تمر خلال أيام الذكرى السادسة والأربعون لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، التى تم توقيعها فى 26 مارس 1979 بحديقة البيت الأبيض، برعاية أمريكية من الرئيس الراحل جيمى كارتر، وحصل بعدها الرئيس الشهيد محمد أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلى مناحم بيجين على جائزة نوبل للسلام، وتم تصنيفها كواحدة من أنجح اتفاقيات السلام فى العالم، لاستمرارها لسنوات دون خروقات، واستفادت منها الدولتان باتفاقيات اقتصادية، عادت بالنفع على الاقتصادين المصرى والإسرائيلى، حيث استفادت الدولتان من اتفاق الكويز، ومهدت الطريق أمام المزيد من اتفاقيات السلام، وجعلت مصر من أكبر الدول الراعية للسلام فى العالم. نتذكر اتفاقية السلام فى وقت شديد الحساسية والخطورة وفى ظل اندلاع صراع دموى يدخل عامه الثالث دون أفق للحل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتتعامل فيه إسرائيل بوحشية شديدة، وتتجاهل تماما قواعد الشرعية الدولية والاتفاقات الموقعة، وتحاصر الفلسطينيين فى قطاع غزة بالجوع والقتل وفرض خطة للتهجير القسرى من أجل تصفية القضية وابتلاع ما تبقى من الأراضى الفلسطينية، وهو أمر يقضى على فكرة السلام من أساسها، ويدفع المنطقة إلى مزيد من الدمار والخراب.. لا نجاة فيها لأحد. لقد استخدمت كل الأطراف القوة لإنهاء الصراع الفلسطينى الإسرائيلى وفشلت، لم تتمكن إسرائيل من القضاء على تنظيم حماس طوال الأعوام الماضية، بينما التزمت حماس بالحل السياسى، ووافقت على الهدنة وجهود الوساطة، وأفرجت عن المتفق عليه من الرهائن والمحتجزين، وكان من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية الحالية المتطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو توظف الحرب لتحقيق مصالحها الخاصة، وتحديدًا استمرار بقائها فى ظل التجاذب بين أعضاء الحكومة من اليمين المتطرف وباقى الأحزاب، ويكفى النظر إلى الخلاف الدائر فى إسرائيل حول إقرار ميزانيتهم الجديدة وزيادة الأموال المخصصة للوزارات والمكاتب الحكومية غير الرسمية والاستيطان، وذلك لإرضاء أحزاب المتطرفين، وهو ما قد يؤدى إلى تفجر أزمة مالية داخل إسرائيل، خاصة مع الضغوط الاقتصادية المتزايدة والتباطؤ فى النمو الذى تعانى منه إسرائيل. وتواجه هذه الميزانية معارضة شديدة داخل الكنيست، حيث وصفتها النائبة نعاما لازيمى من حزب العمل بأنها سرقة فى وضح النهار، وقالت إن الحكومة تعمل على إرضاء المقربين سياسيًا على حساب المواطنين الذين يعملون ويؤدون الخدمة العسكرية باعتبارها الأكثر قسوة فى فرض الأعباء المالية على الإسرائيليين. اندلاع القتال مرة أخرى فى غزة قبل بدء الكنيست مناقشاته حول مشروع الميزانية الإثنين القادم، مع تحديد التصويت فى القراءة الثانية والثالثة يومى 25 أو 26 مارس الحالى، يؤكد أننا أمام سيناريو سياسى يسعى لتمرير ميزانية الأحلام بالنسبة لنتنياهو ورفاقه المتطرفين، مستغلًا حالة الصراع فى غزة لضمان غلق الأبواب أمام توحيد صفوف المعارضة ورفض الميزانية، لأن فشل تمريرها سيؤدى إلى حل الكنيست وإجراء انتخابات جديدة، وهو سيناريو يسعى نتنياهو إلى تجنبه بأى ثمن. إن الصراع الفلسطينى الإسرائيلى لم يعد يحتمل ألعاب نتنياهو السياسية ولا سيطرة أفكار المتطرفين، فالوضع الإنسانى يتدهور فى القطاع يومًا بعد الآخر، والتوابع السلبية للأزمة الاقتصادية الناتجة عن الصراع طالت الجميع، ويكفى النظر إلى خسائر الاقتصاد المصرى، التى أعلنها الرئيس عبد الفتاح السيسى فى إفطار القوات المسلحة بسبب الأوضاع القلقة فى قناة السويس، حيث تتكبد مصر خسائر خلال العام الماضى بلغت 7 مليار دولار تقدر بحوالى 800 مليون دولار من إيرادات القناة بسبب الأوضاع فى المنطقة، فيما تتحمل أيضا عبء ما يزيد على تسعة ملايين لاجئ فى مصر، وهو ما يضع على اقتصادها ضغوطًا شديدة. لقد اتفق العرب على الخطة المصرية لإعادة الإعمار وحجر الأساس فيها هو التهدئة ودخول المساعدات، وقدم الرئيس السيسى فى خطابه المهم أمام القمة العربية تجربة مصر الناجحة فى السلام لتكون النموذج الأمثل، لأن كل الأطراف تعلم أن الحل النهائى والشامل للصراع لن يحدث بدون إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وهو ما اتفقت عليه قواعد الشرعية الدولية، وهناك دول بالفعل أعلنت اعترافها بالدولة الفلسطينية واستأنفت علاقاتها الدبلوماسية معها، يبقى التعويل على الولاياتالمتحدة لتعود راعية للسلام فى وجود الرئيس دونالد ترامب، الذى يسعى باجتهاد كرجل سلام لإنهاء كل الحروب كما وعد خلال حملته الانتخابية. على كل أطراف الصراع تذكر مسار سلام الشجعان الذى صنعته مصر، ولخصه الرئيس السادات فى خطابه الشهير أمام الكنيست الإسرائيلى بقوله: «السلام لنا جميعًا، على الأرض العربية وفى إسرائيل، وفى كل مكان من أرض هذا العالم الكبير المعقَّد بصراعاته الدامية، المضطرب بتناقضاته الحادَّة، المهدَّد بين الحين والحين بالحروب المدمِّرة، تلك التى يصنعها الإنسان، ليقضى بها على أخيه الإنسان. وفى النهاية، وبين أنقاض ما بنَى الإنسان، وبين أشلاء الضحايا من بنِى الإنسان، فلا غالب ولا مغلوب، بل إنَّ المغلوب الحقيقى دائما هو الإنسان، أرقى ما خلق الله. الإنسان الذى خلقه الله، كما يقول غاندي، قدّيس السلام، «لكى يسعى على قَدَميه، يبنى الحياة، ويعبد الله» .