وهكذا يتحول غالبيتنا - للأسف الشديد - إلى ضحايا لتخمة الطعام المؤلمة، وتخمة المشاهدة الظالمة للمسلسلات فى رمضان.. دعونا نعترف أن القليل منا من يملك شجاعة ومقدرة النأى بالنفس، بعيداً عن الموجات المتدفقة والكاسحة من المسلسلات والبرامج الترويجية، المحملة بكل ما هو مرئى ومسموع على كل القنوات الأرضية أو الفضائية المنبعثة من التليفزيون طوال شهر الصوم، الذى تحول بقدرة قادر لشهر المسلسلات والبرامج من كل لون وكل صنف، بغض النظر عما تحمله هذه المسلسلات وتلك البرامج فى طياتها ومضامينها من ثمين الكلام والمعانى والدلالات أو غثها. وحقيقة الأمر وواقع الحال يؤكدان أن قليلاً منا من يملك القدرة على ضبط النفس، والنأى بها عن الإنخراط فيما انخرط فيه بقية خلق الله من الأهل والجيران والأصدقاء، من الجلوس طوال ليل الشهر الكريم جاحظى الأعين محدقين فى ذلك الفيض المتدفق على الشاشة الصغيرة، حاملاً معه ذلك الكم المنهمر من الوقائع والأحداث الدرامية المحتشدة والمتزاحمة فى جرعات متتالية، خلال ما بعد الإفطار وحتى ما قبل الفجر بقليل. حكمة وفلسفة الصوم وقليل منا أيضاً من يستطيعون الفكاك من أسر الانخراط فى تناول الطعام والشراب أثناء الإفطار وما بعده، والنجاة من مخاطر التخمة وسوء الهضم، الذى ينتاب عموم الناس وخاصتهم طوال الشهر الفضيل، نتيجة عدم القدرة على ضبط النفس، والوقوع فريسة النهم الزائد عن الحد، فى التهام أكبر قدر من صنوف الطعام والشراب، غير مقدرين لما يمكن أن يصيبهم، ولا متحسبين لعاقبة أفعالهم وتكلفتها الباهظة. وهكذا يتحول غالبيتنا-للأسف الشديد-إلى ضحايا لتخمة المشاهدة الظالمة، وتخمة الطعام المؤلمة فى ذات الوقت، بالقصد ومع سبق الاصرار والترصد، مع الاستسلام الإرادى لهذا الوضع البائس طوال الشهر، على عكس الفلسفة والحكمة الدينية والروحية والإنسانية التى شرع من أجلها الصوم فى الشهر الفضيل،...، فإذا بنا نمارس فيه للأسف نوعاً متطرفاً من السفه فى الاستهلاك بكافة أنواعه وأنماطه المادية والمعنوية. والمثير للأسف فى هذا الأمر، أننا نتجاهل أن ذلك الذى نفعله يتناقض مع حكمة الصوم وفلسفته، ويتضاد مع الأهداف والأسباب الروحية العظيمة، التى فرض الله علينا الصوم من أجلها، وجعله ركناً من أركان الإسلام الخمسة، كما أنه يتناقض فى ذات الوقت مع ما كنا درجنا عليه وتعلمناه، من احترام كامل لمبنى ومعنى شهر الصوم، وإدراكنا اليقينى بأنه شهر للعمل والتأمل والعبادة، وفرصة سانحة للاجتهاد فى فعل الخير، والتقرب إلى الله، والإبحار فى كنوز المعرفة والعلم والثقافة الدينية والروحانية والدنيوية أيضاً. ولعلنا نلاحظ، أننى قد جعلت العمل فى المقدمة من المدركات بحكمة الصوم، وذلك اتساقاً مع ما جاء فى محكم آيات القرآن الكريم، وكذلك فى صحيح السنة النبوية المشرفة، من الحض على العمل والإرتفاع بقيمته، باعتباره واجباً ملزم الأداء على أحسن صورة ممكنة،...