في القرن الرابع الهجري كان (أبو الوفاء البوزجاني) عالم الرياضيات والفلك، يصوم نهار رمضان، ويقضى لياليه ناسكًا يرسم الزخارف الهندسية لمسجد بغداد، وكتب فى مذكراته: «كل خط أرسمه هو خطوة أقرب إلى فهم سر الاستواء فى الكون كما خلقه الله». وفي القرن السابع رأي ابن عربي أن التكرار فى الزخرفة الإسلامية إشارة إلى أن الخلق يعاد خلقه فى كل لحظة. ورأى فيه متصوفة آخرون ذكرا يعاد فى الصباح والمساء. ووصف أبو حيان التوحيدي الفراغات التى تحيط الزخارف بصمت العابد بين تكبيرة الإحرام والقراءة، وأنها تذكر بالعدم الذى خرج منه الوجود. ◄ إخوان الصفا: هى باب معرفة النفس وأصل كل علم ◄ رسامو الزخارف كانوا يرددون سبحان الله مع كل منحني ◄ عالم حوّل صومه إلى فن.. وعامل بناء خلط الطين بتمر الصيام ◄ نقابات الحرف الإسلامية ارتبطت تاريخا بالطرق الصوفية ■ الزخرفة الإسلامية تعكس فكرة التوحيد ارتبطت الهندسة الإسلامية بالروحانية، ليس فقط لعلاقتها بالعمارة الدينية، ولكن لأنها عكست توازن النظام الأساسي للكون ممثلا فى تكوينات رياضية، جمعت جمال الشكل وعمق ورمزية المعنى. وقد أبدعها الفنان المسلم معتمدًا على الفرجار والمسطرة، وصنع عالمًا من تكرارات لا نهائية، لا يصطبر على إنجازها إلا ناسك قادر على الانسحاب من العالم المادى، والدخول فى حالة تأملية لساعات، مع التركيز الشديد. وهو ما يجعل العمل أقرب إلى صلاة، تعزز السمو الروحى، كما تؤكد الحكايات عن مبدعى تلك الفنون. ■ المقرنصات تمثيل لذرات الكون التي تتماسك بقدرة الخالق ◄ الميزان يعرف الفلاسفة فضل الرياضيات منذ العصور القديمة، حتى أن أفلاطون كتب على باب مدرسته لا يدخلها إلا من كان عالما بالهندسة. حيث لا يمكن للعقل أن يتعمق فى فهم الحقائق المجردة دون تمرس بها. ويقول «إخوان الصفا» إن دراسة الهندسة المحسوسة تؤدى إلى المهارة فى جميع الصناعات العملية، أما دراسة الهندسة المعقولة فتؤدى إلى المهارة فى الصناعات العقلية، وهى باب لمعرفة جوهر النفس، الذى هو أصل كل علم. ويبدو السر الأعمق للهندسة الإسلامية أنها لا تقدم شكلا بل فكرة. فالنمط المتكرر يذكرنا بقول ابن عربى: «الكون كله هو أسماء الله الحسنى المتعددة بلا تكثر.» ويشرح أبو حامد الغزالى فى كتابه «كيمياء السعادة» أن النجمة الثمانية فى زخرفة المساجد ليست مجرد شكل، ولكنها استعارة للفيض الإلهى الذى لا ينقطع، حيث يمثل كل ضلع صفة من صفات الله، والفراغ بينها هو الحجب التى تمنع الإدراك المباشر للذات الإلهية. وتبدأ الهندسة الإسلامية من نقطة ارتكاز الفرجار، ومن ثم تكون الدائرة، والتى تتحول إلى نجمة خماسية أو سداسية أو سباعية أو ثمانية، وأكثر من ذلك. ويجرى تقسيم الدائرة بالأقواس، أو الخطوط، لتتشكل مجموعات غير محدودة من التقاطعات التى تخلق أشكالا، تتمدد إلى ما لا نهاية، بحيث لا يكون بوسع العين إلا أن تراها كوحدة واحدة، وهو جوهر التوحيد فى فلسفة الفن الإسلامى. كما أن هذه الهندسة تقوم على الأرقام والصيغ الرياضية التى هى لب الوجود والأساس الذى يتراءى