تقوم «كنوز الأخبار» بإعادة نشر بعض الموضوعات الشيقة والمواقف النادرة والتي حدثت في القرن الماضي والتي نشرت في جريدتنا العريقة «الأخبار». ◄ ابتهالات رمضان في الذكرى 48 لغياب أمير القلوب في 30 مارس من عام 1977 حلقت روح العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ إلى خالقها، واهتز كل مكان في مصر والدول العربية بنحيب الحزن ودموع الفراق ولطمت النسوة والفتيات الخدود، وقفزت واحدة منهن من الشرفة حزنًا عليه، رومانسيته سكنت القلوب التى عصرها خبر الرحيل، 48 عاما على مشاهد الحزن النبيل الذى سكن قلوب محبيه، انطلق الناس للشوارع المحيطة بمسجد عمر مكرم، حيث يرقد جثمانه المقبل من بلاد الغربة والصقيع، كانت الجماهير تتدفق كالطوفان لوداع عندليبها الأسمر، أكثر من 2 مليون من محبيه سدوا شوارع وسط البلد وهم يرددون: «لا إله إلا الله عبد الحليم حبيب الله» .. «الوداع يا حليم يا حبيب الملايين» نداءات أشبه بالتى قيلت فى جنازة الزعيم جمال عبد الناصر الأسطورية. ■ عبدالحليم حافظ عندما نحيى ذكرى العندليب ال48 التى تحل علينا فى الشهر الفضيل، نستدعى على الفور الابتهالات الدينية التى سجلها وقدمها هدية للمسلمين فى كل الدول العربية والإسلامية، ابتهالات كتبها الشاعر الصوفي عبد الفتاح مصطفى، ولحنها رفيق دربه الموسيقار محمد الموجى، ولم يتقاض عنها «حليم» أجرا عندما سجلها للإذاعة، كان يعتبرها صدقة جارية، كان فى مخططه أن يسجل 30 ابتهالا تغطى أيام الشهر الكريم، لكن الشاعر عبد الفتاح مصطفى كتب منها 11 ابتهالًا فقط ولم يستكمل الباقي، وشكلت هذه الابتهالات ذخيرة حية تبثها الإذاعة المصرية والإذاعات العربية فى كل رمضان، وصورها بعد ذلك التليفزيون المصرى بما يترجم كلمات كل دعاء وابتهال بلقطات من الأفلام التسجيلية لم يظهر فيها صورة حية للعندليب الأسمر، ومجمل تلك الابتهالات تكشف لنا الجانب الدينى فى شخصية «حليم» ابن القرية المتدين بالفطرة والوراثة عن جدة الشيخ شبانة إمام مسجد قرية «الحلوات» بمحافظة الشرقية الذى عرف عند أهل قريته بأنه المقرئ الذى «تسكت له الطير» عندما يرتل آيات الذكر الحكيم. لنسبح مع «العندليب» فى فضاء الأيام المباركة بابتهال «نفضت عينيا المنام» الذى يقول فيه: - «نفضت عينيا المنام.. وقمت والناس نيام.. وقفت ارتل كلامك.. أغلى وأحلى كلام.. اهدينى يا رب بالقرآن لما يرضيك.. خلينى أحبك وأحبب كل خلقك فيك». ونسبح مع صوته الدافئ بابتهال «أنا من تراب» الذى يقول فيه: - «أنا من تراب.. والإرادة هى سرك فيه.. تنوره بحكمتك وبرحمتك تهديه.. تراب وسرك إذا مس التراب يحييه.. الهمنى حب الخير.. حب الجمال والحق خلينى أقول للشيطان مهما غوانى.. لأ.. علمنى أثبت ولو زال الجبل وانشق.. الهمنى يا رب.. يا ربى سبحانك». ونردد معه ابتهال «أدعوك يا سامع دعائى» الذى يقول فيه : - «يا رب اجعلنى صادق وأقول الحق لو كان