نلقى الضوء على سِير أعظم مَن قرأ القرآن وأنشد فى حب الله ورسوله.. هى أصوات من السماء، تلامس الأرواح وتنير الدروب رغم أن صوته رأس ماله، فإنه لم يحزن يومًا حينما أُصيب بمرض شديد فى أحباله الصوتية.. فقد صوته تمامًا، لكنه لم ييأس من رحمة الله بل صبر وشكر. الصدفة وحدها جعلته مشهورًا، والرؤيا غَيَّرت مسار حياته تمامًا، حيث رأى فى منامه - فترة مرضه- أن شخصًا يوقظه ويخبره بأنه سيتعافى لكنه لن يغنى إلا فى مدح الرسول. وُلد محمد الكحلاوى (محمد مرسى عبد اللطيف حسين) فى أكتوبر 1912 بمنيا القمح، توفيت والدته أثناء ولادته، وفى عامه الثانى توفى والده، تناقلته العائلة بينها إلى أن بلغ 3 سنوات، فاستقر مع خاله الفنان محمد مجاهد الكحلاوى فى حى باب الشعرية. عشق فى طفولته الغناء وكرة القدم، وأصبح كابتن نادى «السكة الحديد». وفى السادسة من عمره، حفظ القرآن وأصول التجويد بجامع سيدى الشعرانى، ثم ألحقه خاله بالتعليم الأزهرى. عمل الكحلاوى موظفًا فى السكك الحديدية، ثم ترك وظيفته والتحق بفرقة عكاشة، ومنها بدأت مسيرته الغنائية. وعمل بالإذاعة منذ نشأتها عام 1934، وأنشأ شركة أفلام الكحلاوى، ثم بعد ذلك أفلام القبيلة للإنتاج الفنى.. وفى ال 29 من عمره تزوج بفتاة من أصول تركية، وأنجبا 7 أبناء (5 بنات وولدين)، أكبرهم د.عبلة أستاذة الفقه والعميد الأسبق لكلية الدراسات الإسلامية بالأزهر، وثانى أولاده أحمد الذى ورث الإنشاد عن والده.. وفى عام 1945 كان أول نقيب للموسيقيين، وبعد سنتين تنازل عنها للموسيقار محمد عبد الوهاب.. برزت موهبته الفنية منذ صغره، إذ كان يذهب مع خاله المطرب محمد مجاهد الكحلاوى إلى الأفراح والحفلات، فتعلق بالغناء وأحب الموسيقى، فبدأ فى غناء المواويل الشعبية، وأخذ لقب خاله «الكحلاوى»، والذى كان يرفض أن يسلك ابن شقيقته نفس طريقه.. وفى الثانية عشرة من عمره، بدأ مسيرته الفنية على مسرح فرقة عكاشة، وجاءت الصدفة حين تغيب مطرب الفرقة فى إحدى المسرحيات، فرشحه زملاؤه ليكون بديلًا له، فغنى موال «سبع سواقى بتنعى»، فضمه صاحب الفرقة زكى عكاشة إلى كورال فرقته.. كانت هذه المسرحية هى البداية الفعلية للكحلاوى مطربًا.. سافر الكحلاوى مع الفرقة إلى الشام لإحياء عدد من الحفلات دون علم خاله الذى كان لا يريد له العمل فى الفن، بل التفرغ للمعهد الأزهرى، لكنه لم يعد مع الفرقة بعد انتهاء جولتهم الفنية، وعاش فى الشام لمدة 8 سنوات أمضاها فى تعلم الموسيقى العربية، وأتقن اللهجة البدوية وإيقاعاتها. عاد بعد ذلك إلى مصر فى العشرين من عمره مُحملًا بثقافة موسيقية وثروة تُقدَّر ب 25 ألف جنيه فى بداية الثلاثينيات، ساعدته فى دخول عالم الإنتاج السينمائى. فى عام 1935، اتجه الكحلاوى إلى التمثيل، أنشأ شركة إنتاج سينمائى باسم «أفلام القبيلة».. وفى أوج شهرته، هجر الكحلاوى عوامته الشهيرة على النيل التى كان يقيم فيها حفلاته، وبدأ مرحلة جديدة من حياته الفنية بعد تدينه، وانتقل إلى عالم الغناء الدينى، وتفرغ لهذا اللون من الغناء والتلحين منذ عام 1951.. ويعود هذا التحول إلى رؤيا فى منامه جعلته يترك الشهرة والأضواء ويتفرغ للمديح النبوى فقط، حيث أصيب بمرض فى أحباله الصوتية فقد على إثره صوته لفترة، حتى رأى فى منامه أن شخصًا يوقظه ويخبره بأنه سيتعافى، لكنه لن يغنى إلا فى مدح رسول الله، ولما استيقظ عاد إليه صوته، فقرر أن يعيش ما تبقى من حياته مداحًا للرسول، وسجل تلك الرؤيا فى أغنيته الشهيرة «حب الرسول يابا دوبنى دوب».. ومن ألحانه الدينية فى تلك الفترة: «ملحمة الرسول» التى غناها، وقدمها التليفزيون المصرى عام 1963، وفى عام 1964 قدمها ضمن فعاليات مؤتمر علماء المسلمين بالقاهرة، فأطلق عليه شيخ الجامع الأزهر آنذاك لقب (مداح الرسول). استطاع شيخ المداحين - كما أُطلق عليه- أن يضع لهذا الشكل الغنائى أسسًا وقواعد محددة، فحَوَّله من التواشيح والأناشيد إلى الغناء بتوزيع موسيقى ولحن وفرقة كاملة. قَدَّم الكحلاوى مئات الأغنيات توزعت بين الإنشاد والغناء والسير والملاحم، منها «مدد يا نبي»، و«قاصدك وأنوى أتوب»، و«لأجل النبى»، و«يا قلبى صل على النبي»، وغيرها.