سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مصر تفاوضت من موقف قوة .. وأجبرت إسرائيل والوسطاء على إعلاء مقترحاتها السفير د. محمود كارم يكشف ل « أخبار اليوم » كواليس مفاوضات ما قبل اتفاقية السلام:
التاريخ كان سيتغير لو وافق الوفد الفلسطينى على حضور مؤتمر «مينا هاوس» يقول السفير د. محمود كارم: إن اتفاقية السلام كانت نبراساً، وأساساً لبناء سلام استمر على مدار 46عاماً. وطوال هذه السنوات التزمت مصر بهذه الاتفاقية احتراماً لتعهداتها الدولية ولأحكام ما وقعته من اتفاقيات، لتصبح مثالاً دبلوماسياً يُحتذى به. ورغم ما تعرضت له مصر قبل إبرامها لهذا السلام من مواقف واستفزازات إسرائيلية لكنها برهنت على أنها دولة صانعة للسلام وتحرص على السلام العادل والشامل وتسوية الصراع العربي- الإسرائيلى ووقف إطلاق النار. ويضيف قائلاً: «استناداً لعلم التفاوض وأركانه، هناك فرق بين التفاوض لإحلال السلام من موقف انكسار وهزيمة .. اقرأ أيضًا| القومي لحقوق الإنسان يؤكد على أهمية حماية وتعزيز الحق في التعليم الجيد دون تمييز والتفاوض من موقف قوة وانتصار عسكرى. وهذا الفرق يؤثر على نتائج المفاوضات. لأن التفاوض من موقف انكسار يعنى ضعف الرصيد السياسى والاضطرار لاتخاذ قرارات غير مدروسة تحت الضغط وقبول معظم مطالب الطرف الآخر، وهذا غير مطلوب. أما التفاوض من موقف الانتصار، كما فى حالة مصر بعد حرب 1973، فإنه يعنى قوة الرصيد السياسى وزيادة القدرة على إملاء الشروط واتخاذ القرارات السليمة المدروسة وزيادة مساحة الخيارات التفاوضية. لذلك منح نصر أكتوبر المفاوض المصرى قوة تفاوضية أكبر مع إسرائيل ومساحة واسعة للتحرك وأجبر الطرف الآخر والوسطاء على احترام وإعلاء المقترحات المصرية». يقول السفير د. محمود كارم إن مفاوضات اتفاقية السلام سبقها عملية كبيرة فى علم التفاوض تُعرف بمرحلة «ما قبل المفاوضات»، ومن أمثلة ذلك ما حدث يوم 27 نوفمبر 1977 وكنت وقتها عضواً فى الوفد المصرى الدائم للأمم المتحدةبنيويورك. وفى ذات الوقت، سكرتيراً لرئيس البعثة، ووزير الخارجية فيما بعد، الدبلوماسى المخضرم، الهادئ الصارم الدكتور أحمد عصمت عبد المجيد. وأذكر أنه استدعانى فى هذا اليوم وكان إجازة للقدوم لمقر إقامته. اقرأ أيضًا| عرض تجربة مشروع رسم مصر في معرض بكلية التربية جامعة حلوان وهناك أبلغنى أنه تلقى رسالة من وزير الخارجية هي» رسالة شفرية» موجهة من الرئيس السادات لمناحيم بيجن، رئيس الوزراء الإسرائيلى وعليه تسليمها فوراً لسفير إسرائيل فى الأممالمتحدة ليقوم بإبلاغها لبيجن، مؤكداً على السرية المطلقة والسرعة والالتزام بعنصر الوقت، لأن إسرائيل ستذيع هذا التحرك فى نشرات الأخبار بعد فترة معينة، وطلب منى فك شفرة الرسالة وترجمتها للإنجليزية وطباعتها دون أن يطلع عليها أحد، وأكد على ذلك مراراً. فذهبت لمكتبى بمقر البعثة فى نيويورك .. وفعلاً تلقيت رسالة سرية للغاية وعاجلة من القاهرة موجهة لسفير رئيس الوفد المصرى، فتوجهت لمكتب سكرتيرة المندوب الدائم بالدور الأول حيث توجد آلة كاتبة قديمة، لا تحتمل الخطأ، وترجمت نص الرسالة