الخلق وفقا له، مما يجعل منها معادلا بصريا لقوانين الخلق. ولذلك فهى تجسد «الميزان» حيث كل شىء خلق بقدر. ■ الهندسة تأثرت بالأفكار الدينية ◄ رموز عكست الهندسة الإسلامية الأفكار الدينية، ومنها المقرنصات التى مثلت فهم الذرات عند الأشاعرة، كوحدات يتكون منها كل شىء، وتتماسك معا بإرادة الله وحده، حيث الكون عابر، والقدرة المطلقة لله. وهو ما توازى مع استخدام بعض الفلاسفة المسلمين للرياضيات والهندسة كأساس لفلسفاتهم، مثل «الكندى» الذى حل بعض المشكلات الفلسفية رياضيا، و»الطوسى» الذى شرح انبثاق الخلق من وحدانية الله مستخدما الهندسة. وهو ما جعل منها حوارا عمليا ومرئيا بين العلم والفن والأفكار والعقيدة. حتى أن الزخارف الهندسية لعبت دورا سياسيا كخلفية جمالية مشتركة وجامعة للحكام شبه المستقلين فى العصر العباسى، وذلك على خلاف ما حدث بعد ذلك مع ظهور العثمانيين الذين سعوا لتأكيد اختلاف هويتهم بأنماط نباتية طبيعية، وانحصرت الأشكال الهندسية فى استخدامات محددة. كذلك استكشف «الحلّاج» فى أعماله المبكرة -الرمزية الصوفية للهندسة. ورغم انتقاد الصوفية للفلسفة التى تقوم على الرياضيات، لأنهم رأوها مغرقة فى العقلانية، وتحجب المعرفة الحدسية القلبية، إلا أنهم رأوا فى الهندسة لغةً سريةً لفهم الوجود، كما فى المربع الذى يرمز للمادة والأرض، والنجمة التى ترمز للروح والسماء. ■ كتاب المباني مذكرات معمار سنان ◄ روحانية في كتاب «تذكرتي البنيان» الذى ضم مذكرات «معمار سنان»، ذكر أنه كان يبدأ يومه بصلاة الفجر، ثم يمسك بآلات القياس لرسم مخططات مساجده. وأنه أثناء بناء جامع السليمانية، رفض استخدام أى خشب إلا بعد تلاوة آية الكرسى عليه، لتصبح المادة «طاهرة» بالذكر. كما رمز بقبة المسجد المركزية إلى توحيد الكون تحت سلطان الله، وكأن البناء نفسه حالة من التسبيح والصلاة الدائمة. وفى دراسة بجامعة قرطبة بعنوان «روحانية الفن الأندلسى» ورد أن الفنانين الذين رسموا الزخارف الهندسية، كانوا يرددون «سبحان الله» مع كل منحنى يرسمونه حتى لا تنسب الصنعة لغير الخالق. كما ورد أن زخارف «بهو الأسود» كانت تنقش قبيل صلاة العصر، ثم يتوقف الفنانون للصلاة، ويعودون ليكملوا الرسم مستلهمين ضوء الشمس الذهبى، مما جعل الخطوط تبدو وكأنها مضيئة من الداخل. وقيل إن الأوراق المُجردة فى قصر الحمراء لا تصور الطبيعة المادية، بل تجسد الطبيعة كما فى عالم السماء، الذى يمكن فهمه من خلال عالم المثل الأفلاطونى. والفنان المسلم لا يريد أن يقلد الخلق مباشرة، ولكنه يبتكر نباتا لا وجود له إلا فى الملكوت السماوى. وفى مخطوط «أخبار فاس» لابن أبى زرع، حكى عن «فاطمة بنت الفهرى» العالمة الفاسية التى أشرفت بنفسها على زخرفة محراب جامع القرويين، وكانت تختار آيات السكينة مثل «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، لتكتب بدرجة من الأزرق تشبه لون السماء عند الفجر حتى يشعر المصلى، وكأنه يقرأ فى الغيم. وتتجسد فكرة البناء كنوع من العبادة فى حكاية شعبية من عصر المماليك، حيث أراد أحد