وزارة العمل تنظم فعاليات «سلامتك تهمنا» بمنشآت السويس    محافظ الأقصر يهنئ الرئيس السيسى بعيد تحرير سيناء    السكة الحديد: أنباء تسيير قطار إلى سيناء اليوم غير صحيحة وتشغيل خط الفردان بئر العبد الفترة المقبلة    أسعار السمك في أسيوط اليوم الخميس    البنوك المصرية إجازة اليوم بمناسبة عيد تحرير سيناء 2024 وهذا موعد عودتها للعمل    رئيس هيئة قناة السويس يبحث سبل تعزيز التعاون العلمي مع جامعة كوريا البحرية    الهلال الأحمر الفلسطيني يحذر من انتشار كبير للأمراض المعدية في غزة    تقارير إسرائيلية: العملية العسكرية الوشيكة برفح ستبدأ بإجلاء المدنيين وقد تستمر ل5 أسابيع    الكرملين يعلق على توريد صواريخ "أتاكمز" إلى أوكرانيا    الأردن يدين سماح الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين المتطرفين باقتحام المسجد الأقصى    تعديل موعد مواجهة سيدات يد الأهلي وبترو أتلتيكو    الإثارة تزداد في مجموعة النيل.. خسارة الأهلي المصري وأهلي بني غازي الليبي    ضبط المتهم بقتل بائع خلال مشاجرة بسبب خلافات الجيزة في الإسكندرية    تأمين امتحانات الترم الثاني 2024.. تشديدات عاجلة من المديريات التعليمية    مهرجان أسوان لأفلام المرأة يسدل الستار عن فعاليات دورته الثامنة بإعلان الجوائز    خبيرة فلك: مواليد اليوم 25 إبريل رمز للصمود    عقب سحب «تنظيم الجنازات».. «إمام»: أدعم العمل الصحفي بعيداً عن إجراءات قد تُفهم على أنها تقييد للحريات    بيلاروسيا: في حال تعرّض بيلاروسيا لهجوم فإن مينسك وموسكو ستردّان بكل أنواع الأسلحة    أسعار الذهب في مصر بمستهل تعاملات اليوم الخميس 25-4-2024    هيونداي تقرر استدعاء 31.44 ألف سيارة في أمريكا    موعد مباراة الزمالك ودريمز الغاني في نصف نهائي الكونفدرالية الإفريقية    أبورجيلة: فوجئت بتكريم النادي الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    شوشة: كل الخدمات في رفح الجديدة بالمجان ولا يشملها سعر الوحدة السكنية    انعقاد النسخة الخامسة لمؤتمر المصريين بالخارج 4 أغسطس المقبل    القبض على مسن أنهى حياة زوجته بالمنيا    سقوط عصابة تخصصت في سرقة الدراجات النارية بالقاهرة    هل يوجد تغييرفي مواعيد امتحانات الترم الثاني بعد التوقيت الصيفي؟.. التعليم توضح    متروكة ومتهالكة في الشوارع.. رفع 46 سيارة ودراجة نارية بالقاهرة والجيزة    انطلاق فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية بمدينة مصر للألعاب    رئيس البرلمان العربي يهنئ مصر والسيسي بالذكرى الثانية والأربعين لتحرير سيناء    أمريكا تطالب إسرائيل بتقديم تفاصيل حول تقارير المقابر الجماعية بغزة    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    «الصحة»: فحص 6 ملايين و389 طفلا ضمن مبادرة الكشف المبكر عن فقدان السمع    انطلاق القافلة الطبية المجانية حياة كريمة بقرى الخير والنماء بمركز الفرافرة    7 مشروبات تساعد على التخلص من آلام القولون العصبي.. بينها الشمر والكمون    الليلة.. أنغام وتامر حسني يحيان حفلا غنائيا بالعاصمة الإدارية    «التعليم» تستعرض تجربة تطوير التعليم بالمؤتمر الإقليمي للإنتاج المعرفي    الأهلي يصطدم بالترجي التونسي في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    مصرع وإصابة 10 أشخاص إثر تصادم سيارتين في البحيرة    حمزة العيلى عن تكريم الراحل أشرف عبد الغفور: ليلة في غاية الرقي    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    لبيب يرافق بعثة الزمالك استعداداً للسفر إلى غانا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس25-4-2024    أمر عجيب يحدث عندما تردد "لا إله إلا الله" في الصباح والمساء    توقيع عقد تنفيذ أعمال البنية الفوقية لمشروع محطة الحاويات بميناء دمياط    الشواطئ العامة تجذب العائلات في الغردقة هربا من الحر.. والدخول ب20 جنيها    فتح باب تلقي طلبات وحدات الطعام المتنقلة بمقابل الانتفاع بمدينة طيبة الجديدة    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    علماء بريطانيون: أكثر من نصف سكان العالم قد يكونون عرضة لخطر الإصابة بالأمراض التي ينقلها البعوض    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    مدحت العدل يكشف مفاجأة سارة لنادي الزمالك    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    اختيارات النقاد.. بعد سيطرة الكوميديا ما هى الأفلام الأنسب لموسم العيد؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفن الإسلامي برؤية مغايرة
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 06 - 2016

أدرك العرب وأهل الشرق كافة الفوارق المجتمعية بين بلادهم والغرب في عصور ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية، ولم يحاولوا قط طمسها أوالتقليل من قيمة مكنوناتها التاريخية، ولكن الغرب بخلاف ذلك تعامل مع الفن الإسلامي بتعال واعتبر ما أفرزه من تجارب .. عشوائية غير ناضجة وفقا لمنظوره الخاص، وأن كل ما يخالفه خطأ ونقيصة، بل ونسب لنفسه بناء علي هذا الاعتقاد الريادة في بعض الفنون وأبرزها فن المسرح.
ولن ينفك هذا الغموض المصطنع إلا من خلال التوقف عند نظرية الجمال العربية والإسلامية المستمدة من مفردات عصور الإزدهار الإسلامي، والتي ستوضح الفرق بين المنظور الإسلامي للرؤية من جانب والمنظور الغربي من جانب آخر، وهو ما أدركه قلة قليلة من علماء وفناني الغرب، وللحق اتسمت رؤيتهم لحضارة وفنون الشرق الإسلامي والعربي بالاعتدال والإنصاف، ولكن تأثير من تجاهلوا ذلك بل هاجموه كان أشد.
عندما استحوذ الغرب خلال حقبة زمنية انتقالية شكل خلاله عالمه، ظن في نفسه الريادة وبؤرة التركيز والاهتمام وغيره لا يستحق أو أقل شأنا، وبدي طاردا أحيانا وقرصانا في أحيانا أخري، بخلاف عالم الشرق المشحون بالرموز والروحانيات، الذي يُسقط بثرائه العالم الخارجي علي عالمه الداخلي فيغنيه، في حين يُسقط عالم الغرب عالمه الداخلي علي غيره، بل وعلي العالم كله إذا استطاع، كون الغربي يري نفسه محوراً للكون بينما ينظر المسلم بتواضع لمكانته في هذا الكون الذي تُسيره قوة إلهية مطلقة.
لهذا لم يدرك الغرب الجمال في الفن الإسلامي برؤية صحيحة، حيث حاول فلاسفته عنوة تفسيره من منظوره وأن كل ما يخالفه أو يصعب عليه إدراكه قصورا وضعف وتخلفا في الفنون الإسلامية، مقارنة بالفنون الغربية الأكثر تقدما بحسب وجهة نظرهم، لهذا ذهبت أبحث في تاريخ فنوننا المتنوعة المخطوطات التي تتناول بصورة كلية أو جزئية الصنائع والحرف والفنون والخامات كالأحجار والأخشاب والمعادن والصبغات والجلود والزجاج والخيوط والألياف والشمع والزئبق، وفي طرق استخلاصها وتأهيلها للعمل، وآليات التنفيذ التي تجمع بين العلم والعمل والوظيفة، وبين الاعتقاد والتبرك، وجمعت النصوص التي تُعني بوصفات أسرار المهنة كإعداد ماء الذهب للخطاطين والرسامين، وطرق تطبيقه علي صفحات المخطوطات، وتحضير الأسطح لتقبل الصبغات وحيل تثبيت تلك الصبغات، وطرق التجميع والتوثيق وتشكيل الخامات.
تمثل الحقيقة المطلقة مصدرا أساسيا للفن الإسلامي وغايته البحث عن الذات الإلهية، والتي معها تتخطي الحدود الزمانية والمكانية، فهو أعلي شأنا من الكون وليس بداخله، وتتجلي قدرته تعالي بلا حدود، تلك اللحظة التي يمتد فيها الزمان والمكان، وترتبط أبعاده المطلقة للمفهوم الإسلامي بالغيبيات وأهم مكنوناتها بالآخرة؛ حيث يستحيل علي الإنسان تمييز كل مطلق إلا بمشيئة الخالق، وهنا تأتي لحظات التجلي لتمييز الحقيقة، حيث يتصاعد الزمن إلي عمليات دينامية، بينما لا تتجلي الحقيقة بكامل جوهرها إلا بنهاية الزمن، ولهذا فإن الفن الإسلامي لا يتعدي مبدأ التسليم بالله الخالق المطلق.