للإنجليزية على ورق البعثة وأذكر أننى أخطأت كثيرًا فى الكتابة على الآلة وأعدتها أكثر من 13 مرة لتكون فى أبهى صورة ليسلمها السفير المصرى بشكل لائق. ويضيف: «ما حدث فى نوفمبر 1977 خلق المناخ المناسب لتوجيه الدعوات لعقد مؤتمر السلام بفندق مينا هاوس منتصف ديسمبر 1977 كمؤتمر تحضيرى للسلام». اقرأ أيضًا| سفير أوزباكستان: نقدر دور الخشت في تطوير العلوم بجامعة القاهرة ونأتى للمرحلة الثانية وهى مؤتمر مينا هاوس نفسه، والذى رأسه الدكتور عصمت عبد المجيد بمشاركة الدكتور أسامة الباز، ووزير الخارجية الأسبق عمرو موسى، والسفير عبد الرءوف الريدي، والسفير نبيل العربى، والسفير أحمد أبو الغيط، أمين عام الجامعة العربية حالياً وقامات أخرى من وزارة الخارجية. واكتسب المؤتمر أهمية خاصة لعدة أسباب، فى مقدمتها: حرص مصر على مشاركة الأممالمتحدة فى المؤتمر والإشراف عليه.. واستجابت الأممالمتحدة لطلب مصر، وأوفد كورت فالدهايم، سكرتير عام الأممالمتحدة الجنرال الفنلندى «سيلاسى فيو»، ومعه صديق حميم دولى للوفد المصرى هو «جيمس جونا» وبالتالى ضمنت مصر أن تكون الأممالمتحدة على طاولة المفاوضات بين العرب وإسرائيل. المكسب الثانى كان حرص مصر على مشاركة وفد فلسطينى. فتم توجيه الدعوات للدول العربية المعنية، كالأردن وسوريا، بالإضافة طبعاً لمنظمة التحرير الفلسطينية. وحرصت مصر على مشاركة فلسطين فى المؤتمر، بل ورفع الدكتور عصمت نفسه علم فلسطين خارج مقر المؤتمر مع الأعلام الأخرى، وبالفعل تمت دعوة الوفد الفلسطينى وللأسف لم يحضر، وأعتقد أن التاريخ كان سيتغير لو وافق الوفد الفلسطينى على الحضور وبدأت المفاوضات على قدم المساواة مع الجانب الإسرائيلي، وأتذكر مراراً أحاديث جانبية للدكتور عصمت عندما كان يقول: إنه كان يسمع الإسرائيليين يقولون، أين الفلسطينيون إذا كانوا يريدون حقوقهم، فلماذا لم يأتوا لمؤتمر مينا هاوس. ويتابع د. كارم قائلاً: «الوفد المصرى كان حريصاً على وضع مؤتمر مينا هاوس فى مقامه السليم كمؤتمر تحضيرى يتسق مع ما هو قادم وليس نهاية المطاف، كما كان حريصاً على السعى للدخول فى المفاوضات وإتمام إجراءات انسحاب إسرائيل من كافة الأراضى التى احتلتها بالقوة واستعادتها بالتفاوض استناداً لقرار مجلس الأمن رقم242. فى حين كان الوفد الإسرائيلى يتحدث عن التمهل والدخول فى عوامل لبناء الثقة». وفى المراحل التحضيرية بين مصر وإسرائيل، هناك محطة أخرى مهمة هى اجتماع تم فى الإسماعيلية بعد مؤتمر مينا هاوس وشارك فيه رئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجن. وشهدت هذه اللقاءات مشادة قانونية بين بيجن والوفد المصرى الذى كان يرأسه الرئيس السادات. وبحكمته الكبيرة وعندما فسر بيجن قرار مجلس الأمن رقم 242 بصورة ملتوية منقوصة، أعطى الرئيس السادات الكلمة للدكتور عصمت عبد المجيد ليتحدث عن مفهوم وتفسير الانسحاب استناداً لحيثيات وأحكام القرار ، حيث أعطى درساً قانونياً للوفد الإسرائيلى للتفسير الصحيح للقرار .. وإن كان اتفق فيما بعد على إنشاء لجنتين عسكرية وسياسية للبناء على ما اتُفق عليه .. وتلك محطة