسة الذين بدا أنهم ليس لديهم سوى هدف واحد وهو إذلال روسيا وإلحاق هزيمة استراتيجية بها. وبعد أن تأكد للجميع فشل هذه المساعى وأصبح إعلان فوز روسيا فى هذا النزاع قاب قوسين أو أدنى وبكامل شروطها، وبعد أن ثبت أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ربما يقود أوروبا إلى الخنوع أمام الدب الروسى فقط من أجل تحقيق أهداف تخصه هو والحديث هنا عن ترامب، أصبحت روسيا تتحدث من موقف القوة وتذكر الشركات العالمية الكبرى بما كانت تحذرهم منه وأن الخروج شيء والعودة شيء آخر. ◄ روسيا تضع شروطها ولكن قبل أن نخوض فى الشروط التى تطرحها روسيا من أجل السماح بعودة الشركات الأجنبية للعمل بها، ينبغى أن نشير إلى تقرير هام جداً نشرته صحيفة «فيدوميستي» الروسية العريقة ، وهذا التقرير وإن لم تذكر الصحيفة ذلك يفيد أنه عندما خرجت غالبية الشركات الأجنبية من روسيا حرصت على التوصل لنوع من التفاهم مع السلطات الروسية يضمن لها العودة من جديد ، وهو ما يدل على أن السلطات الروسية كانت تراعى الظروف والضغوط التى تعرضت لها هذه الشركات، لذلك فسوف تتعامل معها بشكل معين، بينما الشركات التى تسابقت للخروج بأى ثمن وتأييدا واضحا للسياسات الغربية ضد روسيا فسوف تواجه هى الأخرى معاملة مختلفة تماما. ◄ أرقام خطيرة ويشير التقرير إلى أن عدد الشركات التى غادرت روسيا يصل 1500 شركة، إلا أن عدد الشركات التى أوقفت أعمالها بشكل كامل فى روسيا لم يتعد 547 شركة فقط، بينما عدد 503 حرصوا قبل تعليق أعمالهم فى روسيا على الاحتفاظ بفرصة العودة مرة أخرى إلى السوق الروسية، ونوه التقرير إلى أن الكثير من الشركات الأجنبية لدى مغادرة السوق الروسية أبرمت عقودًا مع شركات أخرى، وحرصت على أن تتضمن هذه العقود شرط إمكانية إعادة شراء الأصول التى جرى بيعها، وهناك شركات أخرى مازال أمامها فترة زمنية قبل انتهاء ترخيص فتح أنشطتها فى روسيا وهذه الشركات ستكون عودتها أسهل من الشركات التى تبقى على تراخيصها فترة قصيرة أو أن هذه التراخيص انتهى العمل بها، حيث ستضطر هذه الشركات لبدء كافة الإجراءات من البداية وقد يستغرق ذلك فترة طويلة من الزمن إن لم تبد السلطات الروسية مرونة معها، وبطبيعة الحال قد يقع البعض منها فريسة للمستغلين والانتهازيين. ◄ ثمن العودة يوضح سيرجى نوفيكوف، الخبير القانونى فى شركة «جى أر إم» للاستشارات القانونية أن الأمر ليس بالسهولة التى يعتقدها البعض، ويشير إلى مثال بسيط على ذلك وهو شركة رينو التى كانت تعمل بالشراكة مع شركة أفتوفاز الروسية، حيث إنه سيتعين على رينو فى حال الرغبة فى العودة للسوق الروسية دفع تعويضات لشركة أفتو فاز فى حدود 110 مليارات روبل، وهو المبلغ الذى تقدره الشركة الروسية لما ضخته من أجل تطوير خطوط العمل وإعادة تأهيلها بعد انسحاب رينو من السوق الروسية، ولن يقتصر الأمر عند هذا الحد، حيث ستضطر الشركة الأجنبية وخاصة القادمة من الدول المصنفة لدى روسيا كدول غير صديقة للتفاهم مع الحكومة الروسية قبل التصريح لها بالعودة مجددا للسوق الروسية. من جانبه، يُشير ألكسندر يرمولينكو، من شركة «يرلوف - يرمولينكو» للاستشارات