ومن هذا المنطلق والمنطق؛ يسعي الفن الإسلامي لإبداع أشكال لا نهائية تبدو سابحة في فضاء مطلق، تحقيقاً لمفهوم التسامي عن الماديات، وفيه تتوافق جمالياته وتتداخل بصورة كلية مع الفن والأحكام والقوانين، ومع القيم العلمية، وشروط الاقتصاد السياسي والدين والأخلاق وغيرها من المجالات المعرفية المختلفة، وبالتالي فالفنان هو وليد البيئة الثقافية بمؤثراتها المتعددة، وليس نتاج توجهات فردية معزولة عنها.
يضاف إلي التسامي أيضا، التوحيد محورا للفن الإسلامي الذي يصهر كل محتويات الثقافة، وما يعززها من معارف في وحدة كلية تترابط بقوة، وارتباطه بالحقيقة المطلقة في الثقافة الإسلامية هو الذي ينظم تشابك الذاتي بالموضوعي، والفردي بالجمعي، ولهذا لم يكن هناك طريق متاح أمام الفنان الإسلامي سوي اتباع الأبعاد الكونية للقرآن الكريم وللسنة الشريفة، وهما أساس النموذج الإسلامي ورؤيته للجمال، حيث يتم تشكيل وتوجيه الاجتهاد بوصفه قاعدة شرعية، ويمد كلا من التسامي والتوحيد العمل الفني الإسلامي بقيم متعة الحس والخلق، والارتباط بالنزعة الحسية، حيث أن الفنان حينما يستخدم إلهامه الخاص، ومهاراته الإبداعية، فهو ينتج عملا ذا طبيعة مطلقة مرجعيتها الخالق مباشرة.
ويبدو مع هذه المبادئ الأساسية وحدها الخلاف الحاد بين ماهية الفنون الإسلامية والنظرة الغربية لها، التي تعتمد علي أن كل الحقائق ماثلة أمام الفنان، لا يوقفها شيء أو غيبيات، والجمال عنده هو نوع من الإشباع العقلي، يتحقق من خلال بناء العمل الفني وشكله الخاص، ومن خلال الإدراك الحسي في تداخل مع أنواع الذكاء الإنساني، والفكرة هي نتاج لموضوع عقلي، وليس بنية العمل الفني ذاته، وهو ما يتعارض مع رؤية العالم في الإسلام التي تفترض وجود قيم يجب أن تتواصل بلا توقف، وهي قيم لا تتحقق فقط من خلال الوعي المنطقي للإنسان، وإنما تأتي حتما من خلال التسليم بالقرآن والسنة.
تميز الفن الإسلامي بالقدرة علي التعبير عن الله بأكثر الطرق تجريداً بالرغم من أن الله تعالي حي وليس مجرداً، فالقداسة له وحده لا شريك له، وكان هذا التوجه التجريدي عاملاً في إذكاء المواقف المتشددة ضد التصوير التشخيصي، والتي لم تمنعه إطلاقا، ولكنها طاردته وعطلت مسيرته وشوهت بعضاً من أعظم آثاره المبدعة، واكتسب الخط العربي مع الشعر مكانة رفيعة عن كل الفنون، إذ لم تعترضهما المواقف المتطرفة، في حين الموسيقي وهي فن تجريدي خالص لم تحظ بهذه المكانة بوصفها تعبيراً رئيسياً لرؤية العالم الإسلامي، وذلك لارتباطها المباشر بإمتاع الحواس.
وتحرر الفنان الإسلامي من اتباع المظاهر التي ميزت الفن الغربي في تصويره التشخيصي، مثل المنظور البصري، والظلال الإيهامية والتدرجات اللونية والتعبير عن العمق الفراغي بين الإنسان وعالمه، أو بين الناس بعضها البعض، كما تجنب تمثيل عنصر الزمان في لوحاته فلا نهار ولا ليل، لا صيف ولا شتاء ولا ربيع، ولا تتفاعل العناصر كالنباتات مع تأثير الرياح ويترك خلفيات لوحاته بلون الورق أو باللون الذهبي الذي يرمز إلي نور الشمس الدائم.
ورغم الخلاف في الرؤية؛ فلا يمكن إغفال الأهمية الكبيرة لما أضافته المقارنة بين فنون الإسلام وفنون الغرب التي كانت متزامنة؛ لدراسة التراث الإنساني وتجلياته، وتأثير الثقافة والبيئة والمجتمعات علي المزاج الجمالي بصورة تحدد أفضليات كل ثقافة ومنهجها في التعبير المتلائم معها، لكن المقارنة لا ينبغي لها أن تقع في انحياز أو إدعاء التمايز وتقليل من القيم الإسلامية لحساب كل ما هو غربي.
أفرزت هذه المقارنة منظورين للرؤية أحدهما للحضارة والثقافة والفن الإسلامي، وجذوره في الحضارات السابقة في منطقته الجغرافية؛ والآخر للحضارة الغربية الذي تأسست فلسفياً وصياغياً منذ الإغريق والرومان وعبر عصر النهضة الأوروبي، وحتي مذهب الكلاسيكية العائدة التي أسس له الفنان الفرنسي لويس دافيد، وما يساند تلك الاتجاهات من الدروس الأكاديمية الغربية، مع الأخذ في الاعتبار أننا لسنا بصدد مقارنة الفن الإسلامي كله بالفن الغربي كله، فهناك مراحل ليست بالقصيرة في الفن الغربي كانت أقرب إلي النموذج الإسلامي الشرقي منها للمنظور الغربي المشار إليه.
يلوذ الفن الغربي بالنزعة الذاتية باعتبارها الملمح المحوري في فكره الحديث؛ خاصة وأنها عامل حاسم في صياغة علم الجمال، حيث الأنا هي مركز الإبداع، في مجتمع يؤيد استقلال الفنان عن أشكال الرقابة والوصاية السلطوية، في حين تحتجب ذاتية الفنان الإسلامي، ويمثل نور الدين أفايه علاقة ذاتية الفنان بكلية الثقافة، بالتساؤل عن كيفية تساوي وتماثل نقطة مركز الدائرة مع نقاط محيطها، فالفن الإسلامي ليس اختياراً فردياً للفنان، إنه ارتباط عميق بالإيمان الإسلامي كنسق ديني يمكن من توليد رؤي وأشكال.
لا يجب أن نغفل في رصد الفن الإسلامي الحضارات السابقة عليه في جغرافيته، فسكان الجزيرة العربية تعرفوا قبل ظهور الإسلام علي أشكال الفنون الجميلة من تصوير ونحت وزخرفة، وتذوقوا هذه الفنون ومارسوها، واعتمدوا في ذلك علي تحليل طبيعة الموقع الجغرافي لهذه المنطقة وأثره في الاحتكاك بالحضارات الفنية المزدهرة قبل ظهور الإسلام، وحركة القوافل التجارية من مكة إلي الشمال والجنوب، وانفتاح الأسواق علي ثقافات ومنتجات مختلفة، فضلاً عن إشارته إلي الحضارات الزاهرة في جنوب الجزيرة كمملكة سبأ باليمن، وفي شمالها كممالك تدمر والغساسنة والمناذرة.
واتسمت هذه بسواد التأثير السمعي اللفظي علي نظيره البصري حيث كان الشعراء يتبارون وتعلق المعلقات، وأصبح للشعراء مكانة اعتبارية كبري في قبائلهم، وفيها كانوا يصفون الصحراء والحيوانات الأكثر ألفة كالخيل والجمال، وكان العرب يعتبرون الشعر تعبيراً يجمع بين الموسيقي والتصوير والغناء والكلمات، فأصبح عرب الجزيرة قبل الإسلام يتمتعون بالوصف والخيال الشعري والتذوق الفني، وبسحر البيان في وصف الطبيعة وما فيها من كائنات، وإن أصبحت القوة البصرية من مكونات اللغة اللفظية التي تميزت بالوصف البصري للأشكال والهيئات والألوان، وتأثير الضوء عليها ووزنها الكمي وحركتها في الفضاء وتفاعلها مع العالم المحيط ككتل الصخر.
وما أسهم في انعكاس ذلك فيما بعد أن المسلمين في صدر الإسلام كانوا زهاداً يرنون إلي نعيم الآخرة ويعزفون عن رفاهة الدنيا، حتي أن سليمان عليه السلام سخر الجن في عمل التماثيل، وكانوا يفزعون من فكرة مضاهاة الفنانين لخلق الله ومن احتمال رجوع البعض إلي عبادة الأصنام والأوثان، ومن ثم فإن الإسلام حتي في بداياته قد أباح التصوير شريطة البعد عن الوثنية وإدعاء منافسة الخالق جل وعلا، وعدم إلهاء الأمة عن اجتهادها في العمل.
