أذهلتنا الحضارة المصرية القديمة بعمقها وعبقريتها في مختلف مجالات الحياة، من الطب إلى العمارة، ومن الدفن إلى التخزين. ومؤخرًا، أعادت الاكتشافات الأثرية في معبد الرامسيوم – معبد الجنائز الشهير للملك رمسيس الثاني – تسليط الضوء على جانب غير مألوف من الحياة الاقتصادية والدينية في مصر القديمة، حيث كشفت البعثات الأثرية عن أقبية ومبانٍ كانت تُستخدم لتخزين زيت الزيتون والعسل والدهون والنبيذ، إلى جانب مقابر من عصر الانتقال الثالث تحتوي على أدوات جنائزية نادرة وتوابيت وتماثيل أوشابتي محفوظة بشكل مدهش. هذا التقرير يأخذنا في رحلة عبر الزمان، نتعرف من خلالها على قصة استخدام المصريين القدماء للزيوت والعسل والنبيذ، وتقنيات حفظها، وأهمية الاكتشافات الجديدة في فهم بنية المجتمع الفرعوني، وتاريخه الاقتصادي والديني. ◄ الزيوت والعسل في مصر القديمة لم تكن الزيوت والدهون والعسل مجرد مواد غذائية في مصر القديمة، بل كانت عناصر أساسية في الحياة اليومية، تُستخدم في الطهي، والعلاج، ومستحضرات التجميل، والطقوس الدينية. ومن بين هذه الزيوت، احتل زيت الزيتون مكانة خاصة. تشير الأدلة الأثرية إلى أن المصريين القدماء كانوا يستوردونه من الشام وكريت في فترات مبكرة، قبل أن يبدأوا في إنتاجه محليًا خلال العصر المتأخر. أما العسل، فقد كان يُعد «طعام الآلهة»، وكان يُستخدم في التحنيط، والدواء، وتحلية الأطعمة والمشروبات. وظهر في نقوش المعابد وواجهات المقابر، كما ورد ذكره في البرديات الطبية مثل بردية إيبرس، التي توضح استخدامه في علاج الجروح والالتهابات. ◄ النبيذ.. مشروب الصفوة والقرابين النبيذ لم يكن منتشرًا مثل البيرة بين عامة الناس، لكنه كان مشروبًا مميزًا يُستخدم في الأعياد والطقوس، وكان يُنتج في مزارع مخصصة داخل القصور والمعابد. وقد حملت الجرار الملصقات التي توضّح اسم المنتِج، والسنة، ونوعية النبيذ، ما يدل على وجود نظام تصنيفي متقدم. وقد كشفت الأقبية التي تم اكتشافها حديثًا في الجهة الشمالية من معبد الرامسيوم عن كميات كبيرة من جرار النبيذ المزودة بملصقات، وهو ما يدل على أن الموقع كان يُستخدم لتخزين النبيذ بكميات كبيرة ضمن نظام إداري صارم. ◄ الاكتشافات الحديثة في الرامسيوم.. مفاتيح لفهم أعمق للحضارة أشارت الدراسات إلى أن المباني والأقبية المكتشفة مؤخرًا كانت مخصصة لحفظ زيت الزيتون والعسل والدهون، إلى جانب أقبية مخصصة للنبيذ. ويُعد هذا الاكتشاف من أهم الإنجازات في العقود الأخيرة، حيث يدل على تطور وسائل التخزين، ووجود نظام اقتصادي متكامل داخل المعبد، يقوم على الإنتاج، والتخزين، وإعادة التوزيع. ◄ المقابر وأسرار عصر الانتقال الثالث كشفت البعثة الأثرية أيضًا عن عدد كبير من المقابر التي تعود لعصر الانتقال الثالث، وتضم حجرات وآبار دفن تحتوي على أوانٍ كانوبية وأدوات جنائزية بحالة جيدة من الحفظ، بالإضافة إلى توابيت متداخلة، و401 تمثال من الأوشابتي المصنوع من الفخار، وعظام بشرية متناثرة. هذه المكتشفات تُظهر اهتمامًا بالغًا