بقلم: نعم الباز كنت أعود من مدرسة الحلمية الابتدائية القريبة لمنزلنا، ألقى بالحقيبة وأهرع إلى الكراسة التى نرسم فيها رسومه فقد كان يرسم مذكرات أسمهان التى كان يكتبها أستاذنا محمد التابعى. كانت رسومه من السهل الممتنع، خطوطاً حالمة ووجوهاً معبرة جميلة، وألواناً هادئة، وكانت هذه هى أولى معرفتى بالفنان الكبير حسين بيكار، وحينما دخلت «أخبار اليوم» كنت متشوقة لمعرفته وتمنيت أن أراه وهو يرسم . عرفنى به الكاتب كمال الملاخ، كانت سعادتى بمعرفتى مناسبة مهمة فى حياتي، وجدته نبيلاً عظيماً هادئاً مثل رسومه تماماً، وازددت سعادة حينما وثقت علاقتى بالسيدة الجليلة حرمه، وجدتهما ثنائياً شديد التميز وكأنهما توأم، ولأنه من مواليد الإسكندرية، فقد كانت المدينة تحتفل بعيد ميلاده وكان حريصاً على أن يأخذ مجموعة من رسومه كمعرض صغير هناك . واختار له محافظها السيد نعيم أبو طالب الاحتفال فى قصر انطونيادس ودعانى مع مجموعة من أصدقائه، كان يومها شديد التأثر وهو يقول لنا ونحن فى الطريق : - « أنا مش عارف أعمل لهم إيه ؟ »، ولما وصلنا طلب «استاندات» وعلق عليها اللوحات من مجموعة مُنتقاة من رسومه المبهرة. وبعد الاحتفال فوجئنا بالأستاذ بيكار يهدى مجموعة لوحاته التى لا يقل ثمنها عن مائة ألف جنيه إلى محافظة الإسكندرية، فقال المحافظ : «على كده نعمل أعياد ميلاد كل الرسامين هنا». فرد أحد الحاضرين: «بس مش كلهم بيكار». فقال بيكار بتواضعه: «لا.. هم أحسن منى بكتير». وآخرعيد ميلاد له أقامه محافظ أسوان، وجهزت فرقة النوبة رقصة له خصيصاً باللغة النوبية .. وبعد انتهاء الحفل قال لنا ودموعه تغرق وجهه النبيل: «أنا مش عارف اعمل للناس دول كلهم إيه »! قلت له: «يا أستاذ بيكار أنت فنان كبير وشرف لهم أن يحتفلوا بك». فقال : «إيه يا ماما نعم.. بيكار.. بيكار علشان بيرسم شوية صور يعملوا لي ده كله؟» . رد أحدهم: «يا أستاذ بيكار أنت فنان كبير والاحتفال بك شرف والناس فرحانة بوجودك معهم» . فقال : «يعنى شوية رسوم يعملوا لى ده كله ما كل المصريين بيرسموا ده إحنا من أيام الفراعنة بنرسم وبنعمل تماثيل.. مافيش بيت فى مصر إلا فيه فنان بيرسم أو بيعمل تمثال، والستات بتعمل حاجات جميلة جداً من شغل الكروشيه والكانافاه». كان بسيطاً متواضعاً، والمعارض التى تبدو غير جميلة بلوحاتها التجريدية كان يجد فيها جمالاً فى الخطوط والألوان . وعلاقته بالناس كانت كلها لحظات من النبل والأخلاق الجميلة، الرسم عنده كان كالنهر المتدفق، وعلاقته بالناس مثل رسمه تماماً، لا يجد فى إنسان حوله سوى الأشياء الجميلة، وحينما يصف لك إنساناً ويكون لك عنه تحفظات تجد نفسك منحازاً لكلامه الملئ بالنبل، فعلاً كان آخر النبلاء فى عصره، كان يرسم فى جريدة « الأخبار» كل يوم جمعة ويكتب تحتها أبياتاً بسيطة من الزجل عن الأخلاق والمعاملات وفلسفة الحياة، استطاع أن يخلد مصر فى معظم رسوماته، خلدها فى تسجيله لمعجزة نقل معبد أبو سمبل التى ما زال العالم يتكلم عنها . «الأخبار» - 8 فبراير2013