القانونية إلى أن السلطات الروسية قد شكلت لجنة للنظر فى طلبات العودة إلى السوق الروسية، وهذه اللجنة سوف يكون لها الحق فى دراسة كل حالة على حدة، حيث يشير إلى أن شركة مرسيدس على سبيل المثال ورغم أن عقود تأسيسها تتضمن البند المشار إليه، والذى يضمن لها إمكانية إعادة شراء الأصول، كما أن تراخيصها مازالت سارية إلا أنها عندما قررت الانسحاب من السوق الروسية فعلت ذلك فى وقت قياسى وتركت عملاءها وزبائنها فى روسيا بدون خدمة وقطع غيار، وهو ما يتناقض مع الأخلاقيات وحقوق العملاء، وهناك شركة جوجل التى قطعت كل علاقة لها مع روسيا . ولكن يلاحظ فى نفس الوقت أن هناك شركات تمتلك ظروفا أفضل للعودة إلى السوق الروسية وربما بشكل أسهل بكثير من بقية الشركات ولكنها لا ترغب فى ذلك، ومن هذه النوعية من الشركات شركة « إتش آند إم « وأيكيا السويديتين. ◄ بلا شروط وكان ماكسيم ريشيتنيكوف وزير التنمية الاقتصادية فى روسيا قد نفى بشكل قاطع أن تكون الدولة قد وضعت بالفعل شروطا للعودة، وأكد أن هذا الحديث مازال سابقا لأوانه، ونوه إلى أن ما جرى هو فقط الإعلان عن تشكيل لجنة حكومية خاصة للنظر فى طلبات العودة، وهذه اللجنة سوف تتعامل مع كل طلب بشكل فردى ولن تكون هناك معاملة جماعية، وذكر أن الاقتصاد الروسى قد تطور وأن مناخ العمل فى روسيا قد تغير، لذلك سوف تنظر السلطات الروسية فى الأمر وفقا لحاجة الاقتصاد والسوق لهذه أو تلك من الشركات. وشدد الوزير فى غضون ذلك على التأكيد على أن الموضوع برمته سوف يكتسب الطابع الفنى وليس السياسي، وأن اللجنة سوف تحدد المعايير القانونية والإدارية والمالية والتنظيمية للعودة، وقبل كل شيء جدوى النشاط الاقتصادى والتقنى بالنسبة للسوق الروسية. وعلى الرغم من أن الحكومة الروسية قد أكدت أنه من السابق لأوانه الحديث عن عودة الشركات والبرندات الأجنبية، إلا أن عددا من المسئولين قد خرجوا ليتحدثوا عن هذا الموضوع بشكل عام ودون الخوض فى التفاصيل، حيث صرح ديمترى بيسكوف السكرتير الصحفى للرئيس الروسى بأن العودة سوف تكون على أساس تنافسى ووفقا لمصلحة المستهلك الروسي، بينما أشار دنيس مانتوروف نائب أول رئيس الوزراء الروسى إلى أن السماح بالعودة سيكون بشكل انتقائى وبالنسبة لمن تثبت رغبته الحقيقية فى ولوج السوق الروسية، ونوه مقصود شادايف وزير التنمية الرقمية على أن تطوير قطاع الإلكترونيات والذكاء الاصطناعى فى روسيا قد قطع شوطا كبيرا، وأن روسيا لن تسمح بالعودة سوى للشركات التى يمكنها أن تسهم فى تطوير هذا المجال فى روسيا. فى نفس الوقت يشير الخبراء إلى أنه مهما كانت الشروط والقواعد التى ستضعها روسيا لعودة الشركات الأجنبية إلا أنها سوف تراعى ظهور واقع جديد فى هذه الدولة، وهذا الواقع يتمثل فى ظهور شركات ومؤسسات تنتج منتجات بديلة أو شبيهة لبعض المنتجات الأجنبية، وبالتالى فهذا سيعنى أن العودة لن تكون مجدية بالنسبة لبعض المنتجات التى وجد الروس بديلا عنها بالفعل إلى جانب أن السلطات الروسية لن تسمح بعودة منافسين للمنتجات الوطنية التى ظهرت فى ذروة الحاجة إليها وفى ظل ظروف استثمارية صعبة. ويجب