واجتهد العلماء حتي يبرئون الدين الإسلامي من تهمة تحريم التصوير التي ألصقها به بعض المتزمتين من فقهاء المسلمين، فالأمر الذي لا مجال للشك فيه؛ هو أن القرآن ترك لنا أمر التصوير لنرجع فيه لحكم العقل وسنن التطور والرقي، والحقيقة أن الدين لم يتعرض لنظام الخلافة مثلاً، وهو أشد خطراً في حياة المسلمين من التصوير، بل وبترك ذلك؛ جعلهم يسيرون فيه علي النهج الذي يتلاءم وظروفهم، ويستعينون فيه بتجارب من سبقهم من الأمم، فالدين أسمي من أن يتعرض لتحريم الأمر وما يتعلق بسمو الحياة البشرية وتطورها، حيث كانت روح الإسلام سمحة ومنفتحة علي استيعاب علوم وفنون العالم القديم والأمم المجاورة، دون أن يؤرقها الاختلافات العرقي والديني والمواقف السياسية؛ بمثابة رصيد مهم لدي المسلمين في استيعاب دوائر معرفية ومهارات فنية وتقنيات وإبداعات من أنحاء المعمورة، صهرها فنانوهم وطوعوها بما لا يتعارض مع منظور الإسلام، وهو ما جعل العالم الإسلامي ملاذ الفنانين من جميع الأقطار، يتجولون ويرحلون بحرية وترحاب ويتنافسون في إظهار إبداعاتهم الفنية.
نظرة الغرب
في علاقة التأثير والتأثر بين الحضارات، فإن للفن الإسلامي أسلوبه المميز، ومنظوره الخاص بالرؤية الذي يختلف كثيراً عن منظور الرؤية الصيني من ناحية، ومنظور الرؤية الغربي وبقوة من ناحية أخري، ويخطئ العديد من المؤرخين للفن والحضارة الإسلامية حين يعتبرون هذا التمايز النوعي والاختلاف الجوهري بين منظور الرؤية في الحضارة الإسلامية و المنظور الغربي خاصة نقصاً أو عيباً في هذا الفن، ويستخدمون مصطلحات وأحكاما مثل إهمال التصوير الإسلامي للظل والنور، لقواعد المنظور الأوروبي والبعد الثالث، وعدم مراعاة النسب التشريحية في رسوم الكائنات الحية، والحقيقة إنه ليس إهمالا ولا عدم مراعاة ولا عيباً، لأن لهذا الفن لغته الأسلوبية الفريدة، ومعاييره ومنظوره المتميز واختياراته المغايرة، التي لا تتطلب ولا تتوافق مع مظاهر الفن الغربي، واختياراته ومنظوره في الرؤية.
خلقت الحروب الصليبية فجوة بين الشرق والغرب، وكان تأثير الهزيمة علي الغربيين سلبيا في نظرتهم لبلاد العرب تمثلت في الانحياز المفرط ضد المسلمين، وصار التحقير منهم بمثابة إشباع لتلك النزعة الانتقائية إزاء الآخر العربي والمسلم، وكان للعنف العنصري المضاد الذي ارتكبه العثمانيون في حق مواطني البلقان وما حولها حافزاً لإذكاء روح الكراهية والانحياز ضد الحضارة الإسلامية، وطال هذا الانحياز مواقف المستشرقين، حيث تركز تفكير غالبيتهم ومعهم السياسيون والعسكريون علي نقد الثقافة والفنون والمجتمع الإسلامي، وتجاهلوا تاريخ الفلسفة في الإسلام؛ بالرغم من مكانتها البارزة طوال أربعة قرون في الثقافة العربية والإسلامية، والتي كانت تمثل ثقافة العصر في العالم.
وظهرت القرصنة الثقافية والفنية عندما قاموا بدراسة الشرق وفهمه، ثم أعادوا إنتاجه بعيون وإيديولوجية غربية لتصبح ثقافتهم بديلاً لنظيرتها الشرقية، فكان موقفهم من الشرق بعيداً عن الحياد والبراءة والتجرد، وجانباً مهماً من ذلك الانحياز يرتبط باختلاف المنظوران الشرقي والعربي، فالمستشرقون في أغلبهم لا يفلسف ما يعتبره المسلمون محوراً مركزياً لثقافتهم وفنهم، كمضمون مبدأ ارتباط الفن الإسلامي بالدين، وينتقدون مبادئ التوحيد والرمزية والتصاعد كقيم أساسية في فلسفة الإسلام، كما يتبني المنظور الغربي النموذج المعرفي، ولا يقدر مبدأ ثقافة الأمة وإبداعها الجمعي ولا يتقبل إلا التعبير الفردي أو الذاتي.
فمثلا، نجد الفرنسيون أثناء احتلالهم لبعض بلدان المغرب العربي يأسسون لمدرسة الفنون الجميلة علي النسق الأكاديمي الغربي ويدربون شباب الفنانين علي هذا النسق من ناحية، ثم يسعون إلي اقتناء آيات الفن والحرف التقليدية لهذه البلاد والاحتفاء بها بمتاحفهم في باريس وغيرها من المدن الفرنسية والغربية بقدر من الاهتمام من ناحية أخري، ولكنه كان بمثابة المدخل نحو تجميد التتابع والتواصل بين أبناء هذه الشعب وإبداعاتهم الشعبية، وإغراق البلاد بالعديد من البضائع الغربية لزرع ذائقة دخيلة محل التعاطف والإعجاب بالمنتجات الوطنية المتوارثة لآلاف السنين، والتي تنتج وتتطور وفق حاجاتهم وأحوالهم الثقافية والتقنية والجمالية والروحانية، وهو الأمر الذي تكرر بشكل أو بآخر من المستعمر الغربي في تركيا وإيران ومصر وسوريا.
إلا أن فناني الغرب خاصة المحدثين منهم نبذوا هذا الطابع الغربي الكلاسيكي واكتشفوا جموده وإفلاسه بعد تأسيس لويس دافيد مذهب العائدة التي رفضها الفنانون الفرنسيون آنذاك، ووضع المسمار الأخير في أوروبا لهذه التيارات الأكاديمية الكلاسيكية؛ وفتحوا المجال لأفكار وأساليب الحداثة التي استندت في مرجعيتها إلي فنون العالم الشرقي الياباني ثم الأفريقي والعربي، وانتبه فنانو الغرب إلي أن الخطأ يكمن في هيمنة التراث الإغريقي الذي تجمد، وهو تراث حضارة الصورة الذي ميز الفن الغربي عبر عصوره القديمة وحتي عهد لويس دافيد.
ومن الأمور التي لم يدركها الغرب قبل ثورتهم واعتبروها فوضي في الفنون الإسلامية تجنب مصوروها في منمنماتهم قيم المنظور والظلال، وهما ليسا نقيصتين في فنهم ولكنه اختيار وضرورة للتوافق الذي يستهدفه في منمنماته، ومن ثم ابتكر بدائل بالغة الابتكار والحيوية؛ للتعبير عن المنظور بأسلوبه الخصوصي، فعند دخول المسجد ينفصل الشخص عن كل مؤثرات بيئته الحاضرة، لينعم بعزلة ذاتية محققاً التفتح الكلي للطبيعة الكونية والتأمل الصفائي، وليلمس الحقيقة الرمزية المطلقة، ومن ثم حلت النصوص القرآنية المكتوبة والتصميمات الهندسية المتشابكة والبنائية محل الصور الأيقونية المقدسة في العقائد السابقة علي الإسلام.
واعتبر الغرب فيما بعد أن هذا التوجه الحضاري تعبير عن قوة الرغبة في الإطلاع والمعرفة، وتنويع المرجعيات لتكوين حصاد تراكمي معرفي من خلال عمليات الاستنباط والسببية، حيث تكون الخبرات باهرة، والقدرة علي استيعابها مفتاح تكوين ثقافة وفنون رفيعتين، ومثالاً علي ذلك؛ تدفق الحجاج من كل فج عميق علي مكة المكرمة للحج، وكان فضلاً علي ممارسة الشعائر الدينية، مضماراً حيوياً لتبادل المعارف والمنتجات والمهارات، وتوثيق الإحساس بالانتماء المشترك بالرغم من الاختلافات النوعية الواسعة، فاكتشفوا ما هو مشترك بينهم ومركزه الإيمان والوحدانية، وفي مجملها مشتركات إيمانية أصبحت بمثابة وعاء منفتح للتنوعات الحضارية، عبرت عن نفسها في منظومات حقيقية كالعمارة والأدب والتكوينات الفنية من ناحية، ومنظومات مفاهيمية كمدارس الفلسفة الإسلامية الصوفية ومنظومات تجريدية كالمفهوم المنزه لصورة الخالق في الفنون الزخرفية.
