يعرف الجميع الفن الإسلامي من خلال عمارة القباب والأقواس، ورسوم المنمنمات والزخارف الهندسية والأرابيسك والخط العربي، لكن هذا ليس كل شيء، فهناك صفحات مجهولة من تاريخ هذا الفن، تلقى الضوء على جوانب خفية من الثقافة والفكر والمجتمع والقدرات الإبداعية في العصور الإسلامية، وتمنحنا صورة أكثر وضوحا عن رؤاها الجمالية وأنماطها الفكرية، وكيف كانت سباقة فى كثير من الأمور، وجسرا مهما بين الحضارات. ◄ كواكب تعزف الموسيقى ..وخدم آليون يعملون بالماء ◄ الجزرى سبق دافينشي في جمعة بين الفن والاختراعات ◄ جرافيتي للسخرية الاجتماعية على جدران الفسطاط ◄ «المرقعات» نماذج مبكرة للكولاج في شيراز وهرات ■ خادمة ميكانيكية من اختراع الجزري يكشف تاريخ الفن عموما عن جوانب يغفلها التاريخ العام، ولا يستثنى الفن الإسلامي من ذلك، حيث كان مرآة للواقع، والممارسات والرؤي السائدة فى كل حقبة. وقد أسهمت الدراسات الحديثة فى اكتشاف صفحات مجهولة منه تلقى الضوء على الإبداع وعلاقته بالروحانيات، والعلوم، وأيضا عن كونه وسيلة تعبير اجتماعية وسياسية. ◄ فن ميكانيكي في القرن التاسع وخلال حكم العباسيين ظهر كتاب «الحيل» ل«الإخوة بنى موسى» بتكليف من الخليفة المأمون. وهو عمل ضخم مصور يتضمن مجموعة كبيرة من الحيل الميكانيكية والآلات الأوتوماتيكية. ومؤلفوه ثلاثة إخوة أسماؤهم «أحمد ومحمد وحسن بن موسى بن شاكر» وكانوا يعملون فى بيت الحكمة ببغداد. ووصف الكتاب أكثر من مائة جهاز، وكيفية استخدامها. وبعض ما ورد فيه مستوحى من «هيرو الإسكندري» أحد أهم التجريبيين فى العالم القديم، و«فيليو البيزنطي» الذى عاش بالإسكندرية أيضا. ومع ذلك فالكثير مما ورد فى كتابهم من ابتكارهم الخالص. وتوصف بعض تقنياتهم بأنها تجاوزت ما عرفه اليونانيون والرومان. ومنها ابتكاراتهم فى مجال «النيوماتيكا»، وهى تقنية استخدام الغاز أو الهواء المضغوط فى الأنظمة الميكانيكية. كما يشير البعض إلى استفادة «ليوناردو دافينشي» فى بعض مخترعاته من أعمالهم مثل الصمام المخروطى. وقد جمعت تلك الحيل بين الميكانيكا والفن. كما كان من بين اختراعاتهم آلات موسيقية مثل «أورغن» يعمل بالماء وفق تقنية ظلت تستخدم فى آلة الأورغن فى أوروبا حتى القرن التاسع عشر، وفقا ل»تشارلز ب. فاولر». وفي القرن 12م عاش واحد من عباقرة الفن الإسلامى الموسوعيين أيضا، وهو «بديع الزمان الجزرى» الذى جمع كسابقيه بين العلوم والهندسة والفنون والحرف، وأنتج أعمالا يصعب تصنيفها، لكونها آلات تؤدى أغراضا وظيفية، وإبداعا على المستوى البصرى أو السمعى. وله كتاب شهير هو «الجامع بين العلم والعمل النافع فى صناعة الحيل» ويتضمن أكثر من خمسين لعبة وجهازا ميكانيكيا، تعمل وفق نظم معقدة، وتضم تروسا وروافع لنقل الحركة، وبعضها يعتمد على تدفق الماء داخله لتشغيله. ومن ضمن تلك الأعمال «نافورة الطاووس» والتى توزع الماء عبر طاووس معدنى يتحرك كأنه حى، وكانت مصممة لخدمة الوضوء فى مساجد ديار بكر. كما صمم آلة لغسل الأيدى على هيئة دمية آدمية بهيئة خادم يقدم الصابون والمنشفة