امتدت شهرة الفنان صلاح السعدني إلى أرجاء الوطن العربي، بفضل ما قدمه من أعمال فنية لافتة بلغت أكثر من 220 عملًا في الإذاعة والتليفزيون والسينما والمسرح، أكد خلالها عمق موهبته وتفردها، وقدرته على التنوع والتجديد والاستمرار، وإيمانه بدور الفنان في خلق مناخ من الوعي والاستنارة، بما يمتلكه من ثقافة واسعة شديدة التنوع، ورغبة في النهل من شتى المعارف الإنسانية، الأمر الذي ميزه عن أقرانه، فضلًا عن تمتعه بوعي أبناء البلد، وروح مُغَامِرة ساخرة مرحة، وحب جارف للفن وللحياة، واستيعابه درس التاريخ، وعمق إدراكه للراهن، وسعيه إلى تقديم جديد يليق بأمة تستشرف آفاق المستقبل، ولعبت الدراما التليفزيونية دورًا كبيرًا في إعجاب ملايين المشاهدين العرب بفنه، من خلال أعماله الكبرى: "أرابيسك، ليالي الحلمية، أوراق مصرية، الناس في كفر عسكر، القاصرت" وغيرها. ولد صلاح عثمان محمد علي عبد الحميد السعدني في حارة سمكة بالقرب من شارع البحر الأعظم بمدينة الجيزة، لأب يعمل موظفًا بسكك حديد مصر، وأم تتمتع بخفة ظل نادرة وسخرية لاذعة، أحاطته بمحبة خاصة من بين عشرة أبناء، وأولت المكان الذي شهد مولده في الثالث والعشرين من أكتوبر 1943 عناية كبيرة وأتحفته بكثير من الزينة، أما شقيقه الأكبر الكاتب الساخر محمود السعدني أهم ظرفاء عصره، فتعهد برعايته منذ ولادته، وازدادت هذه الرعاية أثناء مرض والدهما، واتخذت شكل الأبوة بعد رحيل الأب، فألحقه بمدرسة "العهد المنير" ليتفتح وعيه على عالم جديد، انخرط فيه مع بعض الموهوبين من أبناء جيله، مثل رسام الكاريكاتير "رمسيس" كما تعرف إلى كثير من الطلبة المشاغبين في المرحلتين الإعدادية والثانوية. التحق بكلية الزراعة بجامعة القاهرة رغبة منه في التمثيل، وارتبط بصداقة عميقة مع الفنانين: "سعيد صالح" و"عادل إمام" بعد أن جمعهم حب التمثيل على خشبة مسرح تلك الكلية التي أنجبت عشرات الفنانين، وظل الفنان "نور الشريف" الأقرب إليه فكرًا وثقافة وإطلاعًا، بل إنه تأثر باختياراته للسيارات التي تمتاز بمتانتها وقوة محركها، ومن بينها السيارة "ڤولڤو" Volvoسويدية الصنع، التي اقتناها في مطلع الثمانينات، وشهدت اصطدامه في حائط من الحوائط التي كانت تبنى أمام مداخل العمارات في أعقاب نكسة يونيو 1967، لتحول دون تفريغ الهواء، ومنع تناثر شظايا القنابل التي ترميها طائرات العدو الصهيوني على المدنيين، يومها سقط ركام الحائط فوق مقدمة السيارة، فتم إبعاده وتنحيته جانبًا ولم تصب السيارة أو من بداخلها بسوء. تأثر عمدة الدراما التليفزيونية بثقافة شقيقه الأكبر وسخريته ومحاربة الفساد في شتى المجالات، وشهدت بداياته عناية خاصة بالأعمال الإذاعية، ولفت أسماع الناس إلى اسمه وموهبته، من خلال مسلسلات: "مذكرات المعلم شعبان، قارئ الفنجان، عيون بلاطة، عصر الحب، عشاق لا يعرفون الحب، طريق الذئاب، رحلة مع الأيام، رحلة في الزمن القديم، الولد الشقي" واستمر عشقه للإذاعة بعد تحققه كنجم كبير، وانتقاله إلى "حي العجوزة" ثم إلى "مدينة الشيخ زايد" فقدم في أوج شهرته: "أبو عرام، لم نعد جواري لكم، فارس عصره وأوانه، أوف سايد، قبض الريح، أنا والحبيب" أما بدايته التليفزيونية فيرجع فضلها إلى عبقري الدراما المخرج "نور الدمرداش" الذي قدمه في شخصية "ممدوح" بمسلسل "لا تطفئ الشمس" 1965 وفي شخصية الأخرس "أبو المكارم" في مسلسل الساقية" فحقق انتشارًا ونجاحًا