من نجع المغارة بقرية الأعقاب فى أسوان؛ بدأت رحلة كاتبة آمنت بأن الحكى هو الطريق الأصدق نحو الفهم والمواجهة، فنشرت أولى مجموعاتها القصصية وهى دون الثالثة والعشرين، ولم تتوقف من حينها. خلال تسع سنوات؛ أصدرت سبعة كتب إبداعية تنوعت بين الرواية والقصة القصيرة، وتُوجت تجربتها بجائزة يوسف زيدان لإبداعات الشباب العربي، ووصلت مؤخرًا إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس، لتؤكد أن صوتها، الذى ظنت يومًا أنه لا يُسمع، قد بلغ صداه قلوب القراء. فى معرض القاهرة الدولى للكتاب الأخير، أطلت تيسير النجار على قرائها بعملين جديدين يكشفان عن وجهين مختلفين لتجربتها؛ الأول هو رواية «بثينة» وتتناول عبر صفحاتها عالم القرية المصرية التى ينهشها الكلام، ويقسو فيها المجتمع على النساء بينما يغض الطرف عن أفعال الرجال، وتهديها إلى «ضحايا القيل والقال». أما الثانى فهو المجموعة القصصية «ذلك الطعم البعيد» التى نبعت من تجربتها الشخصية مع مرض السكر، فحوّلت فيها الطعام من حاجة جسدية إلى استعارة شعورية، ورمز معقد للعاطفة، والذاكرة، والحرمان، والمقاومة. فى هذا الحوار؛ تحكى تيسير النجار عن القرى التى تصنع قوالبها الصارمة، والكتابة التى تنقذها من الانهيار، وعن الغضب الكامن فى أبطالها، وعن السطور التى كتبتها بدلًا من البكاء، أو ربما بالتوازى معه. كتبتِ منذ فترة عن مجموعتك القصصية «لا أسمع صوتي» وأشرتِ إلى أن صوتك غير مسموع. هل تشعرين اليوم أنه قد سُمِع؟ نعم. شعرتُ أن صوتى بات مسموعًا بعد كتابة ذلك المنشور، فالتفاعل الكبير مع ما كتبت وردود الفعل التى وصلتني؛ كشفت لى أن هناك كثيرين قرأوا المجموعة وتأثروا بها، حتى وإن لم يكتبوا تعليقات أو مراجعات علنية، فهناك قارئ صامت، لا يُبدى تفاعله، لكنه موجود بالفعل ويقرأ ويتأثر. وأسعدنى – كذلك – أن «لا أسمع صوتي» كانت سببًا فى أن يقرأ البعض «بثينة» و«ذلك الطعم البعيد» وهو ما يشير إلى أن صوتى وصل، ولو جزئيًا، لكنى أتمنى أن أصبح أكثر شهرة وتأثيرًا، وما زلت أحلم بالأفضل دائمًا. كيف كان استقبال «بثينة» و«ذلك الطعم البعيد»؟ أسعدنى جدًا، خصوصًا أننى لم أشارك فى معرض الكتاب، وبالتالى لستُ جزءًا من دوائر المجاملات المتبادلة بأن «أشترى لك وتشترى لي»، والتى لا أراها سلبية بالضرورة. لكن رغم غيابي، فوجئت بأن كثيرين حرصوا على شراء كتبي، ربما لم يقرأها الجميع بعد، بسبب زحمة المعرض وتزامنه مع رمضان، لكننى واثقة بأن ردود الأفعال ستصلنى تدريجيًا. كما أن وجود عمل لى على منصة «أبجد» للمرة الأولى وهو «ذلك الطعم البعيد»؛ أتاح لى الوصول إلى شريحة جديدة من القرّاء، لذا أعتبرها خطوة مهمة واستقبالًا مشجعًا. هل شعرتِ أن وصولك إلى القائمة القصيرة فى جائزة ساويرس قد أرضى جزءًا من طموحك، أم أن الطريق لا يزال طويلًا أمامك؟ بالتأكيد، وصولى إلى القائمة القصيرة فى جائزة ساويرس أسعدني، لكنى ما زلتُ فى بداية الطريق، وأتمنى أن تتاح لى فرص أخرى فى مسابقات وجوائز قادمة، لأن هناك قرّاء يهتمون بمتابعة من وصلوا إلى تلك القوائم، وهذا يساعدنى فى الوصول إلى جمهور جديد ربما لم يكن يعرفنى من قبل، وبالتالى يعد مصدرًا إضافيًا للترويج لأعمالي. لكن، كما قلت، لا يزال الطريق طويلًا، وأتمنى أن تتطور كتابتى باستمرار، وأن يتحسن وضعى الأدبى مع الوقت. تتنقلين بين الرواية والقصة القصيرة، إلى أيّ النوعين تميلين أكثر؟ وهل تخططين مسبقًا لنوعية كتابك القادم، أم تكتبين حسبما يكتمل لديكِ النص؟ فى بداياتى كنت أظن أن كتابة الرواية أمر مستحيل بالنسبة لي. أرى نفسى شخصية سريعة الملل، ولا أتصور أننى سأتمكن من الالتزام بكتابة عدة فصول وتطوير شخصيات والبقاء مع عمل طويل بهذا الشكل. لكن جاءتنى فكرة «كأنك لم تكن» وشعرت وقتها أن القصة القصيرة لا تسعها، وأن شخصية «رغد» تحتاج لمساحة أوسع، فبدأتُ كتابة الرواية، وفوجئتُ بأننى أستطيع فعل ذلك. بعدها أدركت أن الرواية تتيح لى التعبير بحرية أكبر عن تعقيدات شخصياتي، وصارت أكثر قربًا لي، على عكس ما توقعتُ سابقًا. لكن حين جاءت فكرة «لا أسمع صوتي»، كانت سلسلة مواقف ومشاعر متفرقة، وكل واحدة منها تصلح لقصة، فوجدتُ نفسى أكتب قصة بعد الأخرى حتى تكوّنت المجموعة. ومع «ذلك الطعم البعيد»، بدأتُ أكتب عن علاقتى بالطعام، فوجدتُ العمل يتشكل من تلقاء نفسه فى هذا القالب. لهذا لا أميل لتخطيط صارم لنوعية الكتاب، بل أترك الفكرة تقودنى إلى الشكل الذى يناسبها، وأحيانًا الفكرة هى من تختار إن كانت قصة أو رواية، وتحدد النهاية أيضًا. انطلقت مجموعتك «ذلك الطَعم البعيد» من أمر شخصي، وتبدو «بثينة» أيضًا قريبة من تجربة ذاتية، خاصة وأنكِ أهديتها إلى ضحايا القيل والقال. هل تعالجين همومك بالكتابة؟ وكيف لامستِ معاناة القيل والقال فى واقعكِ؟ الكتابة وسيلتى للفهم والتعبير، أنا أؤمن بأن الكتابة وسيلة علاج حقيقية، وأحيانًا أشعر أنها بديل عن البكاء. أكتب فأرتاح، وأحيانًا أكتب فأنهار فى نوبة بكاء هستيرية، لكن فى الحالتين، الكتابة تمنحنى مساحة للتنفّس وسط الزحام. حتى تجربتى مع العلاج النفسى كان جزء منها أن أكتب. أما القيل والقال، فهو واقع نعيشه فى مجتمع القرية؛ نُزوّج ونُطلّق ونُدين ونُبرّئ الناس – فقط – بالكلام، تفوق أهميته الحلال والحرام نفسه. للأسف، فى القرى، القيل والقال هو المتن، والناس هم الهامش. تركتِ مصير «بثينة» بلا نهاية واضحة، وكأنكِ تُوحين بأن الواقع الذى تناولته الرواية مستمر لا أمل فى إصلاحه. هل هذه رؤيتك بالفعل؟ نعم، تركت مصير «بثينة» مفتوحًا، لأن الحياة نفسها لا تملك نهايات واضحة أو سعيدة، ولا توجد نهاية حاسمة فى واقع مثل الذى تعيشه بثينة. فكرة إصلاح الواقع أو تغيير نظرة مجتمع مغلق كالصعيد أو القرى، لا أراها قريبة أو سهلة. قد يبدو كلامى تشاؤميًا، لكنه ينبع من معايشة حقيقية، فحتى الأطفال فى هذه البيئات متشبعين بذات الأفكار، لا يرون أن هناك مشكلة أصلًا، فى حين أن أول طريق لأى تغيير هو إدراك وجود الخلل. حين كتبتُ «بثينة» أردتُ فقط أن أرصد واقعًا يؤلمنى وأشعر أننى لا أنتمى إليه، أحاول بكل جهدى أن أبتعد عنه فى حياتي، لكننى أجد نفسى – بشكل أو بآخر – متورطة فيه دومًا. بثينة فى النهاية إنسانة تحمل ضعفها البشرى الطبيعي، وهذا ما أراه فى الجميع، حتى من قد يبدو أنهم ظلموها، هم أبناء بيئتهم، وتفكيرهم نتاج ظروفهم، أعتقد أنهم لو وُلدوا فى مكان مختلف وظروفه أفضل، لكانوا تصرفوا بشكل مختلف. لسنا ملائكة، نحن فقط نحمل تجارب متباينة، وهذه التجارب تصنع الطريقة التى نرى بها العالم، ونحكم بها على الآخرين. أبطال قصصك ورواياتك يرفضون واقعهم دائمًا، ويحملون قدرًا كبيرًا من الغضب تجاه محيطهم. فماذا ترفض تيسير النجار فى واقعها الشخصي؟ وما الجيد فى هذا الواقع أصلًا؟! أنا أتبنّى تمامًا مقولة الراحل محمود درويش: «لا شيء يعجبني» وأشعر بها بصدق عميق. لا أستطيع أن أقدّم إجابة «مهذّبة» أو مرتّبة، لأن ما أعيشه يتجاوز الترتيب، ويتعلق بإحساس داخلى عميق باللاجدوى. ببساطة؛ أنا غير سعيدة، وأشعر أن الحياة أشبه بفخّ كبير وقعنا فيه جميعًا. أنتِ حاضرة فى كل نص تكتبينه بشكل أو بآخر، لدرجة أن حضورك – بشخصك واسمك – فى «ذلك الطَعم البعيد» كان طاغيًا على القصص. هل تتعمدين ذلك؟ نعم، فى «ذلك الطَعم البعيد» تحديدًا، كنتُ حاضرة بشكل مباشر ومتعمد، لأن الكتاب مستند أساسًا إلى تجربتى الشخصية مع مرض السكر وعلاقتى بالطعام. قررتُ من البداية أن أتكلم بصوتي، وبوضوح، وبشكل صريح، حتى لو كنت أنا الشخصية الرئيسية. أما فى باقى أعمالي، فالأمر ليس بهذا الشكل المباشر، لكن دائمًا هناك نقطة انطلاق تنبع من داخلي؛ فكرة رأيتها أو موقف استوقفنى أو حتى تساؤل ظل يطاردني. مرض السكر يمكن أن يحيلنا إلى الكثير من الأمور. لماذا اخترتِ أن تركّزى فى «ذلك الطَعم البعيد» على علاقتكِ بالطعام تحديدًا؟ صحيح، مرض السكر يرتبط بجوانب كثيرة من الحياة، خاصة فى مراحله المتقدّمة أو فى حالات النوع الأول – لا قدّر الله – وما يصاحبه من تفاصيل الأنسولين والانخفاضات الحادة والمضاعفات الجسدية الصعبة. لكن فى حالتي، كانت التجربة فى بداياتها، والعلاج فيها مرتبط بشكل مباشر بالعادات اليومية، وعلى رأسها الطعام، الذى تربطنا به علاقة حميمية وله قدرة هائلة على التأثير فى النفسية بشكل مباشر، إذ يؤدى الانقطاع عن السكر والدقيق – مثلًا – لأعراض انسحاب حقيقية كالصداع وتقلّب المزاج والاكتئاب. فى قصتك «صوم وإفطار» تستعيدين الذكريات التعيسة – كما وصفتِها – المرتبطة بشهر رمضان. لماذا تُركّزين على الجانب السيء من الذاكرة؟ ولماذا لم تحاولى خلق ذكريات أفضل بأشياء بسيطة، كأن تعلقى الزينة مثلًا كما تمنيتِ فى بداية السرد؟ أعتقد أننى قرأت ذات يوم – ولا أذكر أين بالضبط – أن الذاكرة بطبيعتها تميل لتخزين الذكريات التعيسة أكثر من السعيدة. إلى جانب ذلك؛ نشأتُ فى بيت لم يكن فيه الكثير من الفرح للأسف، كنا نعيش فقط لنُبقى أنفسنا على قيد الحياة، لا لنستمتع أو نخلق لحظات سعيدة، فالمشكلة ليست أننى نسيتُ الذكريات السعيدة، بل إنها لم تكن موجودة أصلًا. لكنني، مع مرور الوقت ونضج الوعي، بدأتُ أحاول أن أخلق لنفسى ذكريات مختلفة، واقتراحك بتعليق الزينة – أو غيرها من التفاصيل الصغيرة – فكرة جيدة وربما أبدأ فى تنفيذها. وأتمنى إذا امتد بى العمر لعشرين سنة قادمة، أن أنظر إلى الماضى فأجد خليطًا من الذكريات بين تعاسة الطفولة وسعادة الشباب. بعض قصصك تعكس مقاومةً واضحة للأدوار التقليدية للمرأة داخل المطبخ. هل ترين أن هذه المقاومة أمر حتمي، أم أنها فى نهاية الأمر خيار شخصي؟ لا أستطيع الجزم بأنها مقاومة حتمية، لأن الأمر يرتبط بالوعى والتجربة الذاتية لكل امرأة. أعرف نساء كثيرات لا يتخيّلن لأنفسهن دورًا خارج المطبخ، بل يرون أن وجودهن فيه هو جوهر أنوثتهن ودورهن الأساسى فى الحياة الزوجية. لذلك، أرى أن المسألة لا تتعلق بالطبخ نفسه، فالطعام ليس شيئًا سيئًا، بل يمكن أن يكون ممتعًا وإشارة محبة، لكن المشكلة حين يصبح واجبًا مفروضًا، وسجنًا لا بديل عنه. أنا أكتب عن ضيق هذا الإطار، وعن شعور المرأة حين يرتبط تقديرها – فقط – بما تقدمه من أطباق، دون الالتفات إلى إرهاقها أو رغبتها أو ظروفها. فى «ذلك الطَعم البعيد» – الذى يُعبّر عنكِ بعمق – نلاحظ أن بطلاتك يفتقدن لمشاعر متعددة، كالدّفء والمشاركة والإشباع. كيف تتغلبين أنتِ شخصيًا على هذه المشاعر؟ أتغلب على هذه المشاعر بتفكيكها والتفكير فيها، دون أن أنزلق فى دور الضحية، فقد أخبرنى شخص ذات مرة أن الحياة ليست مدينة لنا باعتذار، هى كتلة واحدة من التجارب، لا يمكن تجزئتها أو التفاوض معها. أحيانًا أكتب عن هذه المشاعر، وأحيانًا أشاركها مع صديقة مقرّبة بدلًا من أن أتركها مضغوطة داخلى كقنبلة موقوتة قد تنفجر فى لحظة خاطئة، ومع أشخاص لا ذنب لهم فيما أشعر به، لكن تظل الكتابة هى وسيلتى الأولى، والقراءة أيضًا، لأنها تشعرنى أننى لستُ وحدي. بعد مرور بضع سنوات على تخرّجكِ فى الجامعة التى التحقتِ بها بعد أن تحققتِ ككاتبة؛ هل ترين أن التعليم الجامعى أحدث فرقًا فى حياتك وفى كتابتك؟ وهل تفكرين فى اتخاذ خطوات أخرى فى هذا الاتجاه؟ نعم، بالتأكيد. أنا سعيدة جدًا بتجربتى الجامعية، فقد قرأت خلالها كثيرًا، وتعرفتُ على مفاهيم ومعلومات جديدة، ومنحتنى أفقًا مختلفًا فى التفكير والتحليل، وأثّرت بشكل واضح على كتابتي، سواء من حيث العمق أو القدرة على التفكيك وإعادة البناء. حاليًا، طلاب التعليم المدمج – وأنا منهم – كسبوا قضية لتحويل شهاداتهم إلى شهادات أكاديمية، وننتظر تفعيل القرار. إن تم ذلك؛ أنوى استكمال الماجستير والدكتوراه، لأتمكن من فهم نفسى ومن حولى بشكل أعمق، فأنا أؤمن بأن العلاج الحقيقى هو المعرفة. والكتابة فى نظرى لا تقتصر على أن نوثق شكوانا وأوجاعنا، وإنما أن نحاول تفنيدها وتحليلها، وتطوير أنفسنا، ولا سبيل لذلك إلا بالعلم. لو أُتيحت لكِ فرصة تحويل إحدى قصصك أو رواياتك إلى عمل درامى أو فيلم قصير، فأى عمل ستختارين؟ ولماذا؟ سأختار «بثينة» دون تردّد. لأنها رغبة أمى فى المقام الأول، فهى تعبّر بصدق عن البيئة التى أنتمى إليها، الجنوب كما تعرفه أمى وتحلم برؤيته معروضًا على الشاشة بشكل حقيقي، لا مشوّه ولا مجتزأ. وقد راودتنى فكرة الدراما – بالفعل – مرارًا، وكنتُ جادة فى رغبتى بالسعى لتحقيقها، لكننى لم أعرف من أين أبدأ أو كيف أصل. لكنى أؤمن بأن الله قادر على كل شيء. ماذا تكتبين الآن؟ حاليًا، أنا فى حالة من الاسترخاء والتأمّل. أُمهل نفسى وقتًا كى أتنفّس بعد «بثينة» و «ذلك الطَعم البعيد»، وأنتظر أن يقرأ الناس العملين بشكل أكبر، لأستمع لآرائهم ونصائحهم، وأهضم التجربة ككل قبل أن أبدأ الخطوة التالية. ما زال جزء كبير منى ممتلئًا بهذين العملين، ولم أنفصل عنهما تمامًا.