تلقائيًا. وكذلك ورد فيه ساعة الفيل وهى آلة لقياس الوقت على هيئة فيل. ووفقا للمؤرخ «دونالد هيل» فى دراسته عن الهندسة الإسلامية 1974 فهى لم تكن مجرد أدوات عملية، بل عبّرت عن فلسفة خاصة للجمال الإسلامى الذى يجمع بين المنفعة والإبهار. وتعتبر نماذج مبكرة لأعمال فنية تتحرك وتقوم بوظائف. وقد سبق «الجزرى» «دافينشى» بنحو ثلاثة قرون كشخص موسوعى جمع بين الفن والاختراعات. ويلقبه البعض ب«أبو الربوتات» نظرا لأنه كان أول من صمم الإنسان الآلى. وكان يعتمد على التجربة والخطأ أكثر من اعتماده على الحسابات النظرية. كما استوحى بعض أجهزته من أجهزة سابقة، مثل الساعات المائية المنسوبة إلى «أرشميدس المزيف» وهو اسم يطلق على مؤلفين مجهولين كانوا يوقعون كتاباتهم باسم «أرشميدس» وفقا لمصادر من العصر العباسى. ■ طائر العنقاء الأسطوري ضمن إبداعات الفن الإسلامي ◄ كولاج وجرافيتي قبل ظهور مفاهيم إعادة التدوير، والكولاج بخمسمائة عام، ابتكر فنانو العصور الإسلامية نوعا من الألبومات الفنية تسمى «المرقعات»، ضمت معا قصاصات ممزقة أو منسية، لتشكل موضوعا جماليا. وبلغ هذا الفن أوجه فى الحقبة التيمورية القرن 15م. ومن أبرز تلك الأعمال «مرقعات هرات»، وهى عبارة عن ألبوم جمعته مدرسة «سلطان على مشهدى» فى «هرات» بأفغانستان، وضمّ صفحات من مصاحف متآكلة مزينة بزخارف ذهبية. كذلك مرقعات شيراز التى استخدمت أوراقًا من مخطوطات مغولية دمجت مع رسوم صفوية. ووفقا لكتاب «الورق والمرقعات..» ل«ديفيد ج. روكسبيرج» فقد سبقت تلك الأعمال إلى تذوق ما يطلق عليه فلسفيا «الجمال فى الناقص» حيث يتحول التلف إلى جزء من المعنى. كذلك عرفت العصور الإسلامية المبكرة فن «الجرافيتى» الذى لم يصبح شهيرا على المستوى العالمى إلا خلال القرن العشرين. وما تبقى من نماذجه قليل لطبيعته ككتابات ورسوم على الجدران. وتؤكد الدراسات التى أجريت عليها أنها عبرت عن رؤى اجتماعية وسياسية. ووفقا لكتاب «رؤية الإسلام كما رآه الآخرون» ل«روبرت هويلاند» فقد عكست الكتابات المبكرة فى سوريا وصحراء الأردن تفاعلا بين الدين الجديد والتراث المحلى. وكان الجرافيتى تعبيرا عن الهوية الفردية والجماعية، ومنها ما تركه الحجاج على طرق القوافل، من رسوم وكتابات، تضمنت أسماءهم، وانتماءاتهم، ودعوات بالبركة، مثل تلك المكتشفة فى مدائن صالح، وهى الأقدم وبالخط الكوفى، وفق ما أشارت له الباحثة «لائقة نحمة» فى بحثها «النقوش العربية الشمالية القديمة». كما وجدت كتابات على جدران بعض المساجد وأماكن الوضوء، بعضها من قبيل الدعاء، ما يكشف عن ارتباط هذه الممارسة بالروحانيات، وفقا ل«ماركوس ميلرايت» فى كتابه «مدخل إلى الآثار الإسلامية» 2010. كما توجد دلائل على استخدام الجرافيتى كأداة سياسية للتأييد أو المعارضة فى العصر العباسي، وتضمن بعضها مدحا أو نقدا غير مباشر لبعض الخلفاء، وخصوصا فى فترات الاضطرابات. ويذكر «فريديك إيمبرت» فى دراسته «النقوش القرآنية فى شبه الجزيرة العربية» 2015 أن بعض النقوش من منطقة «تبوك» تضمنت آيات قرآنية تفسر على أنها ردود على الصراعات المذهبية والسياسية. كما تضمنت نقوش بقلعة «عمرة» الأموية رسوما لحيوانات وبشر. وعثر على نصوص شعرية وأمثال فى صحراء النقب. ووجد على جدرار قصر الحير الغربى بسوريا بيت شعر للأخطل التغلبى يقول: «أنا ابن من تعرفون فاستكثروا.. من خيرنا إنا لقوم نفاخر» عاكسا الثقافة العربية فى المفاخرة بالقبيلة والعائلة. أما فى حمامات الفسطاط بمصر فعثرت بعثة معهد الآثار الألمانى على كتابات هزلية ساخرة عن الحياة اليومية، عاكسة أيضا طبيعة المصريين الساخرة منذ زمن بعيد. ◄ خيال وإبداع أبدع الفنانون المسلمون ليس فقط برسم البشر والحيوانات فى المنمنمات والفسيفساء، ولكنهم رسموا حتى كائنات خيالية وأسطورية، وخصوصا خلال حقبة ازدهار العصر العباسى. ووفقا لكتاب «الوحوش فى الفن الإسلامى» ل»إيفا هوفمان» 2021 فقد رسم الفنانون المسلمون طائر العنقاء الأسطورى كما فى زخارف قصر الجوسق الخاقانى فى سامراء بالعراق، وكذلك التنين الصينى الذى ظهر مع الزخارف النباتية فى خزف «نيسابور» بالقرن العاشر، كنتاج لتأثير طريق الحرير. وقد حملت تلك الكائنات الأسطورية أبعادا ودلالات رمزية، فالعنقاء كانت بمثابة رمز للخلود، والتنين كان دلالة على القوة. كما عرف العالم الإسلامى ألوانا من الفنون بعضها يحتاج لمزيد من الدراسات لفهمها بشكل أوضح، ومنها «فن الأجراس الفلكية» مثل المجسمات الفلكية من العصر السلجوقى القرن 12 التى تصدر أصواتا موسيقية مع حركة النجوم. كذلك بعض الآلات الفلكية مثل الاسطرلاب البرونزى الذى صممه محمد بن جعفر الكرمانى والمزين بزخارف نباتية دقيقة، تجعل منه تحفة فنية وفقا ل»ديفيد كينج» فى كتابه «الاسطرلاب الإسلامى: تاريخ علمى وفنى». وهو محفوظ بالمتحف البريطانى. كذلك فن الحدائق الصوفية، والتى جمعت بين فن التنسيق والرموز الباطنية، مثل حديقة «جرباغ» السرية التى نفذها الصوفيون النقشبنديون فى القرن 14م فى بخارى بأوزباكستان، وتضمنت نافورة رمزت للقلب كنبع روحى، وأشجار سرو وزعت بطريقة رمزية، وفقا لكتاب «فن الإسلام: لغة ومعنى» ل«تيتوس بوركهاردت» 1976. ◄ من النوادر كما تعتبر بعض كتب التشريح العلمية من نوادر الفن الإسلامى لجمالياتها، ومنها مخطوطة «منصور بن إياس» من القرن 14م والتى تضم رسوما تشريحية دقيقة، مع لمسات فنية كتلوين العظام بالذهب. كما عبرت بعض الرسوم عن معنى أدبى مثل رسم القلب كرمز للكون فى الفلسفة الإشراقية، وفقا لدراسة «إفرايم ليف» «الطب الإسلامى بين العلم والفن» 2020. ومن الصفحات المجهولة فى تاريخ الفن الإسلامى أيضا دور النساء كراعيات للفن، مثل «هيورام سلطان» أو «هورّم» زوجة سليمان القانونى، والتى ظهرت فى مسلسل حريم السلطان باسم «السلطانة هيام»، كذلك «ستيتة المحاملى» التى رعت فى القرن 10 ببغداد فنانى كتابة وزخرفة المصاحف، و«فاطمة الفهرية» التى مولت بناء وزخرفة جامع القرويين فى فاس بالقرن 9م. والست «طنبقا» الأميرة الأموية التى رعت صناعة النسيج المذهب فى تعز باليمن فى القرن 14م، وفقا لدراسة «النساء وراء القصور» ل«ديلا كورت» 2017.