، وأحسب أن أحداً لا يستطيع الإدعاء بأن شهر رمضان هو شهر الكسل أو الإهمال فى العمل، أو أنه شهر للتراخى فى أداء المسئوليات والواجبات، أو أنه شهر للاستهلاك السفهى الزائد عن الحد مادياً أو معنوياً. واقع الحال وإذا ما أردنا رصداً أميناً للواقع فى مجريات حياتنا طوال شهر رمضان، فيجب أن نقول بكل الصدق، أننا نرى ونعايش ذلك الاستسلام شبه الكامل والإرادى من غالبيتنا، على تحويل مقاصد هذا الشهر الفضيل، من إعلاء القيم الإنسانية والروحانية السامية، إلى الارتماء فى أحضان السفه والتخمة وسوء الاستهلاك، بل والتسابق فى ذلك إلى درجة تثير الرثاء فى النفس، ولا نبذل جهداً لوقف ذلك أو تبديله، أو حتى الإعلان عن رفضه أو عدم قبوله. واللافت للنظر فى هذا الشأن أن هذا السلوك أصبح فى تكراره، بل وتصاعده عاماً بعد عام، يكاد أن يكون عادة ثابتة من عاداتنا فى بر مصر، وأصبح وكأن شهر رمضان هو المرادف الموضوعى لهذا السلوك الغريب، بل أصبح كافياً أن يذكر شهر رمضان حتى يقفز إلى الذهن طوفان المسلسلات والبرامج التليفزيونية، التى تطل علينا من كل حدب وصوب، كما يقفز إلى الذهن فى نفس الوقت كميات ونوعيات الطعام التى يسارع خلق الله فى بلدنا لجلبها إلى موائدهم،...، وهنا للأسف لابد أن نشير إلى المسئولية النسبية للفئات القادرة منا عن ذلك. وفى هذا السياق، أصبح من المألوف أن نرى حرصاً حكومياً، وسباقاً بين الوزارات، على التأكيد قبل شهر رمضان بأسابيع، بل ببضعة شهور، عن الإعلان المتكرر والمستمر عن توافر السلع التموينية والاستهلاكية بصفة عامة، وذلك لزوم الاستهلاك المتوقع والزائد عن الحد فى شهر رمضان،...، والذى وصل كما تقول الجهات الرسمية إلى ما يقارب ثلاثة أضعاف الاستهلاك فى أى شهر آخر غير رمضان. والمثير للانتباه أن هذا السباق أصبح قائماً بين الحكومة والصحف وأجهزة الإعلام، حيث تتسابق الصحف فى نشر أخبار السلع والموضوعات المتصلة بوفرتها، والإعلان عن كل ما يتصل بذلك من تصريحات للمسئولين فى هذا الشأن،...، وأيضاً تتبارى القنوات الأرضية والفضائية فى ذات الوقت فى الإعلان عن كم المسلسلات والبرامج التى يجرى إعدادها للعرض طوال أمسيات الشهر الكريم،...، تلك هى الصورة الواقعية لما يجرى ويحدث طوال رمضان.. للأسف. طريق التقدم وقد يكون هذا الرصد قاسياً فى مرارته ووقعه على نفوس البعض أو الكثيرين منا،...، وآمل أن يكون كذلك بالفعل، ولكن عزائى فى ذلك أنه رصد صادق وأمين لواقع الحال، رغم قسوته ومرارته، وعزائى فى ذلك أيضاً أن الدافع وراء هذا الرصد هو تسليط الضوء من جانبى على قضية أساسية، أراها جديرة بالاهتمام والتركيز فى ظل ما نراه ونشاهده ونلمسه من اختلاف الحال بيننا وبين دول وشعوب كثيرة فى العالم من حولنا، وخاصة تلك الدول والشعوب التى نراها تقفز فى كل يوم درجات عديدة ومتسارعة على طريق التقدم والحداثة، بينما نحن لا نفعل، بل لا نتحرك بنفس القدر على ذات الطريق.. وهو طريق العمل الجاد والمتواصل بصفة دائمة، والأخذ بالعلم والتكنولوجيا منهجاً وطريقاً. وفى هذا الإطار علينا أن نأخذ بالقاعدة التى أخذت بها كل الدول والشعوب المتقدمة والساعية على طريق التقدم،...، تلك القاعدة التى تقول ببساطة، إن العمل والعلم هما الطريق الوحيد والأداة المتاحة أمام الجميع، للانتقال بالأفراد والمجتمعات والشعوب والدول من واقعها السيئ الذى تعيش فيه إلى واقع أفضل على المستويين الإقليمى والدولى.. وإن ذلك هو الطريق والوسيلة المتعارف عليها، والموثوق بها، للتطور والتحديث واللحاق بركب الدول المتقدمة.. تلك حقائق وقواعد ثابتة فى يقين العالم أجمع، آن الآوان أن تترسخ فى وجداننا نحن أيضاً، إذا ما أردنا الارتقاء بوطننا، والانتقال به من دائرة الدول النامية إلى دائرة الدول الأكثر نمواً.. ومن بعدها إلى مصاف الدول المتقدمة والحديثة والمتطورة.