ألا ننسى هنا العالم النفسى للمستهلك، حيث إن الفترة الماضية شهدت حملات إعلامية متبادلة مما خلق لدى المستهلك الروسى مشاعر خاصة تجعله ينفر من بعض المنتجات الغربية. كما يفيد الخبراء أنه لا مجال للحديث عن استئناف النشاط فى روسيا ما لم تتم تسوية مسألة المدفوعات وأدواتها، حيث ألمح العديد من المسئولين والمختصين فى روسيا على أن المرحلة الأولى من التطبيع مع البيزنيس الغربى سوف تشمل الحديث عن استئناف نشاط وسائل الدفع العالمية من سويفت وكروت بنكية وتحويلات وخلافه. ◄ مراجعة القوانين أما المرحلة الثانية فسوف تشمل مراجعة القوانين الروسية والوقوف على المستجد فيها، فعلى سبيل المثال ستصطدم شركات هوليوود فى عودتها لروسيا بقانون يحظر الترويج أو تناول موضوعات الشذوذ الجنسى فى الأعمال الفنية فى روسيا، إلى جانب بعض القواعد والقيود التى تلزم شركة الإنتاج الأجنبى للعمل فى روسيا بالدخول فى شراكة مع شركة وطنية مماثلة. كما يلاحظ بعض الخبراء أن هناك شركات كبيرة على نطاق عالمى ورغم أنها كانت سباقة فى تنفيذ أوامر القيادات السياسية فى الغرب بمغادرة روسيا حرصا على مصالحها المنتشرة فى كافة ربوع العالم إلا أنها حرصت على ترك الأبواب مواربة ليس فقط تحسبا للعودة من جديد، ولكن لمواصلة العمل والنشاط فى السوق الروسية، ومن أهم هذه الشركات كل من ميكروسوفت وآبل وسونى وسامسونج. الحقيقة أن مبادرة تنظيم عودة الشركات الأجنبية إلى روسيا صدرت من رئيس الدولة فلاديمير بوتين ذاته عندما تلقى طلبا من قطاع الزراعة والصناعات الغذائية يؤكدون فيه أنهم على مدار السنوات الأخيرة قاموا بتطوير هذا القطاع بشكل كبير جدا، ويمكنهم تغطية الطلب الداخلى فى كافة أنواع المنتجات الزراعية والغذائية، وبالتالى لا ينبغى السماح بدخول منافسين لهم فى السوق الروسية. لذلك طلب الرئيس الروسى من الحكومة الانتقاء فى السماح بعودة الشركات الأجنبية، بحيث لا تمثل عائقا أمام الشركات الوطنية التى أظهرت أداءً متميزا خلال الحرب فى أوكرانيا ونجحت فى توفير احتياجات الدولة بحيث لا يشعر المواطن بأى نقص فى أية سلعة. ولفت الرئيس الروسى الانتباه إلى أن هذه الشركات الأجنبية بدت كأدوات للضغط على روسيا فى ظروف معينة، لذلك فسوف تعمل السلطات الروسية على خلق الظروف التى تحول دون تكرار استغلال الأنشطة المختلفة للضغط على الدولة الروسية. ◄ الأقاليم المختلفة كما ألمح الكثير من المسئولين فى روسيا إلى أن أحد شروط العودة هو الموافقة على العمل فى الأقاليم المختلفة بما فى ذلك البعيدة منها، وقبل كل شيء ربط السماح بالعودة برفع العقوبات المفروضة على روسيا من جانب الغرب. في النهاية يمكن القول بأنه على الرغم من التأكيدات بأنه من السابق لأوانه الحديث عن عودة الشركات الأجنبية للسوق الروسية إلا أنه من الواضح أن السلطات الروسية تستعد بقوة لهذا الملف، وسوف تربطه بالكثير من القواعد المنظمة، وقبل كل شيء رفع العقوبات عنها والتأكد من جدية الاستثمارات وجدواها للدولة الروسية قبل كل شيء، ناهيك عن التأكد من أن الإنهاء المفاجئ للنشاط سوف يكلف صاحبه الكثير من الخسائر.