رانيا جعفر على مدار العقدين الماضيين، أنتج الفنان سامح الطويل مجموعة واسعة من الأعمال الفنية عابرة الوسائط، والتى تستكشف مسائل كالهوية الثقافية، والهجرات الجماعية، والاستعمار (الجديد). بدأ الطويل مسيرته الدولية من خلال معهد جوته بالقاهرة - فى أوائل الألفية الثانية، مما طور ممارساته الفنية القائمة على السرديات التفاعلية العابرة للوسائط. تداخلت تجربته الذاتية مع أعماله مضيفة بُعداً إثنوغرافياً على فنه، الذى تمحور حول التفاعل الحى مع الوسائط السمعية والبصرية، لاسيما الوسائط الحديثة والعروض الأدائية الحية. العروض الأدائية التى يقدمها الطويل تتسم بالطابع الذاتى التفاعلي، إذ يؤديها بنفسه، سواءً عبر العزف على البيانو - آلته المفضلة - أو عبر تفاعل مباشر مع واجهات تفاعلية مادية، حيث تتحول الأشياء العادية إلى وسيط نشِط بين الفنان وعالمه. تعكس عروضه الحية تفاصيل الحياة اليومية بتعقيداتها، مثل سرديات المنفى ومآسيه المضطربة، أو التأملات المؤلمة حول الموت والاعتلال الجسدي، وحتى القيود الاجتماعية والسياسية المفروضة على الفرد فى ظل الأنظمة الرقمية الشمولية المهيمنة. لطالما كان الطويل شغوفاً بتقنيات الصور المتحركة والوسائط الرقمية، التى تطورت بنيتها الجمالية من استخدام الفيديو الرقمى منخفض الدقة، مشابهاً حركة فن الفيديو فى الستينيات، إلى استلهام جماليات كاميرات المراقبة فى التسعينيات، ووصولًا إلى تقنيات الأفلام الحديثة ثم المرئيات التوليدية للأنظمة المُبرمجة اصطناعياً التى تكتسب حياة مستقلة على الشاشة وداخل «الآلة». هذه التحولات تعكس وعياً نقدياً بالكيفية التى تؤثر بها التكنولوجيا على نظرتنا على العالم، وعلى أجسادنا وهوياتنا. فى معرضه الاستيعادى الأخير «اضطراب» فى نسختيه بالقاهرة والإسكندرية، يواجه الزائر تجربة بصرية وتركيبية تجسد الفوضى والانتقال والانتماء. فعمله التركيبى «مستعد للرحيل» هو تجسيد رمزى لحالة الترحال والبداوة المعاصرة، حيث يعرض سيارة «فيات 128» قديمة محمّلة بأغراض شخصية مغلفة بلدائن بلاستيكية، مضاءة بأضواء «نيونية» تربطها بالفضاء الحضرى وثقافة الشارع المصري. الجسد والتكنولوجيا وعصر ما بعد الإنسانية ترى لورين بيرلانت أن البنية التحتية هى الوسائط الحية المنظمة للحياة، وهذا ما يتجسد فى أعمال الطويل، حيث يعيد التفكير فى علاقة الإنسان بالتكنولوجيا التناظرية أو الرقمية. تكشف ممارساته عن الجسد ككيان محتل، معزول تحت وطأة الضغوط الجيوسياسية، الاقتصادية، والتكنولوجية فى هذا السياق، يتحول معرض «اضطراب» إلى مختبر مفتوح يتفاعل فيه الجسد البشرى مع عوالم «أخرى»، ليصبح جزءاً من نظام بيئى معقد، يعكس هشاشة الإنسان فى مواجهة تقنيات كالواقع الافتراضى والذكاء الاصطناعي. يتجلى هذا التفاعل فى مشاريع الطويل مثل «هويات مختلطة» حيث يتعرض مفهوم الذات للبيئات الرقمية التوليدية، حيث تتشابك الهويات وتتلاشى الحدود بين الحقيقى والافتراضي. الاضطراب كمنهج فنى ونقد لما بعد الحداثة الرقمية يتبنى الطويل بنية ريزومية، مستلهماً مفهوم جيل دولوز، حيث تظل مشاريعه الفنية مفتوحةً «أو تفكيكية»، لتتفاعل مع التقلبات السياسية والتكنولوجية، فتصبح الوسائط المستخدمة جزءاً من الرسالة، فى مواجهة القوى الإمبريالية والرأسمالية «التقنية»، التى تسعى إلى محو الذاكرة الجمعية وتشكيل هويات مهيمنة. الحدود وإعادة التمثيل تتناول أعمال الطويل قضايا الاستعمار المعاصر والهجرة من خلال الوسائط المتعددة والحديثة. فى «ليس للبيع» يُعاد تمثيل سياسات الحدود والمراقبة، حيث يُعرض صف من المهاجرين فى مشهد مبتور البداية والنهاية، يعكس دوام حالة الانتظار التى يعيشها اللاجئون. كذلك فى عرضه «هوية بيضاء» و«وثائق عبودية» تُناقش أعمال الوسائط الجديدة الاستعمار التكنولوجى عبر تحليل عمليات الذكاء الاصطناعى المرتبطة بالصور التقنية، فيُترجم التفاعل الجسدى إلى لغة وصوت فى سرد غير موثوق لذاكرة جماعية، وتمسى «ذاكرة الألم» نقطةً محوريةً بعد تجارب شخصية من التحولات والهجرة والاغتراب. يمثل معرض «اضطراب» نقداً قوياً للحياة الرقمية المعاصرة، حيث تتداخل التكنولوجيا مع الأزمات الإنسانية والجيوسياسية العالمية. لم تعد المنصات التقنية كيانات محايدة، بل أصبحت عوالم تكنولوجية حسية، تستقل بالحياة وتعكس جسد الإنسان وتجربته العاطفية. يحتوى معرض «اضطراب» على سلسلة من التجارب الفنية الثرية والمتولدات البصرية، والتقنيات عابرة الوسائط حيث ينغمس الفرد الرقمى داخل بيئات تقنية متعددة التأثيرات، تتجسد فى أشكال افتراضية تتحدى مفهوم الثبات والهويات المستقرة. فى النهاية، يتحول التنقل الرقمى إلى كينونة فى حد ذاته، تُعيد تشكيل الذات ضمن الإيكولوجيا الرقمية للرغبة (بمفهوم ديلوز) كما فى مشروع «فوضى»، لا شيء ثابت، بل كل شيء يتحول. يتجلى المعرض كسلسلة من التكوينات الفنية، والتركيبات الفركتالية، والبُنى البصرية، مدعومة ب تكنولوجيات التحول المستمر، وهى دراسة لحالة الترحال خلال التقاطعات المتنوعة بين التكنولوجيا والعاطفة، تعكس الطبيعة المتغيرة للصور والتمثيلات والأنظمة الرقمية والهوية البشرية، ما يجعلها بمثابة إيكولوجيا متطورة للرغبة والوجود الهائم فى عصر ما بعد الرقمية.