تمتلك القاهرة بهاءً ورونقًا يربط بين الماضى والحاضر، التاريخ يتوقف كثيرًا عند الأهرامات وسيرة المصرى القديم، وكيف توصَّل إلى أسرار الطب والهندسة والزراعة وسر تقديسه للبناء والعمران، لقد امتلكت مصر أقدم حضارة وأعظم جيش، واخترعت أقدم وسيلة إعلامية عرفها التاريخ، نقش المصرى القديم أخباره على جدران المعابد ومقابر الملوك لينقل أخباره ويشد انتباه الإنسانية عبر العصور، فانتقلت عظمة المصرى القديم من جيل إلى جيل. وفى خان الخليلى يتقاطع التاريخان القديم والحديث، قبل أكثر من 600 عام قرر الأمير المملوكى جهاركس الخليلى إنشاء الخان، وهو مكان التجار المسافرين إلى مصر فى العصر المملوكى، فتم بناؤه فى قلب القاهرة عاصمة الدولة الفاطمية، وبالتحديد فى قلب حى الجمالية العريق، الذى خرج منه الأديب نجيب محفوظ والرئيس عبد الفتاح السيسى. ولذلك كانت زيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون إلى الحى العريق بصحبة الرئيس السيسى سيرًا على الأقدام وسط ترحيب المصريين مفاجأة لمصر والعالم، لأنها احتوت على عدد من الرسائل الهامة فى وقت شديد الدقة وشديد الصعوبة يمر به العالم؛ وذلك بسبب اشتداد الأزمة الفلسطينية وأيضًا اشتداد الأزمة الاقتصادية بسبب الحرب التجارية العالمية التى اندلعت بين الولاياتالمتحدة من جانب والصين وأوروبا من جانب آخر، التى طالت تبعاتها السلبية باقى الدول، ألمٌ جديد يُضاف إلى الجسد العالمى المنهك بالصراعات والحروب والأزمات الاقتصادية. الرسالة الأولى.. الأصالة تمتلك منطقة الجمالية مخزونًا حضاريًا فريدًا، يجمع ما بين الماضى والحاضر القريب، وهى قلب عملية التطوير الجارية فى منطقة القاهرة الفاطمية، التى تحتضن أهم المساجد والمزارات الإسلامية، وهى أشبه بمتحف مفتوح نابض بالحياة، يعكس العمق الحضارى والأصالة التى تتمتع بها مصر، الأصالة تعنى قوة الدور الإقليمى والدولى العصى على محاولات السرقة أو الإزاحة أو الاستبعاد، فمصر حاضرة بقوتها الناعمة فى كل حدث، وهى الرمز الأهم فى الشرق الأوسط والراعى الحقيقى للسلام والتهدئة فى الإقليم، وتمارس دورها بحكمة وصبر -ولا أبالغ لو قلت وبأخلاق الفرسان- فى العديد من المواقف بحثًا عن حماية الإنسان والمحافظة على حقوقه وحياته وفق آليات الشرعية الدولية وأدوات الدبلوماسية باعتبارها دستور الدولة المصرية فى العصر الحديث. الرسالة الثانية.. الأمن والأمان خان الخليلى منطقة مكتظة بالمصريين والسائحين الأجانب الباحثين عن الهدايا الثمينة ذات الشكل العربى والفرعونى، ولذلك كان مرور الزعيمين الكبيرين سيرًا على الأقدام ووسط الناس رسالة قوية على الأمن والأمان الذى تتمتع به مصر، وكذلك إشارة إلى الروح المصرية المرحِّبة بالجميع والصادقة فى مشاعرها تجاه السائحين والأجانب بصفة عامة، وهى رسالة بالغة القوة على أن مصر نجحت فى حربها على الإرهاب وتتمتع باستقرار وأمن فى الشارع، وذلك بفضل القدرات المتطورة لدى وزارة الداخلية، التى تم اختبارها بنجاح خلال زيارة الرئيس الفرنسى، الذى تنقل داخل القاهرة والجيزة والعاصمة الإدارية الجديدة ثم عاد إلى وطنه من مطار العريش بعد زيارته للمصابين والجرحى الفلسطينيين. الرسالة الثالثة.. تجربة التعايش نقلت وسائل الإعلام حديثًا جانبيًا