وهل تستطيع أن تحاكى النحلة، حين تحلم، فلا تكتفى بالحلم دون علم، فتمتص من رحيق العلم والمعرفة ما يعينك على الإنجاز والتغيير، فتصبح أكثر قدرة على الإبداع؟ المستقبل يولد من رحم الحلم. الإنجازات الكبرى، والتحولات المفصلية، والأفكار العظيمة، بدأت أحلاماً فى العقول، قبل أن تصبح واقعاً. هكذا يؤكد التاريخ لمن يقرأه بتدبر وتعمق. يصدق ذلك - أيضاً - على الإنسان العادى الذى يمتلك حلماً، لكنه بالوعى والإرادة، وامتلاك الأدوات يستطيع أن يسعى لتحقيق حلمه، فيكون عماد حياته. الحلم ضرورة، شرط ألا نغرق فى بحاره، فيتحول إلى مجرد حلم يقظة لا يصمد، أو أضغاث أحلام، أو أمانى براقة، أو حديث نفس ساعة رضا، أو خليط من هذه وتلك، فأى مستقبل ننتظر، وأى إنجاز نأمل؟ عن الحلم الذى يمكن أن يتجسد واقعاً أتحدث. أعنى الحلم الذى يقود إلى تغيير حقيقى فى حياة فرد أو أسرة، أو مجتمع بأسره! الحالمون الذين لا يكفون عن ممارسة حقهم فى التطلع لتحقيق ما يحلمون به، وحدهم قادرون على اقتحام المستقبل، وإثبات الذات، والارتقاء بأوطانهم. الحالم الحق يمتلك قوة الفكرة، المدعومة بدرجة كافية من الوعى، المتسلحة بإرادة الفعل، المنزهة عن الضبابية، وغياب اليقين. من ثم فإننى أقول دائماً ناصحاً من أحبهم: احلموا، ولا تكفوا أبداً عن الحلم، احلموا لتمتلكوا مفاتيح المستقبل، وتسيروا بخطى ثابتة فى دروبه. الحلم والخيال قد يتساءل سائل: هل ثمة علاقة بين الحلم والخيال؟ - نعم. كلاهما يلازم الآخر، إلا أن الإغراق فى الخيال، يقود الحالم إلى مخاطر قد تحول بينه وبين إنجاز حلمه، إذ أنه لا يستثمر عقله بشكل كافٍ! إنه الفارق الجوهرى بين أولئك الذين شطحوا بخيالهم حتى شاطئ أحلام تبدو مستحيلة، وهؤلاء الذين يمتلكون رؤية ومنهجاً، ووسائل لتغيير الراهن من الأوضاع والظروف، وقدرة على إزالة الصعاب والمعوقات من طريقهم نحو المستقبل، فالخيال نوعان: إيجابى بقدرة صاحبه على عدم تغييب الواقع المعيش، وسلبى يعفى صاحبه نفسه من رؤية ملامح الواقع الذى ينطلق من عنده إلى ما بعده. مسيرة التقدم الإنسانى زاخرة بعلماء ومفكرين وساسة، وحتى أناس عاديين، امتلكوا إلى جانب القدرة على الحلم بالمستقبل الأفضل والأرحب، خيالاً خصباً، وإيماناً بالعلم، وملكة التخطيط، ومهارة تجاوز عالم الإمكان إلى دنيا واقع يسهم فى صنعه. الحالم - هنا - أقرب للنحلة التى تمتص رحيقاً مما تنبت الأرض زرعاً وزهراً وثماراً، ثم تهضمها، فإذا بها تنتج عسلاً رائع المذاق. هل تستطيع أن تحاكى النحلة، حين تحلم، فلا تكتفى بالحلم دون علم، فتمتص من رحيق العلم والمعرفة ما يعينك على الإنجاز والتغيير، فتصبح أكثر قدرة على الإبداع، ولا أقول الخلق، عبر علم يتحول إلى عمل؟ صناعة المعجزات تذكر - يابني - أن من خلدهم التاريخ بدأوا مسيرتهم بحلم، وطوروا حلمهم، حتى تحقق، ثم تبنوا أحلاماً أخرى كانت بمثابة الوقود المستمر، الذى دفع مسارهم دائماً للأمام بصورة مطردة، كانت كفيلة بصعودهم إلى أعلى. أينشتين، جاليليو، باستير، نيوتن،.....،.... كولومبوس، كوبرنيكس، الأخوان رايت،.....،.... أديسون، ماركونى، جراهام بل،.....،.....،..... ابن سينا، الفارابى، ابن خلدون ، ديكارت، روسو،.....،..... ميكل أنجلو، بيكاسو، بتهوفن،.....،..... مئات، بل آلاف، امتلكوا أحلاماً ساهمت فى صياغة تطور المسيرة الإنسانية. إلى جانب هؤلاء الذين لمعوا، وعرفناهم بالاسم، كان هناك آلاف آخرون يمكن تصنيفهم تحت لافتة «الجندى المجهول» كانوا - أيضاً- يمتلكون أحلاماً ساهمت فى تطور الإنسانية وتقدم مسيرتها، شأنهم شأن الأعلام والنجوم، يشتركون جميعاً فى حفر أنهار دفعت الإنسانية للأمام بعطاء متواصل، كانت فى البدء أحلاماً أشبه بقطرات صبت فى تلك الأنهار، فعمقتها وزادتها اتساعاً، وعلى ضفافها قامت حضارات زاهرة. العقل البشرى الواعى، عبر الحلم، المتسلح بالعلم والخيال فى آن واحد، قاد أحلاماً للمجتمع الإنسانى من كونه