أخرى فى مراحل التفاوض قبل التوصل لأحكام اتفاقية السلام. وفى هذه المحطات نلاحظ أن المفاوض المصرى استند على التفاوض من منطلق القوة ومن أرضية قانونية سليمة وكان واعياً لكل «ألاعيب» إسرائيل ويصحح هذه المفاهيم استناداً للشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. ويستطرد موضحاً : «مباحثات الإسماعيلية كانت فارقة، فالخلاف الذى ظهر كان واضحاً كما جاء بمذكرات د. عصمت ود. نبيل العربى، لأن الإسرائيليين وبالذات بيجن كان يفسر الانسحاب الوارد بالقرار 242 بأنه انسحاب لحدود آمنة. والجانب المصرى يفسرها بالانسحاب من كل الأراضى المحتلة، وبالتالى أوضح التفسير الإسرائيلى المغلوط نيتهم فى بدء عملية المفاوضات بحدود دنيا ومنقوصة .. ومن هنا كان على المفاوض المصرى أن يعى طبيعة المفاوض الإسرائيلى ويتمسك بحقوقه وتفسيراته السليمة للقرار الذى يتحدث صراحة عن انسحاب إسرائيل من كل الأراضى المحتلة». وحتى عندما تقدمت المفاوضات تحت الرعاية الأمريكية كان الوفد الإسرائيلى حريصاً على إبراز المشاكل الواحدة تلو الأخرى. منها، مثلاً: مستعمرة «ياميت» التى أصروا على إبقائها داخل الحدود المصرية. بينما كان الموقف المصرى حازماً أنه لا تنازل عن ذرة تراب .. وأن سيناء أرض مصرية خالصة، ولن نسمح على الإطلاق بوجود أى مستعمرة إسرائيلية. وفى إطار التراشق الإعلامى بين الدولتين، استغلت إسرائيل تصريحاً أطُلق باللغة العربية من الرئيس السادات، قال فيه: إنه على الإسرائيليين إزالة مستعمرة ياميت، واتهموه بأنه قال فليحرقوها. وعندما سُئل الرئيس السادات جاوب بذكاء شديد للإعلام الغربي، أنه لم يقل فليحرقوها، وإنما قال فليحرثوها. وكانت هناك مسألة القاعدتين العسكريتين اللتين رفضت إسرائيل الانسحاب منهما إلا بعد أن تأخذ من أمريكا تعويضاً مادياً. وأعتقد أن أمريكا تعهدت بذلك حرصاً على إتمام السلام وإزاء إصرار الجانب المصرى أنه لا تنازل عن ذرة رمل من سيناء. ولا أقول هنا: إن عملية المفاوضات ووضعنا كدبلوماسيين فى الأممالمتحدة فى هذا الوقت كان يسيراً. بل كان دقيقاً وصعباً للغاية وانقلبت الموازين، وقامت بعض الدول باتخاذ إجراءات ضارة ضد مصر لإيمانها بالسلام واعتناقها مبدأ سلام القوة وتحرير الأرض. ويضيف السفير كارم: أن خط المواجهة الأول فى الذود عن الوطن كان الدبلوماسيين البارزين، ومنهم: الوزيرة فايزة أبو النجا التى كانت فى الخطوط الأمامية. والسفير محمود السعيد الذى كان معنياً بمجلس الأمن، والمستشار أحمد حجاج والمستشار سعد الفرارجي. وكنت أنا كالعادة ملاصقاً للسفير المندوب الدائم، و للأسف لمسنا بعض المنغصات فى علاقتنا مع أشقائنا، منها مثلاً، ما كان يدور فى محافل حركة عدم الانحياز، ولم نكن أعضاء فى مكتب تنسيق عدم الانحياز الذى حاول فى إحدى جلساته إقرار تعليق عضوية مصر فى حركة عدم الانحياز. وكانت مسرحية هزلية ، حيث قُدم المقترح فى ساعة متأخرة من الليل بعد مغادرة رئيس الوفد المقعد، وترك رئاسة الوفد لي، حيث تم استهلاك كافة بنود جدول الأعمال والأمور المهمة وفوجئت وأنا على المقعد وتحت بند «أمور