شهد التاريخ الاسلامي، بعض الفتن الخطيرة التي هددت الدولة الاسلامية الوليدة ومزقت الصف الواحد للعرب بعد رحيل الرسول صل الله عليه وسلم. وكانت العناية الآلهية حاضرة بقوة وحفظت الإسلام والمسلمين من الفتن والمؤامرات التي كانت تحاك لهم في الظلام من حثالة البشر وأعداء الدين، وفي السطور التالية نتعرف على واحدة من هذه الفتن الكبرى وكيف تغلب عليها المسلمون بقوة عقيدتهم وثبات ايمانهم. «سيكون فى أمتى كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبى، وأنا خاتم النبيين لا نبى بعدى»، هكذا أخبرنا النبى محمد صل الله عليه وسلم فى أحد أحاديثه الشريفة رواه أبو داود والترمذى، عن الذين يدعون النبوة. وظهر المدعون، مبكرًا، فقد شهد صدر الإسلام، وكان النبى محمد عليه الصلاة والسلام لا يزال على قيد الحياة، العديد من الشخصيات الذين ادعوا النبوة، أمثال طليحة بن خويلد الأسدى، والأسود العنسى، ولقيط بن مالك الأسدى، ومسيلمة الكذاب، ولعل الأخير أشهر الشخصيات التى وردت فى التاريخ الإسلامى ممن ادعوا النبوة. و»مسيلمة» رجل من بنى حنيفة اسمه مسيلمة بن ثمامة، كان قد تسمى بالرحمان فكان يقال له رحمان اليمامة، وكان يعمل كثيراً من أعمال الدجل، وادعى النبوة فى عهد النبى صل الله عليه وسلم، وشهد له أحد أتباعه أنه سمع الرسول صل الله عليه وسلم يقول: إنه أشرك معه مسيلمة فى الأمر، وتبعه كثير من أهل اليمامة، وخاصة من بنى حنيفة، وكان يدعى الكرامات، فأظهر الله كذبه ولصق به لقب الكذاب، وأراد إظهار كرامات تشبه معجزات النبى صل الله عليه وسلم، فأظهر الله كذبه فيها. فقد ذكر ابن كثير في البداية أنه بصق في بئر فغاض ماؤها، وفي أخرى فصار ماؤها أجاجا، وسقى بوضوئه نخلا فيبست، وأتى بولدين يبرك عليهما فمسح على رأسيهما فمنهما من قرع رأسه ومنهما من لثغ لسانه، ودعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما فعمي، وقد قتل لعنه الله في حديقة الموت بمعركة اليمامة أيام خلافة أبي بكر الصديق، وقيل: إن عمره حينئذ كان يناهز مائة وخمسين سنة، وقيل: إن الذي قتله وحشي بن حرب قاتل حمزة رضي الله عنه يوم أحد، وقعت معركة اليمامة أو معركة عقرباء سنة 11 ه من الهجرة / 632 م في عهد أبي بكر الصديق. واليمامة إحدى معارك حروب الردة، وكانت بسبب ارتداد بني حنيفة وتنبؤ مسيلمة الحنفي الذي ادّعى أن النبي قد أشركه في الأمر، ومما قوى أمر مسيلمة شهادة الرجال بن عنفوة الذي شهد له - كذبا - أنه سمع رسول الله يشركه في الأمر. وقد وجه أبو بكر الصديق عكرمة بن أبي جهل لقتاله، ولما فشل عكرمة ولم يستطع الصمود أمام جيش مسيلمة، تراجع. ولما بلغت أنباء هزيمة عكرمة لشرحبيل بن حسنة، آثر الانتظار حتى يصله المدد من خليفة المسلمين، وظل في مكانه حتى يأتيه خالد بن الوليد في جيش جمع عددا من كبار الصحابة والقراء، فلما سمع مسيلمة دنو خالد ضرب عسكره بعقرباء فاستنفر الناس فجعلوا يخرجون إليه حتى بلغوا 40,000 رجل تبعه أكثرهم عصبية، حتى قيل أن بعضهم كان يشهد أن مسيلمة كذاب وأن محمداً رسول الله لكنه يقول: «كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر». وفي الطريق إلى اليمامة، التقى خالد وجيشه بفرقة من جيش