الدبلوماسية العمانية .. التوازن والحكمة والثبات على الموقف.. فلسطين واليمن نموذجاً بقلم/ أحمد تركي ... خبير الشؤون العربية تمضي الدبلوماسية العمانية منذ إنطلاقها مطلع السبعينيات، مسترشدة بثوابت ومرتكزات راسخة كرسوخ جبالها وقلاعها التاريخية، متشحة بالتوازن والحكمة والثبات على الموقف، تمد جسور الصداقة مع العالم، وتقيم العلاقات الحسنة والمتكافئة مع الدول المحبة للسلام، ملتزمة بالمواثيق الدولية ومبادئ الأممالمتحدة، وانتهاج الطرق السلمية لحل النزاعات، بما يخدم الأمن والاستقرار العالمي. انعكست هذه الثوابت في السلوك السياسي العُماني تجاه تطورات المنطقة على مدار التاريخ، ولعل من أبرزها القضية الفلسطينية والأزمة في اليمن، فقد كشفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم، المواقف الثابتة للسياسة العُمانية سواء تجاه عدالة القضية الفلسطينية وعدم المساومة أو عبر الجهود الدبلوماسية التي قامت بها سلطنة عمان منذ اليوم الأول لبدء الحرب. ورغم المشهد العالمي المضطرب وما به من استقطابات دولية إلا أن مواقف سلطنة عُمان بقيت ثابتة من القضية ورفضت بشكل قاطع اعتبار حركات المقاومة الفلسطينية منظمات إرهابية. ولعل هذه القضية بكل ما لها من أصوات عالية في العالمين العربي والإسلامي وفي عمق ورغم ما أظهرته سلطنة عُمان من موقف حازم لا يتزعزع تجاه القضية الفلسطينية إلا أنها في الوقت نفسه أكدت في كل المناسبات على أهمية الحوار والحلول السياسية للقضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العالمية. تأتي رؤية سلطنة عمان لخيار الحوار والحلول السياسية للصراعات والحروب الدائرة في العالم من فهم عميق وواضح للديناميكيات المعقدة التي تحيط بالعلاقات الدولية. وتكتسب رؤية سلطنة عمان المتوازنة أهمية مضاعفة في سياق قضايا الشرق الأوسط. المحلل السياسي للمواقف السياسية العُمانية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة، يجد أنها تقوم على فكرة الزج بالمجتمع الدولي في زاوية القوانين والتشريعات الدولية، حيث تنطلق المواقف العُمانية من جوهر قوانين وسياسات المؤسسات الدولية التي تسيطر عليها الدول العظمى. ولطالما دافعت سلطنة عُمان عن خيار الحوار والوساطة بصفتها أدوات أساسية لحل النزاعات، وهذه مواقف تؤكد أن السلام الدائم لا يتحقق بالقوة، بل من خلال التفاهم والتعاون والاحتكام إلى القوانين والمبادئ الدولية والإنسانية. ويمكن الرجوع في هذا السياق لتجارب عملية مارستها سلطنة عُمان عبر وساطاتها في الملف النووي الإيراني وكذلك في الحرب على اليمن، حيث أدت دورا محوريا في اتخاذ خطوات كبيرة وحاسمة للخروج بنتائج جنبت الجميع ويلات الحرب. وفي إطار الأزمات المستمرة في الشرق الأوسط، استطاعت سلطنة عُمان أن تحتفظ بموقفها بصفتها واحدة من البلدان القلائل التي تتمتع بعلاقات جيدة مع جميع الأطراف المعنية عندما يواجه العديد من الدول الأخرى تحديات في الإبقاء على الحوار مفتوحًا، وتبقى هي ملتزمة بدورها المهم في تقريب وجهات النظر. وأكد السُّلطان هيثم بن طارق خلال ترؤسه اجتماعاً لمجلس الوزراء على تضامن سلطنة عُمان مع الشعب الفلسطيني ودعم كل الجهود الداعية لوقف التصعيد والهجمات على الأطفال والمدنيين الأبرياء وإطلاق سراح السجناء وفقًا لمبادئ القانون الإنساني الدولي، وضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته لحماية المدنيين وضمان احتياجاتهم الإنسانية ورفع الحصار غير المشروع على غزة وباقي الأراضي الفلسطينية، واستئناف عملية السلام لتمكين الشعب الفلسطيني من استعادة