بين الزعيمين حول طفولة الرئيس السيسى فى حى الجمالية، وكيف احتضن الحى العريق اليهود واليونانيين وغيرهم من الطوائف والجنسيات الأجنبية، التى عاشت فى الأحياء المصرية دون تفرقة، الذين كانوا يعملون فى مهن مختلفة، ويمارسون التجارة دون أية مضايقات كأنهم من أولاد البلد لسنوات طويلة، وذلك وفق صيغة تعايش مصرية صميمة تخبرنا بها كتب التاريخ، حيث كانت مصر عبر التاريخ مأوى كل الهاربين واحتضنت كل المطارَدين بسبب عِرقهم أو ديانتهم، وطرح تلك الصيغة يحمل الإجابة عن سؤال: هل يمكن السلام والتعايش فى الشرق الأوسط بعد كل هذه السنوات من زراعة الكراهية والانتقام المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟، الإجابة: نعم، وصيغة التعايش المصرية مطروحة على الطرفين ويمكن التعلم منها. الرسالة الرابعة.. الاصطفاف الشعبى الرئيس الفرنسى هو الزعيم الأوروبى البارز فى تلك اللحظة، ولديه خبرة التداخل المباشر فى قضايا الشرق الأوسط والأزمة الأوكرانية، ولذلك كانت مشاهدته لحالة الاصفاف الشعبى المصرى -خاصة من غالبية الأحزاب السياسية المصرية بتنوعاتها- الرافض للتهجير القسرى وتصفية القضية الفلسطينية واستنفار المصريين ضد ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية من جرائم لمس أثرها بنفسه فى مستشفيات العريش ذات تأثير مهم على القرار الأوروبى وعامل نجاح لما تقوم به الدبلوماسية المصرية من حشد دولى رافض للخطط الإسرائيلية، وقد ظهر أثره المباشر فى القمة الثلاثية بين مصر والأردن وفرنسا، ثم انضمام الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عبر مكالمة تلقى فيها شرحًا من الزعماء الثلاثة حول حقيقة الوضع، وكان لتلك المكالمة أثر مهم خلال لقاء ترامب مع نتنياهو، الذى تخبرنا عنه الصحافة الإسرائيلية أن نتنياهو خرج خالى الوفاض، وأن ترامب يسعى لحل الأزمة بصفقة وإنهاء الحرب. الرسالة الخامسة.. صلابة الثوابت المصرية منذ اندلاع الصراع فى 7 أكتوبر 2023 ونحن نتابع ثباتًا مصريًا أسطوريًا -بلا مبالغة- فى الحفاظ على الحقوق الفلسطينية والتمسك بحل إقامة الدولتين وفق قرارات الشرعية الدولية، فمصر قالت: لا للتهجير القسرى ولا لتصفية القضية الفلسطينية، ورحبت بالتحركات الأوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وكانت جولة الرئيس السيسى الأخيرة فى أوروبا شاهدة على الدعم والترحيب المصرى بمواقف دول مثل الدنمارك والنرويج وأيرلندا، التى اعترفت بالدولة الفلسطينية، وأكدت أن القضية ما زالت حية، وأن إقامة الدولة الفلسطينية أمر ممكن، وأن مصر تتعامل مع الضغوط السياسية بحكمة وصبر استراتيجى رغم تحدياتها الاقتصادية الصعبة، وأن ثوابتها قوية ودورها الفاعل حاضر وغير قابل للاستبعاد، وأن القوى الدولية تصغى لصوتها وتضعه فى حساباتها. رسائل خان الخليلى هى علامة صحية حية على قوة الدور المصرى فى حل القضية الفلسطينية، وأيضًا على تقديم مصر بصورتها الجديدة كدولة مدنية حديثة ومتطورة تحجز لنفسها مكانًا فى المستقبل، وذلك بقوة التزام صارم بالقانون وقواعد الشرعية الدولية، وماضٍ عريق وملهم يجتذب كل محبى الثقافة والآثار حول العالم، ونموذج فريد للتعايش بين كل الطوائف وأتباع الأديان، وامتلاك القوة للردع بحكمة ورشد.