مجتمعاً بدائياً فجاً، يسيطر عليه الخوف من الطبيعة التى تحكمها- وفقاً لرؤية محدودة - قوى خفية، إلى كيان أكثر تقدماً، بمعايير زمانها، ولم يكن ذلك سوى عبر أحلام الأكثر وعياً، بالانتصار على الطبيعة، والقدرة على قهرها، تم تطويعها، وصولاً إلى استثمارها لصالح حياة أفضل. المجتمع الإنسانى انتقل من حالة إلى أخرى على جسور من الأحلام، من حالته البدائية إلى مجتمع أكثر تقدماً، لأن هناك من كان يحلم، فلم يرتض بالحياة الساكنة، كانت الأحلام متواضعة - فى البداية - بامتلاك أدوات حجرية ثم خشبية، لكن الحلم قادها إلى الأدوات المعدنية، واكتشاف الزراعة، واستئناس الحيوانات.. ومن الآلام والمعاناة كان الحلم يتجاوزها، إلى مستقبل أقل ألماً ومعاناة، فالحلم يصنع المعجزات. ربما كان اكتشاف الإنسان فى هذا الزمن الموغل فى القدم، لقدرته على الحلم، أهم من كل اكتشافاته الأخرى، لأنه كان الأداة الفاعلة فى التوصل اليها! بين الأوهام والأضغاث! على هذا النحو استطرد الإنسان فى مسيرته، وحين كان ينضب معين الأحلام، تتعثر المسيرة، ويقع الإنسان فى مصيدة الأوهام، بعيداً عن آفاق الأحلام، ويتحول إلى ضحية للانفعالات المغرقة فى التفاؤل، أو المفرطة فى التشاؤم، ففى غياب الحلم الواعى، المتسلح بالخيال الخصب، تتلعثم بوصلة المستقبل! قراءة واعية لعِبَر التاريخ ودروسه تؤكد أن مساره يكون صاعداً، ناهضاً، حين يحلم من يعيشون آنذاك بالواقع المرجو، لأنهم يرغبون فى بلوغ ما تصبو إليه أحلامهم، لكن هل هذا يكفى لملامسة المستقبل؟ امتلاك الحلم شيء رائع، لكن بلوغ الغاية والهدف الكامن فى أحشاء أحلامنا، يتطلب دائماً تجاوز الرغبة فى تحقيق الحلم إلى امتلاك إرادة تؤمن تحقيقه. ثم إن على الحالم، سواء كان عالماً أو مفكراً أو سياسياً، أو إنساناً عادياً، يجمع بينهم جميعاً أن من حق كل منهم أن يحلم، أن يمتلك - على قدر علمه ومعرفته - رؤية تقوده لإنجاز حلمه، وكشافاً ينير له الطريق، وإلا أصبح الحلم أقرب إلى مجرد حلم يقظة. وثمة معلومة طريفة قرأتها قريباً تشير إلى دراسة أكدت أن الإنسان يستهلك 46٫9٪ من ساعات يقظته بالنهار، وهو يحلم أحلام يقظة، فاللهم نجنا منها. وبالقدر ذاته، ليحذر الحالم أن تكون أحلامه مجرد أضغاث كتلك التى تصيبه نائماً، فتكون أقرب إلى حزمة الحشائش المتنوعة، أى أخلاط أحلام بلا معنى، ولا حاصل لها، أى شيء أقرب إلى الحرث فى الماء! نقطة التوازن - ماذا يعنى ذلك؟ المطلوب عندما يحلم الإنسان أن يكون قادراً على الوقوف أثناء حلمه فى نقطة توازن بين الرغبة والإرادة، بين العلم والخيال، بين الحكمة والعاطفة. الحالم كمن يقود عربة تجرها ستة جياد، لكل منها لجام، فإذا لم يُحكِم قبضته ضل طريقه لإنجاز الحلم على النحو المرجو. احلم، احلم، ولا تكف عن الحلم، لكن لا تفتقد دقة الرؤية، وحسن التدبير، لتبلغ مرادك الذى ترنو إليه. الحلم أقرب إلى هيكل عظمى، لن تكسوه لحماً، وتسرى فى عروقه دماً، إلا بإخضاعه لعقل ذكى متوقد، لا يكف عن التساؤل والدهشة. الحالم رومانسى حين يبدأ حلمه، لكنه لابد أن يتسلح بالواقعية عندما يخطو باتجاه تنفيذه. عندما تنطلق فى حلمك يكون الوجدان هو البؤرة التى تتحرك من عندها، ولكن بمجرد أن تبدأ تحركك فثمة معايير وقواعد لا يضبطها سوى العقل. فى هذه اللحظة، أقصد عندما تشرع فى تحويل حلمك إلى واقع، لا تَحُمْ ولا تَدَرْ، ولكن اقصد من فورك لب الحلم وصميمه، وإلا تاهت خطواتك، بينما يتطلب إنجاز الحلم، والولوج إلى المستقبل الانتقال المحسوب من خطوة إلى خطوة بإدراك كافٍ لكل ما تفعل. عندئذ أنت بصدد لحظة الحقيقة، حلمك الآن من ماضٍ إلى مستقبل يمتطى جسر الحاضر. وأخيراً، كن على يقين أن الحلم فرض عين، لا فرض كفاية، ليبدأ كل إنسان بنفسه، فيمتلك حلمه، ولكن لا تكن أنانياً، فكما تحلم لنفسك، احلم لأسرتك، لعائلتك، لمجتمعك الصغير، لوطنك الكبير، للإنسانية جمعاء. احلموا تصحوا، إذ الحلم يُبدع المستقبل.