والحقيقة أن الفنانين في العصر الإسلامي سعوا بهذا الانفتاح والتقبل والمراجعة والاجتهاد إلي إثراء رصيدهم للوفاء بمتطلبات أمة تتسع وتتقدم، ثم يفوضون أمرهم إلي الله تعالي ويسلمون بضوابط الإيمان الإسلامي، دون أن يحول ذلك من انفتاحهم وحركيتهم واجتهادهم، وهنا يظهر التباين بين منظورهم الشرقي الذي يتبني الحرية من خلال ضوابط وقيود شرعية مؤثرة علي فنهم وحياتهم، حيث أن الحرية المطلقة في الإسلام لله وحده.
وبالتوازي فإن الفنان المسلم يستلهم تلك الضوابط للتوصل إلي الصيغ الأكثر ملائمة؛ لتحقيق أهدافه، فالثقافة والفنون الإسلاميان يقومان علي مبدأ التوحيد، الأمر الذي لا يستوعبه، بل يرفضه المستشرقون ذوو الخلفيات الثقافية التي لا تعترف إلا بالذاتية الفردية ويحلمون بالحرية المطلقة، ويختلف الفن الإسلامي في التصوير عن الفن الغربي والصيني؛ في كونه ليس أيقونياً وبأن القرآن الكريم لم يتضمن أي عناصر كونية، أو نوعا من المبادئ الحاكمة للتصورات المعمارية والتكوينات الفنية، وإنما تركز التأثير القرآني في توجيه المبدعين نحو اكتشاف قوانين الطبيعة، دون الانشغال بمظاهرها العابرة، كما قدم القرآن الكريم معني بليغا للبيئة وأحوالها يتسع للكون بأكمله.
ومن العوائق التي واجهت الفنانين الغربيين في إدراك واستيعاب الفنون الإسلامية دوافعهم التي تتجلي فيمن رافقوا بونابرت منهم في المجموعة العلمية التي اصطحبها عند غزوه مصر لمساندته في الجهد العسكري والطموحات التوسعية في تكوين مملكة الشرق، وفطنوا إلي أن التعرف علي إمكانات البلاد ومقدراتها وثقافاتها، وتراثها المادي والأنثروبولوجي والاجتماعي يعد مدخلاً ضرورياً للسيطرة علي البلاد، وما تخلله من جهود علمية فنية، وترك آثارا عميقة علي الفرنسيين وعلي الأوروبيين بشكل عام.
فلم يأتوا لاستيعاب هذه الفنون، فكان لكل منهم مهام ما بين هندسية أو إنشائية أو تعليمية، بينما توجههم الشخصي انصب علي تسجيل الآثار القديمة والإسلامية في مصر والحرف التقليدية بالرسوم والألوان، مستهدفين إصدار مجلدات متميزة في دقتها وبهائها، ودعمها بالدراسات التحليلية والتاريخية، فنشر كوست مجلدا ضخما بعنوان العمارة الإسلامية تميزت لوحاته بالدقة المتناهية ، وكتابا ضخما لبريس دافين مؤلف من عدة مجلدات بعنوان "الفن العربي" نقل فيه واقع آثار مصر من القرن السابع إلي نهاية القرن الثامن عشر الميلادي غير أن هذه الرسوم كانت مع دقتها تعبر عن نظرة الغربيين إلي الفنون الإسلامية باعتبارها أعمالا حرفية زخرفية لا ترتقي لمفهومهم الغربي عن الفن، ونال هؤلاء المستشرقون مكافآت ضخمة علي خدماتهم في مصر، ووفرت لهم سبل الراحة والحماية، ووُضعوا في موقع الخبراء الدوليين المرموقين واكتسبوا مكانة في أوطانهم لذلك.
وأمتلأت متاحف ومتاجر أوروبا بالآثار القديمة الشرقية والإسلامية المصرية، وكانت بيوت الهندسة والتصميم في أوروبا تتعجل الناشرين علي إنجاز مجلدات تسجيلية تمكنهم من فهم الطراز الإسلامي في العمارة والزخرفة والتحف، للفوز بفرص تأسيس منشآت أميرية ومساجد ومبان علي الطراز الإسلامي، وكان يستحيل عليهم الدخول في هذا الميدان دون الاستعانة بتلك المؤلفات واللوحات التفصيلية الدقيقة التي فتحت أمامهم أسرار وعناصر وتكوينات التراث الفني الإسلامي، وبعضهم عاد لمصر يبحث في التراث المصري ويواصل تجارة الآثار مع فرنسا، حيث قضي بريس دافين سنوات في الأقصر وأقام في داخل معبد الكرنك، وحرص علي أن يصطحب مصورونً فوتوغرافيون ورسامون متخصصون لاستكمال ما لم ينتهوا منه.
عاد بريس دافين إلي باريس بحوزته رصيد هائل من الرسوم الضخمة، ومئات الأمتار من الطبعات المبصومة للنقوش الجدارية الغائرة، ومئات الصور الفوتوغرافية، مع أعداد كبيرة من الرسوم والملاحظات المكتوبة، وهناك عكف علي العمل الحثيث مع الطباعين في إعداد اللوحات المطبوعة علي الحجر، ولوحات أخري طبعت من ألواح حفرت في المعدن، ليضمن مطابقة النتائج المطبوعة للرسوم التي أعدها وضبط ألوانها، واكتسب هذا العمل عند نشره أهمية كبيرة في أوساط الاستشراق والتصميم والفنون والآثار، باعتباره وثيقة بصرية أمينة إلي حد كبير في تسجيل أمثلة تفصيلية مختارة من التراث الإسلامي في مصر، أكثر منه مرجعاً نظرياً.
ولأن المعارف في عهد دافين كانت محدودة ومختلفة، ولأن معرفته بالعربية لم تكن مكتملة في حين لم يعرفها معاونوه، أدي هذا إلي نقل بعض البيانات محرفة في كتاب الفن العربي في مصر، وسجلت الكتابات حرفياً كالرسوم فاختلطت أحيانا حروف الراء مع الواو، ووزعت الحركات في التشكيل في غير موقعها، والتحمت بعض الحليات الزخرفية في بنية الحروف، أو اختفت بعض الحروف من تشكيل الكلمات، وساعد علي حدوث تلك الأخطاء تعجل دافين، والناشرين معاً لإنجاز المجلدات وإلي اهتمام المصممين والمزخرفين بالرسوم واللوحات علي حساب اهتمامهم بالشروح التحليلية والتاريخية.
رغم ذلك فإن هؤلاء الرسامين المستشرقين الذين أقاموا في مصر وفلسطين وسوريا والعراق والمغرب العربي قدموا خدمة كبيرة في تسجيل آثار إسلامية عظيمة، اندثر معظمها وتداعت أحوال البعض الآخر وطُمست بعض ملامحه، وفُقد البعض الآخر، أو توزع علي المجموعات المتحفية الأوروبية والأمريكية من خلالهم، فصارت رسومهم التي سجلوها بقدر كبير من الحرفية الدقيقة والشمولية هي المرجعية الباقية لتوثيق ذلك التراث الإسلامي الضائع، فلم يكن في العالم الإسلامي حينئذ خبرات مناظرة قادرة علي تسجيل مثل تلك الأعمال، أو حتي يصلحوا كمعاونين فنيين لأولئك المستشرقين، فيتدرجون في اكتساب الخبرات، كما لم يستعن المستشرقون بالخبراء المحليين من خطاطين ومزخرفين وأرباب حرف باقية لضبط تسجيلاتهم وتصحيح أخطاء الحروف والكلمات.
وفي الوقت الذي صور فيه بعض المصورين المستشرقين الذين زاروا العالم العربي، أو عاشوا فيه لفترات متفاوتة المساجد والمصلين والأسواق والدور وغيرها من المشاهد الفولكلورية في هذه الأقطار، غير أن الأعمال التصويرية والخيالية التي رسمها البعض الآخر دون أن يزور الكثير منهم الشرق مطلقا؛ طغت وانتشرت أكثر، واعتمدوا فيها علي الروايات الرومانسية المبالغ فيها، والتي بدت بها العنصرية وإدعاء التمايز تماماً، حيث تُصور العرب والمسلمين قوماً بدائيين بالرغم من ثراء البعض منهم، وأنهم دمويون يقطعون الرقاب علي مداخل المساجد بوحشية، وأن نساءهم غوانٍ متهتكات وجوار تعشن في عالم فاجر وشهوانية، والتركيز أحيانا أخري علي العنصرية الدينية والعرقية بالإشارة إلي المسيحي واليهودي والمسلم، وإلي الأسود والقمحي والأبيض وهو الأمر الذي استحسنه أصحاب المجموعات الفنية لتوافقه مع انحياز الغرب ضد الإسلام وعالمهم.