أخرى»، بالمُقترح. فتصديت له وقلت فى هذه الجلسة الطويلة: إنه لا يستقيم أبداً على أى مفاوض أن يطرح أمراً بهذه الخطورة تحت مسمى أمور أو بنود أخرى. وإنما كان هناك بند رئيسى أول الجلسة خاص بالشرق الأوسط والعلاقات مع إسرائيل. ولو كان هناك مصداقية ومشروعية كان يجب إثارة هذا البند تحت بند القدس أو بند العلاقات والصراع العربي- الإسرائيلى ودور حركة عدم الانحياز، وفى وجود رؤساء الوفود، لكن أن يُثار بهذا الشكل امر مشبوه ومرفوض وأحمد الله أننى تصديت لهذه المحاولة التى فشلت فشلاً ذريعاً، وأذكر أننى أبلغت المندوب الدائم بما دار وكان الوقت متأخراً، فدعا لاجتماع عاجل لحركة عدم الانحياز فى اليوم التالى وأثُيرت هذه النقاط، وتم الاعتراض بشدة، وطلب معاقبة الوفود التى تجرأت على إدراج هذا البند الخطير ضد مصر تحت هذا المسمى، وتعرضت مصر فى ذات التوقيت لمحاولات لنقل مكاتب الأممالمتحدة للخارج. ويؤكد د. كارم: أن اتفاقية السلام سبقها مفاوضات للتوصل لوثيقتين أساسيتين .. وبناء عليهما وجه الرئيس كارتر الدعوة للرئيس السادات وبيجن لقمة ثلاثية فى كامب ديفيد فى 5 ديسمبر عام 1978. وبعد مفاوضات شاقة، تم التوصل لوثيقتين أساسيتين، أولهما: إطار السلام فى الشرق الأوسط، والثانية: إطار التوصل لمعاهدة سلام بين مصر وإسرائيل، وهى التى أدت لبدء المفاوضات الفعلية بين مصر وإسرائيل، بمشاركة أمريكية فى بلير هاوس بواشنطن فى 12 أكتوبر 1978، للإعداد لمعاهدة السلام، وكان يمكن للوفد المصرى المشارك فى كامب ديفيد الاكتفاء بهذه الوثيقة لو كانت نية مصر السلام المنفرد مع إسرائيل، لكن هذا لم يحدث. والوثيقة الأولى جديرة بالدراسة، لأنها تتضمن كافة المطالب المصرية عن الحقوق غير القابلة للتصرف والعادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، والتى يجب تحقيقها ليحصل الشعب الفلسطينى على حقوقه فى العودة وفى التعويض، وحقوقه فى الوطن والأرض وخلافه، فأعتقد أن الإشارة هنا لأهمية الوثيقة الأولى التى صدرت عن كامب ديفيد، إشارة مهمة تعكس الدور الوطنى القومى والعروبى المصرى دفاعاً عن قضية فلسطين. ويضيف السفير كارم: أن المستشار القانونى للوفد المصرى السفير الدكتور نبيل العربى أتى بفكرة ناقشنى فيها وكلفنى بها مفادها أنه طالما نتحدث عن معاهدة سلام فلماذا لا ندرج ضمن أحكام الاتفاقية بنداً عن ضرورة إنشاء المنطقة الخالية من السلاح النووى بالشرق الأوسط وعدم القيام بأنشطة نووية غير سلمية أو الاحتفاظ بمواد انشطارية ذات طابع عسكرى .. وعدم تخزين أى مواد يمكن استخدامها فيما بعد لأغراض عسكرية .. وعدم السماح بتخزين أى سلاح نووى على أراضى إسرائيل من طرف ثالث وإخضاع مفاعل «ديمونة» لكافة ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وبالفعل قمت بكتابة المقترح مع جعل المسمى ورقة بيضاء حتى لا نؤثر على المفاوضات. فطبعاً نحرص كما قال لى السفير د. العربى على ثوابت الانسحاب واسترداد الأرض، لكن دعنا نحاول إضافة هذا الركن كبند فى صلب المعاهدة، وفعلاً صغت ورقة بيضاء قدمتها للوفد المشارك، لكن الجانب الإسرائيلى رفضها فى ذلك الوقت.