بمراسم الدفن في تلك المرحلة المضطربة من التاريخ المصري، وتدل على استمرار الطقوس الجنائزية رغم التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها البلاد آنذاك. ◄ معبد الرامسيوم.. مؤسسة دينية واقتصادية متكاملة لا يُعد معبد الرامسيوم مجرد معبد جنائزي، بل كان مؤسسة ملكية كاملة، تُمارس فيها الطقوس لتقديس الملك رمسيس الثاني في حياته وبعد وفاته، إضافة إلى دوره الإداري والاقتصادي. اقرأ أيضا| اكتشافات جديدة في معبد الرامسيوم.. نبض تاريخ مصر القديمة لا يتوقف وتؤكد الاكتشافات الحديثة أن المعبد احتوى على نظام هرمي دقيق للموظفين المدنيين، ومخازن للمنتجات الزراعية والغذائية التي كانت تُوزع على السكان، والحرفيين، خاصة في دير المدينة، والذين كانوا يعملون تحت إشراف الدولة المركزية. ◄ دور الرامسيوم كموقع متعدد الاستخدامات عبر العصور قبل بناء المعبد في عهد رمسيس الثاني، كان الموقع مأهولًا بالسكان، واستخدم في فترات لاحقة لأغراض أخرى، حيث تحول إلى مقبرة كهنوتية بعد تعرّضه للنهب، ثم استُخدم كمكان عمل لعمال المحاجر في العصرين البطلمي والروماني. هذا التعدد في الوظائف يعكس مرونة البنية التحتية للموقع، وقدرته على التكيّف مع التحولات السياسية والاجتماعية. ◄ مقبرة «سحتب أيب رع».. رؤية نادرة من الدولة الوسطى تمكنت البعثة الأثرية من إعادة الكشف عن مقبرة "سحتب أيب رع" في الجهة الشمالية الغربية من المعبد، وهي مقبرة تعود لعصر الدولة الوسطى، وتُعد من المكتشفات الفريدة، حيث تزيّنت جدرانها بمناظر جنازة صاحبها، ما يوفّر لنا لمحة متميزة عن طقوس الدفن وأفكار الخلود آنذاك. إن أهمية هذه الاكتشافات لا تقتصر فقط على إضافة معلومات جديدة إلى السجل الأثري، بل تفتح آفاقًا جديدة لفهم الدور الشامل للمعبد كمركز ديني واقتصادي وإداري. كما تعكس النظرة الشاملة التي تبناها المصري القديم في بناء مؤسساته الدينية لتكون بمثابة "عالم مصغر" يجمع بين السماء والأرض، بين العبادة والإنتاج، بين الخلود والواقع. ◄ تقنيات الحفظ والتخزين.. عبقرية هندسية إن تصميم الأقبية والمخازن المكتشفة يكشف عن تقنيات حفظ متقدمة، فقد بُنيت بطريقة تسمح بالتحكم في درجات الحرارة والرطوبة، ما ساعد في حفظ المواد العضوية كالزيوت والعسل لفترات طويلة. ويشير هذا إلى معرفة دقيقة بالخواص الفيزيائية لتلك المواد. تُعد هذه الاكتشافات إضافة ثمينة إلى معالم الأقصر، وقد تُسهم في إنعاش السياحة الثقافية، كما توفر مادة علمية ثرية للباحثين في مجالات الآثار، والطب، والتاريخ، والاقتصاد. تكشف هذه الاكتشافات عن عمق الحضارة المصرية القديمة، وعبقريتها في تنظيم الحياة بكل تفاصيلها، من تخزين الزيوت والنبيذ إلى إقامة شعائر الخلود، ومن بناء المعابد إلى إقامة الأنظمة الإدارية والاقتصادية داخلها. معبد الرامسيوم لم يعد مجرد بقايا حجرية، بل صار مرآة تعكس ماضٍ مجيد، وتدعونا إلى الغوص في أسراره لإعادة رسم صورة متكاملة عن حياة المصري القديم، في تفاصيلها اليومية ومفاهيمها الكونية.