ومثل مؤتمر العالم الإسلامي الذي أقيم في مدينة لندن منتصف السبعينات برعاية الأمير تشالز نقطة تحول كبيرة في النظرة الإيجابية الواعية للحضارة الإسلامية، إذ شارك عدد من الباحثين في هذا المؤتمر بإشراف سيد حسين نصر، وأعاد هذا المؤتمر ومؤلفاته الاعتبار للفن الإسلامي بمفهومه الكوني ومنظوره ونظريته الجمالية، وقراءة آياته الإبداعية من منظور ثقافته وبيئته وفنانيه، والخلفيات الروحانية والعلمية التفاعل بين كل ذلك، ومعطيات البيئات والمجتمعات الإسلامية المتعددة والتي حافظت علي هذا التنوع الخلاق في إطار مشترك من الوحدة والطراز، وأسهم تصحيح المنهج الشائع في الغرب، والذي تم إتباعه من قبل الباحثين العرب أنفسهم والذين وضعوا المنظور الغربي وانحيازه السلبي في موقع الحقائق العلمية المسلم بها في كثير من الأحيان، وأصبحت الكتابات الحديثة أكثر عمقاً في تفهم ضرورة وضع الاعتبار للمنظور الشرقي والنزعة الروحانية عند تقديم آيات الفن الإسلامي.
كما أصاب التحول الفنانين الغربيين من رسامين ومهندسين ومصورين من طبيعة تجارية انتهازية ، وبدوا أكثر تذوقا وقراءة لجماليات الفن الإسلامي العربي والتأثر به كمدخلات مهمة واكتشاف وتفحص حضارة العلامة كبديل عن حضارة الصورة التي رأوها بمثابة معوق للانطلاق نحو الحداثة، مثل هذا موقفاً منفتحاً بعيداً عن الاستعلاء والانحياز متأثرين بشعار الثورة الفرنسية "الحرية والعدالة والمساواة"؛ فنظروا إلي مسلمي العرب باعتبارهم أقرانا في الإنسانية، وأن لديهم ما يمكن أن يتعلموه منهم، ليظهر مصطلح الفن الإسلامي عالميا، والذي يصف الفن الذي أنتج في مساحة شاسعة جغرافيا منذ القرن السابع الميلادي.
هذه الرؤية المغايرة بعد مؤتمر العالم الإسلامي بلندن في سبعينات القرن الماضي وضحت المستويات المتفاوتة بشدة بين منظوري الرؤية الشرقي والغربي، الذي يتراوح بين استحالة تجنب عوامل الانحيازية، والنظر إلي الفوارق والاختلافات بوصفها استثماراً إنسانياً إيجابياً للعبقرية الكامنة في إنجاز وخصوصية كل فريق لإثراء الثقافة العالمية وتبادل التأمل والتمييز، واكتشاف آفاق استفادة كل من الآخر، وإزالة الارتباك في العلاقة بينهما الذي أحدثه استخدام القوة والنفوذ والميل للغالب والفاتح والمتفوق وعدم الاكتراث للوضعية النفسية للمغلوب، وسعيه إلي فرض منظوره للعالم وفلسفته في الحياة عليه، حيث يأخذ عن الحضارة المغلوبة ما يريده ويتفق مع تصوره للعالم ويدمجه في بنية حضارته.
كما اعترف بعض من فناني الغرب بما أخذته أوروبا عن الشرق واستنادها علي تراث نابع منه في ضوء وجود تراث مشترك مرجعيته مناخ البحر المتوسط الذي يجمع بين أوروبا وبين الشرق العربي، وإلي أن فترة الحكم الإسلامي في شبه جزيرة أيبيريا انفتحت علي تآلف الأفكار الهيلينية واليهودية والمسيحية في حضارة جامعة هي الحضارة الإسلامية، وأن ذلك التوجه قاد إلي البيئة الثقافية التي أدت إلي دخول أوروبا من العصر الوسيط إلي عصر النهضة ثم إلي الحداثة التي تبنت حضارة العلامة شرقية الجذور والملامح والهدف، بينما تحولت حضارة الشرق إلي نزعة تقليدية وعاطفية، إلي أن اعترضت المسار أفكار التنويريين التي قاومها خوفا من تصادم أفكارهم مع التراث الديني، وأصبح مرتبكا بين ثقافته النقلية، وبين مقاومة المفاهيم الثقافية الغربية المتآلفة مع الحضارة التي تتبناها، والتي تستند إلي وجهة علمية وعملية بحتة.
وهكذا ابتعدت الحضارتان لقرون عديدة وظهرت عوامل الانحياز والعداء فيما بينهما، ونتج عنه أزمات العصور التاريخية التي أدت إلي تناقضات في تراثهم الفكري، نتج عنه كذلك حالة كبت جماعي خطيرة خاصة في عملية تزامن القديم والحديث، فلا يكفي معرفة التراث الثقافي بدون التدريب علي ذاكرة ثقافية نقدية، ومن ثم إدراك الاتجاهات المتباينة في هذا التراث، بما فيها اتجاهات التعصب.
ذلك التعصب الذي بدأ مع نشأة الهوية الأوروبية ما بين القرنين الحادي والثالث عشر الميلادي وتبني تصورات عن الشرق والإسلام كخصمين، وتحولت تلك التصورات إلي برمجة هيمنت علي الشريحة الأوسع من الفكر الأوروبي، والذي تفجر إبان الحرب الصليبية ضد المسلمين، ولجوء مصوريهم إلي تصوير ملوكهم مهزومين، في الوقت الذي كان الصليبيون يطردون من الشرق العربي مهزومين يصفون المسلمين بالوثنيين الكفرة، كانت فيه معرفة الأوروبيين بحضارة المسلمين محدودة للغاية، فلم يبذلوا جهداً للوقوف عليها فصورهم بدورهم كالكفرة عباد أصنام وإلههم اسمه محمد، ويشيرون إلي صفات الانحلال الأخلاقي، ومعه يؤسسون لهويتهم الأوروبية المنحازة والمتعالية عن جهل واضح، والهمجية والعداء لبيوت الله وخطفهم للناس، واتهام الشرق بالاستبداد بينما كان الغرب ذاته يعيش فيه.
واجه الاهتمام بالشرق ومحاولة تقدير قيمة الفن الإسلامي؛ الفقر الشديد في المصادر عن الفنانين وسيرهم، فلم يكن للمصورين والفنانين والحرفيين المسلمين خطاب تنظيري أو توصيفي لعملهم أو لسيرتهم الذاتية، كما لم يتول أحد معاصريهم هذا الدور الهام المفتقد، ومن الأخبار المؤسفة فقدان كتاب للمقريزي؛ والذي كان يشير إلي إعلام المصورين ومآثرهم وأخبارهم، وهو الكتاب الذي لا توجد منه أي نسخه، ووصلتنا أخباره من خلال مؤلفات معاصرة للمقريزي أشارت إليه مجرد إشارة.
ولكن المأثورات العديدة المتبقية من أعمالهم الرائعة الموزعة بين المباني الدينية والمدنية، والمتاحف والمكتبات والمؤسسات البحثية والمجموعات الخاصة؛ تعد شهادات بليغة قابلة للتأمل والتحليل والتوصيف بل وللتنظير والاستقراء، غير أن العديد من تلك المحاولات قد تم تناولها من منظور الجمالية الغربية، فلم تعطها حقها في الوصف والشرح والتحليل بلغتها ولغة أهلها وزمانها بعيداً عن الجمالية الشرقية التي تفصلها عن قرينتها الغربية سواء في القواعد والنسب والمنهج التصويري أو في الهدف منها.
المنظور الشرقي
بنظرة تحليلية تتبني المنظور الشرقي بقدر أكبر من المنظور الغربي لروائع الفن الإسلامي؛ نجدها تتحدث عن نفسها ببلاغة وحكمة، وتبعث حالات شعورية وخيالات، ومستويات رفيعة من الفهم والوعي بارتباط هذا الفن بالمتغيرات الحضارية والثقافية والإبداعية التي انتجت هذه الروائع الفنية، وما تنطوي عليه من طاقة إنسانية وروحانية يسهل تشخيصها والإحساس بها، وتلهمنا إلي استيعاب تأثير المناخ والبيئة ومتطلبات الحياة الاجتماعية والدينية، والانفتاح بين الفنانين في دار الإسلام الشاسعة وتبادلهم الخبرات والمبتكرات التقنية والأسلوبية وتشحذ المنافسة والتسابق، فتنفجر طاقات الإبداع وتجلياته، ويواجهون اتهامات المتطرفين والمتطيرين لهم بالفساد والخروج عن الدين.