كبيرين، كما قدمه بمسلسل "البقية تأتي" 1966 فسطع نجمه في سماء الفن، وسجل اسمه بحروف من نور في ذلك الميدان من خلال أعماله الخالدة: "القاهرة والناس 1967، أشجان 1970، النصيب 1971، احترق القناع 1972، عادات وتقاليد 1972، المعجزة 1973، الشاطيء المهجور 1975، خان الخليلي، أم العروسة 1976، قرية الرعب، عاصفة على بحر هاديء 1977، قطار منتصف الليل، حصاد العمر، الليلة الموعودة 1978، غريب في المدينة، زيارة ودية، الشوارع الخلفية، أبنائي الأعزاء شكرًا 1979" كما تألق في مسلسلات: "صيام صيام، ولسه بحلم بيوم، قلبي على ولدي، المصيدة، أبواب المدينة، وقال البحر، أديب، أبناء العطش، عصر الحب، بين السرايات، الطريق إلى سمرقند، يوميات نائب في الأرياف، هذا الرجل، بين القصرين، قصر الشوق، الرحاية، شارع المواردي، النوة، حلم الجنوبي، سنوات الشقاء والحب، وجع البعاد، سيرة سعيد الزواني، حارة الزعفراني، عمارة يعقوبيان، عدى النهار، الباطنية" . لا ينسى المخرج "علي عبد الخالق" سيارة الأسعاف التي كانت تنتظر أمام دار سينما "ديانا" أثناء عرض فيلم "أغنية على الممر" 1972 لنقل كثير من المشاهدات إلى المستشفيات جراء إصابتهن بحالات تشنج وإغماء بعد استشهاد الجندي "مسعد" نظرًا لأداء صلاح السعدني المبهر ونجاحه في تجسيد تلك الشخصية التي تشبه جيلًا من شباب المجندين، وكمعظم المصريين عُرف برفضه القاطع للتصالح مع الكيان الصهيوني، وظل حلم عمره أن يجسد شخصية "شايلوك" المرابي برائعة شكسبير "تاجر البندقية" للتنديد بالصهيونية العالمية، أما المخرج "يوسف شاهين" فيقول أنه حينما قرأ رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي لم يخطر بباله غير صلاح السعدني لتجسيد شخصية "علواني"، ومن جانبه صرح السعدني غير مرة أن "سعيد صالح" هو الفنان الذي يحسب له ألف حساب إذا مثل أمامه، وأن "نور الشريف وعبد الله فرغلي وأبو بكر عزت ونبيل الحلفاوي" أكثر أصدقائه ثقافة وإطلاعًا وأقربهم إلى عقله ووجدانه، أما الكاتب "أسامة أنور عكاشة" فيرى أن صلاح السعدني من القلائل المسموح لهم بإضافة ما لم يكتبه إلى نصه، تقديرًا لأفكاره وثقافته وفهمه لطبيعة الشخصية، ويبقى النادي الأهلي حبه الكبير والمؤسسة الرياضية التي يفخر بالانتماء إليها وبرموزها، ويعد من أبرز الفنانين الذين يستغرقهم العمل فيواصلون الليل بالنهار دون كلل، واشتهر بحبه للناس ومساعدة المواهب الفنية الواعدة في مختلف المجالات . مشوار السعدني السينمائي ناهز 70 فيلمًا: بدءًا ب "شياطين الليل 1966، ومرورًا بأفلام: "مدرستي الحسناء، شلة المشاغبين، الرصاصة لا تزال في جيبي، شقة في وسط البلد، حكمتك يا رب، طائر الليل الحزين، خلف أسوار الجامعة، برج المدابغ، الغول، فتوة الناس الغلابة، جبروت امرأة، الشيطان يغني، قضية عم أحمد، فوزية الرجوازية، أولاد الأصول" وصولًا إلى أفلام: "الموظفون في الأرض، الزمار، اليوم السادس، لعدم كفاية الأدلة، زمن حاتم زهران، العملاق، طالع النخل، المراكبي، كونشرتو في درب سعادة" فيما بدأت حكايته مع المسرح عام 1964: من خلال مشاركته بمسرحية "لوكاندة الفردوس" وتوَّج مسيرته بمسرحيات "زقاق المدق، باللو، الملك هو الملك" أما متعته الحقيقية فتكمن في الجلوس في بيته بين أسرته، واللعب بالسيارات الصغيرة مع أحفاده أبناء الفنان والمذيعة أحمد وميريت السعدني، قبل أن يلقى ربه يوم الجمعة 19 ابريل 2024.