مر.. خلينى ما سمعش إلا صوت ضميرى الحر.. بسمة وعزيمة وعمل نافع ما يضر.. يا رب سبحانك». ونشاركه التسبيح فى ابتهال «رحمتك فى النسيم» الذى يقول فيه: - «يا رب سبحانك ورحمتك فى النسيم والظل والميه.. وبتفيض ع الناس رأفة وحنية.. قدرة على كل شىء.. يارب سبحانك». وتعالوا لنستعيد معه ابتهال «بينى وبين الناس» الذى يقول فيه: - «بينى وبين الناس فى دنيتك أحوال.. وانت اللى عالم بضعفى يا ذا الجلال والكمال.. خلينى عبدك لوحدك لا عبد جاه ولا مال.. واحمينى من الحقد من نفسى ومن قالوا وقلنا وقال.. يا رب سبحانك». ويبتهل فى دعاء «ورق الشجر» قائلا: - «ورق الشجر صفحات يا من كتب فيها.. خطوط رقيقة بتوصف قدرتك بيها.. عروق بتنبض حياة إنت اللى محييها.. وكل روح معجزة تشهد بسر الله». ويقول فى ابتهال «الحبة فى الأرض»: - «يا رب سبحانك.. والحبة فى الأرض اجعلها شجر وغصون.. والكلمة تنقال مدن تعمر وتعلى حصون.. وطفل يصبح بطل يحمى الحمى ويصون كل الوجود معجزة تشهد بسر الله». ويشدو العندليب بتبتل وخشوع فى ابتهال «بين صحبة الورد» قائلا: - «بين صحبة الورد شوف أجمل عيون وخدود.. حسان ومتجمعة فى مهرجان مشهود.. لون واعطر وندى ربنا المعبود.. كانت براعم وصحاها جمال الله». أما ابتهال «يا خالق الزهرة» فيقول فيه: - «يا خالق الزهرة فى حضن الجبل.. من فوق لونها ومنظرها اَية للجمال والذوق.. تطلع وتدبل على دمع الأمل والشوق..لا يدرى بيها ولا يعلمها غير الله..سبحانك يا ربى سبحانك ». وفي ابتهال «خلينى كلمة» يذوب العندليب رقة وخشوع عندما يقول: - «يا رب سبحانك.. خلينى كلمة تصحى الناس وتهديها.. خلينى رحمة تمس جراح وتشفيها.. خلينى بسمة تهنى قلوب وترضيها.. خلينى همة خلينى همة لكل عزيمة تحييها». وفي ابتهال «على التوتة» ينشد العندليب: - «ع التوتة والساقية المح كل يوم عصفور.. فرحان يغنى ويرقص للندى والنور.. يا رب سبحانك» . ■ ■ ■ ويتكشف الجانب الصوفى في حياة «العندليب» من القصة التى رواها بعد تعافيه من مرض شديد شخصه الأطباء فى الكبد عام 1956 عندما سئل عن سر الأيقونة التى يحتفظ بها للقديسة «سانت تريزا» فقال إنه رأي في منامه سيدة نورانية تخبره أنه سوف يتجاوز أزمته الصحية ومرت بيدها على الجانب الذى يوجد به كبده وعندما سألها عن اسمها قالت اسمى «تريزا»، وفى الصباح أحس بزوال الألم وطلب من طبيبه إعادة التحاليل والأشعات التى أظهرت نتيجة مختلفة أذهلت الطبيب من تعافى الجزء المصاب فى الكبد وأعتقد أنه أخطأ فى التشخيص، لكن عبد الحليم قال له «أنا أعلم ما حدث»، وهذا يكشف سر اللوحة الرخامية التى تحتفظ بها كنيسة سانت تريزا بشبرا التى يوجه فيها الشكر قائلا: «إلى روح القديسة الطاهرة، القديسة تريزا مع شكرى العميق، عبد الحليم حافظ 1957»، ويلعب «الدبوس» الذى لم يكن يفارق ملابسه المعلق به أيقونة صغيرة جدا للعذراء مريم دورا مهما فى أحاسيسه ومشاعره الدينية