وبهذه النظرة المتفحصة أيضا يمكن معالجة ما وقع فيه المفكرون والفلاسفة القدامي من قصور عندما عالجوا موضوع الجمال والفن من وجهة نظرية تصورية تعتمد علي التعميمات المعاصرة لهم، يأخذه أحدهم عن الآخر، فتدور دائرة الحوار بداخل العقل والتصورات، ويضعون المقدمات ثم تتجلي التحاليل والتفاسير الغائمة أحيانا، وتستخلص أشباه النتائج، كلها عمليات عقلية ذهنية تأملية؛ لم تلق التفاتاً إلي مضمار الإبداع بذاته ولا إلي الفنانين وفنهم، تأملات عن بعد حول فريق لم يتحدثوا إليه ولم يتابعوا أعماله، فجاء ما قالوه وصنفوه وفسروه من داخل عالمهم الافتراضي المعزول عن موضوع التعبير ذاته، والفن والفنانين، والمشاعر والتعبير، والتجويد والإبداع، والتجاوب مع الأفكار والأحداث والمجتمعات والمعارف بصور تتجسد بالخطوط والألوان، ومختلف الخامات والوسائط ومنهج الصياغة والتكوين وخبرة التعبير والترميز والبعدين الصوري والعلاماتي في هذا الفن.
وبعيدا عن طرق وكيفية صياغة الشخصيات وتنوعها وتجميعها في تكوينات ذات دلالة خيالية رمزية أسطورية في الشرق الإسلامي، وذات سياق وصفي تتابعي في الغرب الإسلامي، فيما يتعلق بفنون التصوير التمثيلية، وتلك الأمور لم نجد لها صدي أو إشارات في كتابات الفلاسفة المسلمين، وكأن عالم الكتابة والفكر التنظيري والفلسفي يتحدث عن عالم غير ذلك العالم الذي عاشه وصنعه الفنانون، وتعاملوا فيه مع الكتاب اولمجتمع، وتتعاظم الصعوبة أنه لم يصلنا نص كتبه فنان أو حوار جري بين فنانين من الشرق أو الحضارة الإسلامية حول طبيعة ونوعية عملهم، بل ولم تكن كلمة فنان معروفة في ذلك العصر، كما في الحضارتين الإغريقية والمصرية القديمة، فكان المصورون والنحاتون ورسامو الكتب والمزخرفون، بمثابة مهنيين دون مكانة أدبية أو اعتبارية تذكر، فقط يؤدون ما يكلفون به، ومن ثم لم نجد من بينهم من اهتم بكتابة مذكراته أو وصف مهنته أو تقديم إبداعه في سطور ببداية المخطوط أو نهايته لكونهم يتعاملون مع الخلفاء والملوك والشاهات والسلاطين والوزراء؛ كانوا يؤثرون التواضع بل والمذلة الاختيارية أحياناً، حيث يذيلون بيانات ما يصورون ويكتبون بصفات العبد الفقير والحقير، بخلاف الفلاسفة والكتاب والشعراء الذين حفلت الموسوعات بسيرهم ومآثرهم بقدر كبير من التقدير، وإن وجدنا بعض شذرات عن عبقرية بعض الخطاطين والمصورين الكبار في ثقافة الإيرانيين والهنود؛ لحرص حكامهم علي تبني هؤلاء ومنحهم المناصب والهدايا والأموال وتقريبهم من مجالسهم، بل والتتلمذ علي أيدي النابغين منهم أحياناً، فمنحوهم صفات العبقرية والأستاذية وما إلي ذلك من صفات رفيعة.
تم تدوين معلومات عن طبيعة المراسم ومدارس إعداد المخطوطات، ورسم وتلوين المنمنمات، والخط العربي، والتذهيب، والتصميم العام للصفحات والتجليد بمختلف ابتكاراته الحرفية والجمالية، وعن التراتب المهني في تلك المحترفات الملحقة بالقصور والدواوين الكبري تحت الرعاية السلطانية، ومنها اتضح بعض الملامح من سلوك الفنان وتكوينه الثقافي والمهني ودرجات تميزه وشهرته، بل ومعلومات مهمة عن طريقة الفنان في إنجاز عمله، كأن نعرف أن المصور كمال الدين بهزاد كان يرسم لوحاته علي ورق بمقاس أكبر من صيغته النهائية في المخطوط، ثم يقوم بتصغيرها وإعادة رسمها وتلوينها علي صفحات المخطوط صغيرة المساحة، غير أننا لم نتوصل إلي أي من تلك اللوحات المكبرة الأولية للمنمنمات.
ويتطلب لرؤية الفنون الإسلامية بمنظورها الشرقي؛ التأمل في روافدها المختلفة ومنها التصوير الذي يتفرد شرقيا بتبادل النصوص الأدبية والصور المرسومة أدوارهما، فالنص يصور خيالات ومظاهر وتصورات بصرية ولكن بالكلمات، بينما يتقمص التعبير التصويري الذي يتوسل بالرسم والتلوين والتكوين منهج الأديب، وكأنه يكتب النص ولكن بلغة العلامات الصورية.
ويتجلي ذلك في تصور عرش الرحمن، وقراءة بها وصفا متكررا في مخطوطات الشريعة، يجمع بينها حالة الوجد الذي تحول إلي تصوير يوتوبي مثالي باستخدام الكلمات لوصف أشكال الملائكة المختلفين واجنحتهم المطهمة والمرصعة بنوادر اللآلئ والجواهر والذهب والفضة، والفيروز والعقيق والزبرجد والماس والياقوت وغيرها من الأحجار الكريمة في تجمعات وتكوينات باذخة، وكان الكاتب يحول صورة الملائكة إلي هيئات مصنوعة من تلك الخامات الثمينة دون أن تبدو ككائنات حية ذات قلب ونبض وروح، وعندما يتعرض مؤلفو تلك الفقرات إلي وصف عرش الرحمن جل وعلا، يلجأون إلي نفس نوعية التصورات البصرية الخيالية، تعكس قناعاتهم بأن مقام العرش يكمن في البذخ الزخرفي، واستخدام الخامات الثمينة في تصويره الرمزي بالضخامة والاتساع إلي أبعد ما يسوقه الخيال.
ولأنها تصورات من مصادر شرعية، لهذا بالتفخيم الذي تتفتق عنه القريحة الإنسانية بذوقها المرتبط بزمان الكتابة ولا تحتفظ بقيمتها النوعية مع مرور الزمن واختلاف الذائقة وارتفاع مستويات الفخامة في العالم المعاش الأرضي، لتضعف خيالاتهم المتقادمة فتفتقد مع مرور الزمن قيمتها، والمدهش حقا هو تشدد هؤلاء المصورون بالسرد الكتابي ضد أي محاولة لتصوير ما يقولونه بالكلمات بأي شكل مصور.
فأنت مصرح لك بلا حدود أن تُعمل خيالك صوريا بالكلمات، ولكن حذار أن تحاول ترجمة أي من ذلك في صورة بصرية مرسومة أو مصورة أو ملونة أو مجسمة، يستثني من ذلك الحظر الفنانين الشعبيين في مراحل زمنية معينة، حيث صوروا فرسان العرب وآل البيت وبعض الأنبياء، والرسل والبراق النبوي الشريف، والملائكة في إطار قدر من الحرية والبراءة من التصور المكاني لملامح البيئة الطبيعية والمصنوعة، وربما تتواضع تلك التصورات البصرية، وتشبه ما اعتاد راوي الرباب الشعبي أن يلقيه لفظياً بصورة درامية فخمة إيقاعياً متجاوزة الحدود الأرضية الواقعية.
المسرح العربي
وفي مرحلة أخري ينتقل التصوير الآتي من الأدب إلي المسرح الذي ترتبط جذوره في العالم العربي والإسلامي بالأصل الأدبي ، فالثقافة العربية خاصة اتسمت بالاحتفاء بالشعر والإلقاء الشفهي كفن رفيع، وعُنيت بالكلمة أكثر من احتفائها بالصورة والرسم والتلوين، والأديب يُعبر بالكلمات؛ ولكنه يفكر بالصور والأشكال، ومن ثم أصبح الخيال والتصورات البصرية مهيمنة بقوة علي كل من الشعر والأدب، وربما علي النصوص العلمية التي تفتقر إلي رسوم توضيحية أحياناً، فأصبحت النصوص بمثابة ديوان للتصورات والرموز والِكنايات البصرية، في الوصف الدقيق والاختزال المُعبر للصفات البنائية والملامح البصرية عما يتحدث عنه النص.
وبذلك تحول الأديب لمُصور يُعوض غياب الرسوم التوضيحية في النصوص الأدبية، والتي كانت تعرضه للمتشددين دينيا فيهاجمون كل أشكال التصوير والتشخيص، وعندما أصبحت الثقافة الإسلامية أكثر انفتاحاً واستنارة، وظهرت أهمية الرسوم التوضيحية لتوضيح المخطوطات العلمية والأدبية والتاريخية، وتطورت فنون المُنمنمات المصورة في المخطوطات؛ سلك المصور منهج الكاتب وخياله، بدلاً من التعبير عن محيطه المرئي ومشاهداته، فصار يتبع في صياغة عناصره وحركاتها ومحيطها المكاني منهج الثقافة البصرية التي أسس لها الأدباء شفاهة أو تدويناً بالكتابة.