اليمامة، خرجت للثأر لبني عامر عثر المسلمون عليهم وهم في ثنية اليمامة نائمون، فسألهم عن مسيلمة، فردوا «منكم نبي ومنا نبي» فأمر خالد بقتلهم جميعًا عدا مجاعة بن مرارة لعله يستفيد من خبرته ومكانته في قومه. كانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة وراية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس والعرب على راياتها. فكان بينهم وبين المسلمين يوم شديد الهول ثبت فيه بنو حنيفة وقاتلوا عن أنفسهم وأحسابهم قتالاً شديداً، حتى انكشف المسلمون وكادت الهزيمة تلحقهم لولا رجال من ذوي الدين والحمية الدينية الذين ثبتوا وصرخوا في الناس: «يا أصحاب سورة البقرة يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال»، وقال سالم مولى أبي حذيفة: «بئس حامل القرآن أنا إذا لم أثبت». وأمرهم خالد بأن يمتازوا حتى يعلم من أين يُؤتوا. فأثارت هذه الصيحات روح الاستشهاد في نفوس المسلمين، فحملوا على جيش مسيلمة حملة استطاعوا أن يزحزحوا جيوشه عن موقفهم الأول. ثم شد المسلمون حتى فر بنو حنيفة إلى الحديقة التي تسمى «حديقة الرحمن» وكانت منيعة الجدران فتحصنوا بها إلا أن المسلمين استطاعوا أن يقتحموها بمعونة البراء بن مالك الذي رفعوه فوق الجحف برماحهم واستطاع فتح باب الحديقة ودخل المسلمون وهم يكبرون، فقتل فيها مسيلمة وكان قاتله هو وحشي بن حرب قاتل حمزة بن عبد المطلب فيما قيل، وقد قتل في هذه المعركة خلق كثير من جيش المسلمين. وكانت المعركة فاصلة وفيها انتصر المسلمون وهزم أعداؤهم بعد معركة من أعنف المعارك قتل فيها مسيلمة وأربعة عشر ألفاً من قومه (سبعة آلاف خارج عقرباء وسبعة آلاف في الحديقة) والتي سميت بعد ذلك بحديقة الموت وقد استشهد في اليمامة ألف ومائتا شهيد منهم زيد بن الخطاب والطفيل بن عمرو وأبو دجانة وسالم مولى أبي حذيفة وابي حذيفة وعبد الله بن سهيل يزيد بن ثابت الأنصاري وغيرهم كثير من كبار الصحابة. اقرأ أيضا: معارك في ذاكرة التاريخ .. معركة القادسية الأسود العنسى عبهلة بن كعب بن غوث العنسى المذحجى المعروف باسم «الأسود» و»ذى الخمار» وهو مدعىٍ للنبوة، ووردت سيرته فى تاريخ الطبرى للمؤرخ الطبرى وكذلك فى كتاب البداية والنهاية لابن كثير وكتب السيرة النبوية المختلفة. كان فى قبيلة مذحجفى اليمن فى عام (10ه/ 631م)، واسمه عبهلة بن كعب العنسي، من قبيلة عنس، ويكنى بذى الخمار؛ لأنه كان دائما معتمًا متخمرًا بخمار رقيق ويلقيه على وجهه، ويهمهم فيه، ويعرف بالأسود العنسى لاسوداد فى وجهه. وتكمن قوة الأسود العنسى فى ضخامة جسمه وقوته وشجاعته، واستخدم الكهانة والسحر والخطابة البليغة، فقد كان كاهنًا مشعوذًا يُرِى قومه الأعاجيب، ويسبى قلوب من سمع منطقه، واستخدم الأموال للتأثير على الناس، وقد واجه الأسود العنسى معارضة تمثلت فى الجماعات المسلمة من مذحجالتى انسحبت مع فروة بن مسيك المرادى إلى الأحسية (موضع باليمن)، وانضم إليه من انضم من المسلمين، وكتب إلى رسول الله بخبر الأسود العنسي، وانحاز كل من أبى موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى حضرموت، أما فى منطقة حمير، فقد كان لجهود ذى الكلاع، وآل ذى لعوة الهمدانيين، دور فى الاحتفاظ بالنفوذ الإسلامي، وقد وقفوا ضد عك بتهامة، وقد ظل الأسود العنسى مدعيًا النبوة مدة ثلاثة أشهر، وفى رواية أربعة أشهر، ارتكب خلالها الحماقات، وفضح النساء وأنزل الرعب، والخوف فى قلوب اليمنيين. طليحة الأسدى من قادة حروب الردة بعد وفاة النبى محمد سنة 11 ه،ادّعى النبوة فى قومه بنى أسد وتبعه بعض طىء وغطفان فى أرض نجد، إلا أنه هزم مع أتباعه على يد خالد بن الوليد فى معركة بزاخة ودخل الإسلام على إثر ذلك. كان ممن شهد غزوة الخندق فى صفوف المشركين. أسلم سنة تسع، ثم ارتد وادعى النبوة بعد وفاة النبى، وتبعه بعض القبائل فى أرض نجد. وكان طليحة بن خويلد الأسدى من بنى أسد بن خزيمة قد تنبأ فى حياة رسول الله - صل الله عليه وسلم - فوجه إليه النبى - صل الله عليه وسلم - ضرار بن الأزور عاملا على بنى أسد ، وأمرهم بالقيام على من ارتد، فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه ، فضربه بسيف ، فلم يصنع فيه شيئًا ، فظهر بين الناس أن السلاح لا يعمل فيه ، فكثر جمعه . ومات النبى - صل الله عليه وسلم - وهم على ذلك ، فكان طليحة يقول: إن جبرائيل يأتينى، وسجع للناس الأكاذيب ، وكان يأمرهم بترك السجود فى الصلاة. سجاح بنت الحارث كانت سجاح متنبِّئة وعرافة، وهى واحدةٌ من طائفة المتنبِّئين وزعماء القبائل الذين ظهروا فى الجزيرة العربية قبل الردَّة أو خلالها، ونستدلُّ من نسبها الذى اتَّضح من تاريخها بأنَّه صحيح، أنَّها كانت من بنى يربوع أحد بطون تميم، وأمَّها من بنى تغلب فى العراق؛ وهى قبيلةٌ اعتنق معظم أفرادها النصرانية نتيجة احتكاكهم بسكان إقليم الفرات، أقامت سجاح بينهم، وتزوَّجت فيهم، وتنصَّرت مع من تنصَّر منهم. قادت عدة حروب ضد المسلمين، وتزوجت من مسيلمة الكذاب، وظلت سجاح مع مسيلمة مدَّة ثلاثة أيام، ثم عادت بعدها إلى قومها فى أرض الجزيرة دون سببٍ ظاهر، حاملةً معها شطر النصف ممَّا اتفقا عليه، وتركت وراءها ممثِّليها مع مسيلمة ممن سيحملون لها النصف الآخر، وأقبلت فى غضون ذلك الجيوش الإسلامية فاجتاحت اليمامة وقتلت مسيلمة. ظلت سجاح فى بنى تغلب تعيش مغمورةً بين أهلها، ثُمَّ دخلت فى الإسلام عندما انتهى رأى أسرتها إلى الاستقرار فى البصرة التى غدت المركز الأوَّل لبنى تميم فى عهد بنى أميَّة، وعاشت مسلمة وماتت فى سنة (55ه/ 675م). لقيط الأزدى ذو التاج لقيط بن مالك الأزدى، ادَّعى النبوَّة وغلب على أهل عُمان، وطرد منها عمَّال الخليفة أبى بكر، كان الغالب على عُمان الأزد فلمَّا كانت سنة (8ه=629م) بعث النبى صل الله عليه وسلم أبا زيد الأنصارى وعمرو بن العاص رضى الله عنهما إلى عبيد وجيفر من بنى جُلَنْدى حُكَّام عُمان، ومعهما كتاب يدعوهما فيه إلى الإسلام، وقال: «إن أجاب القوم إلى شهادة الحقِّ وأطاعوا الله ورسوله، فعمرو الأمير، وأبو زيدٍ على الصلاة». فأسلم عبيد وجيفر، ودخل أهل عُمان فى الإسلام، ولم يزل عمرو وأبو زيد رضى الله عنهما فى عُمان حتى تُوفِّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارتدَّت الأزد وعليها لقيط بن مالك ذو التَّاج وانحازت إلى دَبَا، والتجأ عبيد وجيفر إلى الجبال والبحر هربًا منه، وكاتبا أبا بكر الصديق رضى الله عنه بخبر ما حدث.