كل حقوقه المشروعة بإقامة دولته المستقلة على حدود عام 1967م وعاصمتها القدسالشرقية وفق مبدأ حلّ الدولتين ومبادرة السلام العربية وجميع القرارات الأممية ذات الصلة. وفيما يتعلق بالأزمة اليمنية، جاءت تصريحات الخارجية العُمانية أنها تتابعُ بقلق بالغ التصعيد العسكري الأخير في الجمهورية اليمنية وما خلّفه من تداعيات إنسانية وسقوط ضحايا مدنيين، وأعربت عن أسفها لاستمرار الأعمال العسكرية التي تُفاقم معاناة الشعب اليمني وتزيد من حالة عدم الاستقرار في المنطقة. وأكدت سلطنة عُمان موقفها الثابت الداعي إلى اعتماد الحلول السلميّة عبر الحوار والتفاوض، محذرةً من انعكاسات استمرار النهج العسكري على أمن المنطقة واستقرارها. ودعت سلطنة عُمان إلى معالجة جذور الأزمات من خلال حلول سياسية مستدامة، بما يكفل تحقيق السلام والاستقرار والتنمية لشعوب المنطقة، حاثةً جميع الأطراف الفاعلة على تحمُّل مسؤولياتها في التهدئة وتجنُّب المزيد من التصعيد. هذا الموقف العُماني الواضح من الأزمة اليمنية، جاء في إطار المواقف الثابتة والمتزنة من الأزمة منذ إندلاعها، تمثلت رؤية القيادة السياسية في استضافة السلطنة للمفاوضات الخاصة باليمن في أغسطس 2015، والتي وصفها المبعوث الأممي لليمن السابق إسماعيل ولد الشيخ بأنها كانت أول لقاء إيجابي بين أطراف الأزمة اليمنية بعد فشل مؤتمر جنيف، وهذا يدل على رؤية السلطنة الداعمة للجهود الأممية في هذا الصدد، وانتهاج السلطنة مبدأ الحوار ونبذ العنف والتأكيد على ضرورة التفاوض للتوصل إلى حل دائم وعادل وشامل لمختلف القضايا. ولعل تأكيد المبعوث الأممي لليمن على أهمية الجهود العُمانية في هذه الأزمة، يعكس حرص السلطنة على وحدة الأراضي اليمنية والتأكيد على ضرورة نشر السلام في المنطقة، ونزع فتيل الأزمات، ومواصلة جهود التنمية والبناء. تفرد الدور العُماني بوساطة محورية في الأزمة اليمنية، لأن عُمان هي الدولة الخليجية الوحيدة التي رفضت المشاركة في عملية "عاصفة الحزم" عام 2015، وأعربت عن معارضتها للتدخل العسكري في اليمن من خلال الدعوة التي وجهتها لليمنيين كي يتفقوا فيما بينهم لإخراج اليمن من الأزمة، وتأكيدها على الاستعداد للتعامل مع كل اليمنيين والوقف على مسافة واحدة من كل القوى، في سبيل استقرار اليمن. والمؤكد أن سلطنة عُمان تعاطت مع الأزمة اليمنية ومنذ البداية بصورة واضحة وصريحة، ووقفت بشكل ثابت وصادق يؤكد رفضها التام لهدر قطرة دم على التراب اليمني ومن كل الأطراف المتنازعة، فشرعت الأبواب لكل الأطراف واحتضنت العديد من لقاءات التفاوض، وحاولت عدة مرات تقريب وجهات النظر لإيجاد صيغة توافقية لوقف الحرب الدائرة، حيث كانت مسقط بابًا مفتوحًا، ومحطة التقاء مقبولة لدى الفرقاء، يلجأون إليها إذا ما حالت ظروفهم دون الوصول إلى لغة التفاهم والحوار. إلى جانب الجهود الدبلوماسية، قدمت مسقط مساعدات إنسانية وبرامج علاجية للسكان المتضررين من الحرب، وأرسلت طائرات إغاثية. وأكدت عُمان بالعديد من المحافل الدولية التزامها تقديم المساعدات الإنسانية للشعب اليمني لتمويل خطة الاستجابة الإنسانية وجهود الإغاثة للتخفيف من المأساة الإنسانية. وحظيت مسقط بإشادات دولية وأممية بسبب سياستها الحيادية والسلمية، كان آخرها إشارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن إلى الدور القيادي لسلطنة عُمان في التوصل لهدنة بالحرب اليمنية، كما أثنت الأممالمتحدة في وقت سابق على دور الوساطة العمانية في تحقيق سلام اليمن، وأكدت أن الحكومة العمانية تعمل بشكل جاد على إيجاد حلول سلمية للصراع في اليمن.