وتوضح الأشكال الأولي للمسرح العربي في تكوينها الفكري والبصري بأنها نتاج هذا التبادل لخبرات الأديب البصرية والمصور الأدبية، وبلورتهما معاً لخيال تصويري متآلف يتميز ببلاغة الوصف وعمق الكنايات، ووضوح التتابع السياقي وتفاوت أوزان الأحداث، والنزعة الدرامية، وباتت توليفاً أكثر تعقيداً لعطاء ثقافة الإلقاء الشفهي، والنص النثري المكتوب والمنظوم والتصور البصري، مع الغناء والموسيقي والأشكال المصورة ذات الخلفيات الأدبية ، وتتوافر في النصوص الأدبية والخيالية تعبيرات مسرحية متعلقة بالتصور المكاني والتفاصيل التي يحتويها هذا المكان وذاك، ومصنفات الشخوص والكائنات، بأوصافهم وأدوارهم وحركاتهم المميزة، وسياق تتابع الأحداث وتصاعدها ونوعيات الحوارات وتفاوت المستويات بين الناس.
ومن الأشكال المسرحية المبكرة التي عبرت عن حالة المزج بين البناء الأدبي والتصويري؛ مسرح خيال الظل الذي بدا كتجسيد لأحد المنمنمات في إحدي المخطوطات الإسلامية، كمنمنات الحريري أو كتاب الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل للجرزي، لتتحول عرائس وشخوص الخيال وتكوينها وحركتها خلف الشاشة المضيئة بدورها كمرجعية مهمة لمصوري المنمنمات الإسلامية في تعبيرهم عن العناصر والتكوينات والإيحاءات الحركية في تلك اللوحات الصغيرة، حيث تتجلي أوضاع المحاورين وحركة الأيدي والأصابع الإشارية وصيغة العناصر المعمارية والنباتية بأقل التفاصيل في صورة معبرة.
وفي إطار الخلاف بين المنظورين فإن هذا الشكل من المسرح يدحض خلو تراثنا العربي ومعرفة العرب بالمسرح، وادعاءتهم بأَن أساطيرنا ضعيفة باهتة، وأخيلتنا محدودة قاصرة، والإصرار علي أننا لم نعرف قط التمثيل في أي صورة من صوره إلا علي يد الثائر الأوروبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، في حين يشيرون إلي أن تاريخ المسرح في الأمم الأوروبية منذ العهود الكلاسيكية قدم أشكالاً بدائية وبعضها ضَحل أو حتي فَج، ولكنهم يصنفونه علي كونه جذور المسرح الغربي، متصورين أنه لا ضرورة بل ولا صحة لمجرد البحث عما يضاهي صناعة الغرب في هذا المجال.
لكن المدقق والمتأمل للفنون الإسلامية بمنظورنا الشرقي يرصد محاولات مبكرة للحركات المسرحية لدي العرب، فلم يتوقف الإبداع الفني في العصر الإسلامي علي الفنون الملكية والتي تعد للنخبة المُوسرة والتجار، وإنما كان كما في الحضارات المختلفة؛ هناك تيار إبداعي موازي من الفنون الشعبية التي ينتجها فنانيون شعبيون للوفاء بالحاجات المادية والمعنوية للبسطاء من أبناء الشعب، في حين كان المسرح في الغرب وقتها سواء كان نصاً ثابتاً محفوظاً أم حركات تمثيلية تعبيرية لا يستند إلي نص أدبي، بل يعتمد علي نكات بَذيئة وحوارت مُهلهلة ضعيفة، أو نص إرتجالي يصنعه الممثل عندما يريد أن يتجاوب مع جماهير معينة، كما يسوق أمثلة أخري تتسم بالانحطاط في الشوارع والميادين والخانات، شاعت في أوروبا في القرون الوسطي وما قبلها.
ترجع أصول مسرح خيال الظل إلي الهند والصين، وتشير الدلائل إلي انتشاره في العالم الإسلامي، والتي تظهر في كتابات عمر الخيام وابن حزم، ووضع الإمام الشافعي بيتين في خيال الظل جاء فيهما :
رأيت خيال الظل أكبر عبرة
لمن هو في علم الحقيقة راقي
شخوص وأشباح تمر وتنقضي
وتفني جميعا والمحرك باقي
كما وصف المؤرخ الإسلامي الصفدي خيال الظل في أحد كتبه المحفوظة بدار الكتب والوثائق القديمة بالقاهرة؛ وأشار إلي أنها تمثيليات من الظل كانت تؤدي في بلاط العراق قبل الغزو المغولي واستمرت أثناءه، وفي البلاط المصري كانت عروض خيال الظل هي المفضلة، كما يرجع معظم الباحثين أصل عروض خيال الظل في مصر إلي فترة حكم الفاطميين؛ التي تميزت بالثراء والاستقرار والانفتاح، كما ازدهرت فيه جميع مجالات الفنون والحرف والأنشطة الأدبية والتوسع العمراني، وبناء الأسواق النشطة بالتجارة، وشاع فيها مظاهر الاحتفاليات والتحرر من القيود الدينية المتشددة.
وكانت عروض خيال الظل تقدم في قصور الفاطميين، فناً يقدم للطبقات الاجتماعية العليا، وإن حاول السلطان الظاهر بيبرس إلغاءه ، بينما كان السلطان شعبان مولعًا بعروضه إلي الحد الذي جعله يصطحب فرقة من اللاعبين معه في رحلة الحج إلي مكة، ثم انتشرت هذه العروض في الأسواق المزدهرة وللطبقة الوسطي المنتعشة اقتصادياً، وأصبح الممثلون قادرين علي اكتساب أرزاقهم من تقديمها الشعبية بالأسواق، ولكنه فن قصير العمر لم يستمر لأكثر من سته قرون، ورغم هذا حافظ مسرح الخيال علي قدر شعبيته في الأسواق الفقيرة بالمدن، وفي حفلات المناسبات العائلية للأسر الثرية، إلي جانب مواسم المولد النبوي والعودة من الحج وليالي شهر رمضان، فضلاً عن تواجده في بعض المقاهي العامة بالمدن.
وتدريجياً انحسر وجوده بالمدينة وانتقل إلي القري بحثاً عن الشعبية والرواج، وفي نهاية الأربعينات حلت العروض السينمائية والمسرحية محله بقوة، ليتحول إلي مأثور مندثر، إذ فقد وجوده وفاعليته بين الجماهير، لكنه يظل دليلا دامغا وشكلا من أشكال مسرح كفن إسلامي له خصوصيته التي تسمح بتفاعل الجمهور مع المؤديين، حيث يتحدون في خبرة مشتركة تماما كما يحدث مع الجمهور المعاصر في تفاعله مع الغناء ومسرح الشارع.
ارتبط خيال الظل من حيث الشكل وتقنية التنفيذ وفكرة التحريك إلي شكل أسبق من الدمي المتحركة ميكانيكياً التي عرفها الفن الإسلامي في العراق، وصممت هذه الألعاب الميكانيكية كنوع من الترفيه للخلفاء، ولاستعراض القدرات التقنية لمهندسي البلاط ومنها ما هو مسجل في مخطوط الجامع بين العلم والعمل في صناعة الحيل للجرزي، وأعتاد فنانو عروض خيال الظل تناول موضوعات مستمدة من الحياة اليومية، ما بين هزلية مفرطة وأخري رومانسية وتاريخية، وأحياناً يقوم اللاعبون بالتوليف بين هذه النوعيات في سياق متجانس، وباستثتاءات قليلة فإن نصوص التمثيليات شأنها شأن الفن الشعبي بصفة عامة مجهولة المؤلف.
ويعتمد هذا الفن بشكل رئيسي علي اللاعب الذي يحرك الشخوص وأطلق عليه اسم المخايل أو الحاذق، والذي يتخذ عرائس الخيال والصور وسيطاً ووسيلة تواصل مع الجمهور، ويجب أن يتمتع بعدة مواهب مجتمعة كالخيال والقدرة علي التصوير وسرعة البديهة، وطلاقة لغوية وملكات إيقاعية في الأداء الصوتي والتمثيل الارتجالي بما يناسب العرائس المختلفة، وقدرة فائقة علي التجاوب مع ردود أفعال جمهوره واستحسانهم، ولديه دراية بإعداد المسرح والتمهيد للعرض بعبارات مُحفزة، وربما يكون فريقا يرأسه هذا الحاذق
وساهم في انتشار هذا الفن أيضا حماس الجمهور له في زمن الحروب والشدائد وخاصة الطبقات الشعبية بحماس شديد، وباتت مثيرا قويا لدعم روح المقاومة والتحدي، وأحياناً تناولت العروض حُكام البلاد بنقد لاذع، ولأن لغة الممثلين تتضمن عادة ألفاظاً مكشوفة من السب والشتائم والإسفاف الأخلاقي، فقد كان مسرح الخيال معرضاً في أحيان كثيرة للخطر، ومعاقبة الممثلين واللاعبين، كما كانت العرائس تُحرق تعبيراً عن غضب المسئولين علي هذا النقد الموجه لسلوكهم المرفوض من العامة، ليصبح خيال الظل بقدر ما هو ترويح عن الناس مثالاً للمقاومة الشعبية ونوع من التنفيس والبديل المحظور عن مجريات السياسة والحكم، وفي الترويج للأفكار والقيم الدينية والاجتماعية.