البنائين الأتقياء فى القاهرة أن يجعل عمله قربانا لله، فخلط طين القباب بتمر صيامه. وروى العامة أن الحائط ظل يطلق رائحة المسك فى رمضان حتى القرن التاسع عشر. والمهم فى كل تلك الحكايات هو إبراز النية خلال ممارسة العمل، وهى حاضرة فى العديد من حكايات تاريخ الفن الإسلامى. وقد روى عن عالم الرياضيات «عمر الخيام» والمشهور كشاعر برباعياته أنه سئل عن سبب عدم رسم وجوه الأنبياء، والاكتفاء بالزخارف، فقال «لأن الوجوه تزول، أما الهندسة فهى لغة الله الباقية». ■ من مسجد الرفاعي بالقاهرة ◄ تكامل يتساءل الكثيرون عن جمال مسجد قرطبة، وتتعدد الآراء حوله، غير أن السر يكمن فى تناغم أبعاده مع النسبة الذهبية (1.618)، وهى نفسها النسبة الموجودة فى تكوين الأوراق النباتية وأعضاء جسم الإنسان، وتتلاقى مع الآية الكريمة من سورة التين «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ». وهى النسبة التى استخدمها «دافينشى» ورفاقه فى عصر النهضة الأوروبى بعد ذلك، وكانت أحد أسرار جمال أعمالهم. ويعتبر «توماس بارى» عمارة الأماكن المقدسة وسيلة اتصال، ووكيلا نشطا لتجسيد الحقائق الميتافيزيقية بما يدعم التجربة الروحية. وهو ما يتوافق مع المنظور الإسلامى للممارسة الإبداعية والتى تقوم على إدراك الشكل من خلال التوافق مع النظام الإلهى. وهى عملية تعتمد على الإلهام الروحى، وتشبه حالة التذكر الحدسية لعالم المثل الأفلاطونى عبر القلب وليس العقل ولا الحواس. وقد التقط بعض المستشرقين كون الأعمال الهندسية للمتصوفين ترجمات لأفكارهم وإسقاطات لتأملاتهم الروحية، ومثال ذلك بعض أشكال النجمة السباعية وامتداداتها. ■ من مسجد نصير الملك في شيراز ومن المثير أن تطابق بلاطات «بنروز» الحاصل على نوبل 2011، عن بلاطاته السباعية التى اكتشفها فى سبعينيات القرن العشرين، وهى نفسها أساس البنية الجزيئية لبعض السبائك المعدنية. ويقدم الفن الإسلامى تصورا مجردا ومتساميا بشكل مطلق لألوهية تتجاوز الزمان والمكان، على خلاف تجسيدية فنون دينية أخرى. ووفقا لبحث أجرته «لورا يو ماركس» فإن الجمالية الإسلامية تقوم على تكشف الظاهر من الباطن وتجد صداها فى مصطلح «الطى» المستعار من الفيزياء الكمومية، وأيضا فى نظرية الفيض عند الأفلوطينية المحدثة، وخصوصا عند «بلوتينوس». ■ منمنمة تصور عملية البناء في العصور الإسلامية لذلك ليس غريبا أنه وطوال قرون، كانت نقابات الحرف الفنية الإسلامية مرتبطة بالطرق الصوفية. كما أن تعليم الحرفة كان يتضمن طقوسا وسلوكيات وأخلاقيات وأدبا روحيا، وممارسات طقوسية قبل بدء عملهم. ومنها زيارة قبور بعض الأولياء ممن ارتبطوا بالحرفة. وأيضا الصلاة والقراءات، والأذكار الإيقاعية لتنظيم الوقت. هذا التكامل بين الممارسة الروحية والإبداعية كان له أثره على الارتقاء بالحرفة، وساعد الحرفيين على استقبال الإلهام. وكلتا الممارستين الروحية والإبداعية هما فى النهاية وسيلة لاستقصاء للذات، وإشباع الاحتياجات الروحية. وهو ما يمكن أن يفسر اضمحلال هذا الفن، مع غياب الجانب الروحى من ممارساته.