في قلب الحضارة المصرية القديمة، لم تكن التوابيت مجرد أوعية لحفظ الجثامين، بل كانت قطعًا فنية مفعمة بالرمزية الدينية والعقائدية. من بين هذه القطع الفريدة، يبرز نموذج لتابوت صغير يحتوي على تمثال أوشابتي للكاتب الملكي أمنحوتب المدعو حوي، أحد الشخصيات البارزة في عصر الدولة الحديثة، الأسرة الثامنة عشرة (1550 - 1070 ق.م). هذا التابوت، المصنوع من القيشاني، يُعد شاهدًا على الحرفية الدقيقة والفن الراقي في عصره، إلا أن رحلته عبر الزمن لم تكن سلسة. فقد تعرض للكسر خلال أحداث يناير 2011، حيث عُثر عليه محطّمًا إلى عدة أجزاء في حديقة المتحف المصري بالقاهرة. غير أن جهود المرممين أعادته إلى حالته الأصلية، ليظل شاهدًا على عظمة الحضارة المصرية وقدرتها على الصمود أمام تقلبات الزمن. في هذا التقرير، نلقي الضوء على هذا التابوت الفريد، أهميته التاريخية، وظروف العثور عليه وإعادة ترميمه، ودلالاته الدينية والثقافية. من هو أمنحوتب المدعو حوي؟ كان أمنحوتب المدعو حوي كاتبًا ملكيًا بارزًا خلال عهد الدولة الحديثة، وهي الفترة التي شهدت ازدهارًا غير مسبوق في الفنون والعمارة والإدارة. شغل العديد من المناصب الإدارية، وكان مسؤولًا عن تسجيل الشؤون الرسمية والمراسلات الملكية، وهو منصب يتطلب ذكاءً ودقةً عالية. يشير اسمه "أمنحوتب" إلى ارتباطه بالملك أمنحوتب الأول أو الثالث، وكلاهما كان لهما تأثير كبير في تاريخ مصر القديمة. أما لقب "حوي"، فقد يكون لقبًا شخصيًا يميزه عن غيره من الكتبة. ◄ الخامات والتصميم المادة: قيشاني مصقول، وهي مادة خزفية كانت تُستخدم في صناعة التماثيل الصغيرة والمجوهرات في مصر القديمة. الأبعاد: صغير الحجم، مما يشير إلى أنه لم يكن تابوتًا للاستخدام الجنائزي التقليدي، بل ربما كان جزءًا من طقوس جنائزية أو رمزًا للأبدية. التصميم: التابوت مستطيل الشكل، مزخرف بنقوش هيروغليفية تحمل أدعيةً جنائزيةً، بينما يحتوي بداخله على تمثال أوشابتي، وهو تمثال صغير كان يوضع مع المتوفى ليقوم بخدمته في الحياة الآخرة وفق المعتقدات المصرية القديمة. ◄ دلالات الأوشابتي كان الأوشابتي يُصنع بأعداد كبيرة، حيث كان يُعتقد أنه سيؤدي الأعمال المطلوبة من المتوفى في العالم الآخر. كُتب على التماثيل عادةً نصوص دينية تدعوها للعمل نيابة عن صاحبها عندما يُطلب منه القيام بمهام زراعية أو أعمال في العالم السفلي. وجود أوشابتي للكاتب الملكي أمنحوتب المدعو حوي يعكس مكانته الرفيعة، إذ كان هذا النوع من التماثيل مخصصًا للنخبة والكهنة والمسؤولين البارزين. ◄ أحداث يناير 2011 وتأثيرها على الآثار المصرية شهدت مصر خلال أحداث يناير 2011 اضطرابات أمنية كبيرة، وكان من بين القطاعات المتضررة قطاع الآثار. تعرّض المتحف المصري في ميدان التحرير إلى عمليات نهب وتخريب، فقدت خلالها بعض القطع الأثرية، بينما تعرضت أخرى للكسر أو التلف. اقرأ أيضا| حكاية متحف| «المتحف المصري الكبير» صرح عالمي يحتضن كنوز الحضارة المصرية كان هذا التابوت من بين القطع التي عُثر عليها مكسورة إلى عدة أجزاء في حديقة المتحف المصري، مما أثار مخاوف من فقدانه نهائيًا. إلا أن فرق الترميم بذلت جهودًا مضنية لإنقاذه، وإعادة تجميع أجزائه بدقة عالية للحفاظ على قيمته التاريخية. ◄ عملية الترميم بدأت عملية الترميم بجمع الأجزاء المتناثرة ودراستها بعناية. استخدمت تقنيات حديثة لإعادة لصق القطع دون الإضرار بالخامة الأصلية. جرى تنظيف السطح الخارجي وإعادة إبراز التفاصيل الدقيقة للنقوش. تم توثيق التابوت بعد الترميم ليكون شاهدًا على التحديات التي واجهتها الآثار المصرية وكيفية التغلب عليها. ◄ البعد الديني يعكس التابوت مفهوم الخلود في الديانة المصرية القديمة، حيث كان يُعتقد أن الأوشابتي يساعد المتوفى في أداء أعماله في العالم الآخر. النصوص الجنائزية المنقوشة على التابوت تعكس الإيمان بحياة ما بعد الموت والاستعداد لها. ◄ البعد الفني والتقني يُظهر هذا التابوت مستوى عالٍ من الحرفية في صناعة القيشاني، وهي تقنية متقدمة استُخدمت في عهد الدولة الحديثة. يمثل التابوت أسلوب الزخرفة المتقن والنقوش الهيروغليفية الدقيقة التي تميزت بها تلك الحقبة. ◄ البعد التاريخي ينتمي التابوت إلى الأسرة الثامنة عشرة، وهي إحدى أعظم الأسرات التي حكمت مصر، واشتهرت بحكامها العظماء مثل أحمس الأول، تحتمس الثالث، حتشبسوت، وأخناتون. اكتُشف في أبيدوس، وهي مدينة مقدسة لعبادة أوزيريس، مما يعكس الأهمية الدينية لهذا الموقع في تلك الفترة. يُعد تابوت الكاتب الملكي أمنحوتب المدعو حوي واحدًا من الشواهد التاريخية التي تعكس عظمة مصر القديمة، ليس فقط من حيث الفن والعمارة، ولكن أيضًا من حيث المعتقدات الدينية والثقافة الجنائزية. ورغم تعرضه للتلف خلال أحداث 2011، إلا أن عملية ترميمه أعادت له بريقه، ليظل شاهدًا على صمود التراث المصري في وجه الزمن والتحديات. إن قصة هذا التابوت لا تعكس فقط إبداع المصريين القدماء، بل أيضًا جهود الأثريين المصريين في حماية تراثهم واستعادة ما فقد منه. واليوم، يقف هذا التابوت كجزء من الإرث الحضاري الذي تفتخر به مصر، وكدليل على أن التاريخ، مهما تعرض للتحديات، يبقى خالدًا بفضل من يسعون للحفاظ عليه.