الصوفية، وقال إن هذه الأيقونة أهدتها له معجبة قبل صعوده لمسرح قاعة «ألبرت هول» بلندن عندما تغنى برائعة «المسيح» مساندة منه لنضال الفلسطينيين العزل ضد الكيان الصهيونى الغاصب، وكان لهذه الأيقونة مكانة خاصة فى نفسه كان يتلمس فيها كل ما يمكن أن يخفف عنه آلام وأوجاع المرض، وفى منتصف 1976 تدهورت صحته فتوجه إلى المملكة العربية السعودية لأداء «العمرة» قبل وفاته بأشهر قليلة، وكان برفقته الشيخ جميل جلال «مطوف» الملوك والرؤساء، ومدير شرطة مدينة مكةالمكرمة، وتصادف وقتها غسل الكعبة المشرفة فاعتبرها «حليم» نفحة ربانية أتته من حيث لا ينتظر، فدخل الكعبة وصلّى بأركانها الأربعة، ولما عاد للقاهرة قال لشقيقته: «أنا شفت حاجات حلوة بعد ما صليت فى الكعبة، بس مش هقدر أحكى لكم عنها»، واضطره المرض بعدها للسفر إلى لندن فى رحلة العلاج الأخيرة التى أسلم خلالها الروح لخالقها بعيدا عن الوطن.. عبد الحليم حى لا يموت ولا يمكن اختزاله فى كلمات لأنه أمير الحب الذى لا نستطيع أن نحيا بدونه أبدا... رحمك الله يا عبد الحليم، ستظل خالد الذكر فى قلوب محبيك. ◄ جاء الربيع ليرحل أجمل طيور الربيع! ذات يوم أعطيت إجازة إجبارية من عملى فى «أخبار اليوم» وحددت إقامتى فى بيتى، وكان عبد الحليم حافظ يزورنى كل مساء ويبقى عندى إلى ساعة متأخرة من الليل، وقال لى أطباؤه إنه يجب ألا يسهر فكنت أصر على أن ينصرف عند منتصف الليل، وكان يعارض قبل أن ينصرف إلى بيته فألح عليه، قال إنه يكره أن يضع رأسه على الوسادة لأنه حينئذ يشعر أنه لن يقوم ثانية ولهذا لا يدخل إلى السرير إلا إذا أصبح عاجزًا عن أن يقف على قدميه. هذا الشعور باقتراب الموت كان يسيطر على حليم، وكان يخفيه عن أقرب الناس إليه حتى لا يزعجهم، كان يقاوم الموت بشجاعة مذهلة، فلا يكاد يفتح عينيه بعد إغماءة طويلة إلا ويفكر فى لحن أو فيلم جديد. ■ مصطفى أمين لعب دورًا مهمًا في حياة «حليم» عرفته فى بداية حياته شابًا يخطو خطواته الأولى، ولم يكن الطريق سهلًا بل كان مليئًا بالصخور والأهوال، ثم رأيته يبكى على كتفى والسكاكين تغمز فى ظهره لكنه لم ييأس ولم يتراجع، بل مضى يشق طريقه بدمه ودموعه وعرقه وصحته وعناده وصبره، وصل إلى القمة وهبت عليه الأعاصير والزوابع وتشبث بمكانه ودافع عن مجده، بل حاور وناور وتقدم وتأخر واستطاع أن يصعد من قمة إلى قمة. أعرف عبد الحليم حافظ منذ سنوات طويلة عاشها محرومًا من أن يأكل ما يتمنى، مسجونًا داخل زجاجة دواء، وأقراص الأدوية لا تفارقه ليلاً أو نهارًا، أعرفه يبتسم ويضحك ودمه ينزف وجسمه يتمزق.. هو أقوى من المرض لكن أضعف من الموت، ومنذ شهرين علمت من أطباء لندن أن صحته انهارت وأنه لا أمل فى حياته وطلب أن ينشر نبأ انهيار صحته فى الصفحة الأولى فى «أخبار اليوم»، وإذا ببعض الصحف العربية تحسده على مرضه كما حسدته على المجد، فتكتب وتؤكد بأنه ليس مريضًا وإنما هى دعاية لأغنية الربيع التى سيغنيها.. وجاء الربيع ليموت أجمل طيور الربيع. مصطفى أمين «الأخبار» 30 مارس1977 ◄ أطفال الشوارع.. ودموع «العندليب» يروى لنا مجدى العمروسى رفيق عبد الحليم أنه كان يقود السيارة في السابعة صباحًا بشارع سليمان باشا وكان عبد الحليم يجلس إلى جواره، وعندما كانت السيارة تسير بجوار عمارة الإيموبيليا الشهيرة التى يقطنها معظم النجوم ولهم مكاتب بها، فجأة صرخ عبد الحليم قائلاً: «وقف السيارة يا مجدى». ارتبك العمروسى من الفزع الذى أصاب «حليم» وأوقف السيارة جانبًا وهو يسأله: «إيه يا حليم.. فيه إيه؟»، ظل يطل برأسه من نافذة السيارة، وعندما طال الأمر أدارالعمروسى وجه «حليم» نحوه وهو يسأله «خضتنى يا حليم فى إيه؟»! ■ عبد الحليم حافظ ويستطرد العمروسي قائلاً: «وجدت الدموع في عينيه وهو يشير نحو طفلين نائمين على الأرض بجوار مدخل العمارة بملابس ممزقة، وقال بحزنٍ شديد: «تعتقد يا مجدى أنا أسعد من هذين الطفلين أم هما أسعد منى؟ ها أنا أمامك عبد الحليم حافظ المطرب المشهور، أملك المال والنجومية لكننى مضطر أعود إلى بيتى كل يوم فى السابعة صباحا لكى أنام فى هذا التوقيت وأضمن أن أحد أفراد أسرتى مستيقظًا ليسمع جرس استغاثتى إذا هاجمني النزيف وأنا نائم، بخلاف عذاب العمليات والحقن والأدوية والخوف والآلام التى لا يتحملها بشر، وأنا فى انتظار موتٍ أكيد فى كل لحظة، دى مش حياة يا مجدى ده مسلسل عذاب قاس جداً، يبقى مين أسعد أنا ولا همه، والله بتمنى اتحرم من كل ما وصلت إليه وأكون فقيرًا مثل هذين الطفلين بس أنام مرتاح البال». ويقول مجدى العمروسى فى كتابه عن عبد الحليم حافظ: «قرأت فى وجه ودموع عبد الحليم تعبيرات قاسية جداً وإحساسًا مميتًا، كان يتحامل على نفسه ويقاوم مرضه لإسعادنا فى ظل ما كان يعانيه من عذاباتٍ، الله يرحمك يا حليم». ◄ موال محمد طه في رثاء «حليم» تأثر المطرب الشعبى محمد طه برحيل العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، وقد رثاه بعد أيام من رحيله بموال يقول فيه: «خبر وفاتك أليم لوع قلوب الناس / أصبحت أنت الحديث اللى تقوله الناس/ وداع يا عبد الحليم يا حبيب الرجال والناس / أعظم أطبا تعبوا كتير لحياتك / يا نافع الأهل والخلان فى حياتك / أنا كان أملى يطول عمرك وحياتك / ياللى حياتك كانت فرحة لكل الناس/ مين اللى يحيى ليالى الربيع يا نور/ يا ابو اسم غالى وغالى كله نور على نور. ■ محمد طه يارب لجل النبى يخلى قبرك نور/ يا عبدالحليم كان قولك حليم محلاه / لك اسم محبوب فى كل القلوب محلاه/ عايش مابين الملايكة والنعيم محلاه / وفى جنة الله اتهنى برحمه ونور/ يا بو النغم والطرب يا مجدد الموال / صوتك يخلى الملايكه تعشق الموال / ياللى تاريخك عايش قصة مع الموال/ كان صوتك الحلو معنا فى زجل/ والعربى كان سهل وياك كأنه زجل/ متعت كل العرب خالص بأغلى زجل / بالأغنية والزجل والشعر والموال».