معاناة المصورين
من التصوير بالكلمات إلي الكتابة بالرسوم والتكامل بينهما في كثير من الأحيان، حيث يضع الرسام أو المصور تصوراً بنائياً افتراضياً لتوزيع عناصر في مساحة الرسم، مستخدما عناصر الطبيعية كخلفية ثرية كالجبال والسهول والأشجار والمباني الدينية والمدنية وجداول المياه العذبة والبحار، وكان إعداد المخطوطات التي كان يصورها ضمن منظومة عمل جماعية يشارك فيها صانع أفرخ الورق اليدوي ومخطط الصفحات لتوزيع مساحات لكل مهمة عليها، والخطاط الذي ينسخ النص والرسام الذي يصور المنمنمات، والزخرف الذي يضيف الإطارات والزخارف إن تطلب الأمر، يدخل في هذه العملية المركبة دور التذهيب وتقنياته التي تعتمد علي إذابة ذرات من رقائق الذهب في الصمغ العربي ليستخدمها الخطاط في الكتابه.
ولكن أمر المصورين كان صعبا وخطيرا فقوبلوا بعداء شديد إلي حد حرق الكتب التي بها تصوير ورسوم علنياً أمام العامة، أحيانا كما فعل العباسيون وخاصة في عهد الخليفة المهدي، وتسبب غزو المغول لبغداد في حرق واتلاف آلاف الكتب المخطوطة منها والمصورة والمذهبة في مخلتف أطياف المعرفة، وعمل جنوده علي حرق دور الكتب التي كانت عامرة كما اضطر أهل بغداد إلي التنازل عما يملكون من كتب نفيسة مع متقنيات ثمينة أخري إلي أهل الكوفة مقابل الطعام لمواجهة المجاعة.
وضاعف المتشددون دينيا من معاناة المصورين أيضا من فتواهم المحرضة، ولجوء البعض إلي تشويه التصاوير أو رسم خطوط حمراء علي رقاب صور الشخوص والكائنات الحية، اعتقاداً بأن ذلك يبطل حياتهم فيصبحون بعيداً عن أخطار الغواية بالردة التي يتوهمونها، ولجأ بعض مقتني المخطوطات المصورة إلي مصورين ليحولوا رؤوس العناصر الحية في المنمنمات إلي زخارف نباتية لإبهامها، يأتي هذا في الوقت الذي حظي فيه الخطاطون علي أعلي مستويات الدعم والتوقير والرعاية الأميرية والأهلية، وبنسب متفاوتة حصل علي أشكال التقدير المذهبون والمزخرفون وصناع الورق والأحبار.
وإن شهدت مرحلة أخري موقفاً أكثر إيجابية تجاه التصوير والمصورين تدريجياً؛ من العصر الأموي وخاصة عصر الخليفة هشام بن عبد الملك مرورا بالعصر العباسي الأول مرتبطا بجهود التعريب؛ ففي عهد الخليفة المأمون انشأ دار الحكمة ببغداد، وأرسل البعوث إلي الخارج لاختيار المؤلفات المهمة لتعريبها وخاصة كتب الفلسفة والعلوم اليونانية والهندية والفارسية، وأصبح التصوير في تلك المخطوطات العلمية المترجمة حتمياً، لأنها تتناول أحيانا عناصر غير مألوفة شكليا للقارئ العربي، والهدف منه يتعلق برقي الأمة وتقدمها، ومن ثم تراجعت الحملات المعادية للتصوير، وبدأت مرحلة جديد من الاعتراف والتقدير، ورغم هذا لم يكن المصورون يوقعون علي أعمالهم إلا استثناءات نادرة.
كانت الحاجة العلمية مدخلا للتصوير واستخدام الرسوم، وإن ظل الأمر مجهولا حتي كشفت عنها الرسوم التوضيحية للنصوص العلمية اليونانية المترجمة إلي العربية في منتصف القرن الثامن في علوم الأدوية والنباتات والفلك والميكانيكا والطب، حيث حرص المسلمون بعد ازدهار واستقرار دولتهم علي ترجمة علوم الأمم السابقة، وضرورة تحليل وتفسير المعارف وتصنيفها، ودعم الشروح بالرسم والتصوير الملون، حتي أصبحت جميع الأعمال العلمية المهمة متاحة باللغة العربية مع مطلع الألفية الثانية.
ومن أهم ما ترجم مزودا برسوم توضيحية أعمال في الفلسفة والفلك والرياضيات والسحر عن الإغريقية، والرياضيات والميكانيكا أرشميدس و أبولونيوس، وكان نقل العرب عن اليونانيين والرومان والبابليين والهنود والبيزنطيين وغيرهم رسوم المخطوطات العلمية التي ترجموها كمرحلة تحضيرية، وبالرغم من التشابه الواسع في أسلوب الرسوم، ولكنهم وجدوا ضرورة إجراء عمليات ترجمة رمزية لتطوير تلك المشاهد لتتوافق مع قيم الإسلام وفنه، كالاحتشام في رسوم النساء، وتغير هيئة الملابس وقطع الأثاث وسحن الشخوص، وأنواع الملابس وغيره.
ثورة الفن
لم يتوقف الفنان الإسلامي عند نقل النماذج البيزنطية واليونانية، ولكنه تطور في عمله وتحول إلي إدخال تعديلات عليها، وصولا لابتكار صيغة عربية إسلامية خالصة لهذه المنمنمات المصورة، خاصة ما يتعلق بالاهتمام بتصوير المناظر البرية التي ينمو فيها نبات معين، أو عملية وزن دواء في صيدلية بأحد الأسواق، وتراكمت لدي هؤلاء الفنانين الخبرات والابتكارات الفنية وبلوروا أسلوبهم الخاص للتصوير المصاحب للنصوص العلمية، واتخذ مسارات متنوعه كتصوير عناصر الطبيعة من نباتات وحيوانات وأحجار ومعادن وكائنات مختلفة في منمنمات مصاحبة للشروح والنصائح العلمية في إطار ثقافة العلامة.
ومزيداً من التطور في مخطوطات لنماذج عملية من المبتكرات الهندسية وتركيباتها، وآليات حركتها ووظائفها، ومخطوطات أخري ذات طابع شعبي أو خيالي، والتي تجمع بين عناصر الفلك والجغرافيا والطبيعة والخيال في تصوير العناصر، ويتضح في هذه المخطوطات أن التصاوير ذات الطابع المعرفي والعلمي التوضيحي تحتاج لخيال وحيل متعددة لضمان حسن التوضيح، وهو ما تمكن منه المسلمون، وبات لديهم تراث فني بالغ التميز والثراء في استخدام الخطوط والألوان والرموز والتكوينات؛ بما يخدم الغرض النوعي من كل عمل، وهو تراث في صميم لغة التشكيل والتصوير والتخيل البصري، وتوظيف الألوان بصورة تجمع بين هدف التوضيح والشرح وفق الجمالية الشرقية التي تتبني حضارة العلامة.
اعتمد المصور في ذلك علي رسم القطاعات الرأسية والأفقية والمائلة، وعلي الشفافية لتوضيح الطبيعة الهندسية التركيبية، ونوعية الحركات وأدواتها وخامتها، فضلاً عن تسجيل القياسات الحاكمة لتلك المجسمات والاختراعات الميكانيكية كالتماثيل المتحركة، والساعات والتي يصدر بعضها أصواتاً مقصودة لتؤدي أدوراً بعينها، ويهتم كثيراً بالدقة في تصوير رسوم مخطوطاته، حتي أن بعضهم كان يصطحب المؤلف إلي أماكن النباتات في جبل لبنان وغيره من المواضع، فيعتبر لَونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها أثناء تطورها في النمو.
وأهتم العالم الإسلامي بالرسوم التوضحية بشكل خاص في المخطوطات الجغرافية، واستفادوا من كتابات وخرائط اليونانيين ومنهم مؤلفات بطليموس، فكانوا يتواصلون مع الغرباء ويسألونهم عن ممالكهم ومداخلها ومسالكها كمقدمة لفهم طبيعة تلك البلدان، وآخرون اعتمدوا علي ملاحظاتهم الشخصية، وترحالهم الدائم في البلدان الإسلامية من مصر إلي المغرب وفارس والهند والصين؛ والتعرف من أبنائها وزرعها وسُكانها، وجنسياتهم، وشرابهم ولبسهم ودياناتهم وثقافتهم، ويختار من بين تلك البيانات ما يثق فيه.
فيستمعون للرهبان والتجار والبحارة عن حكايتهم ومشاهداتهم وتجاربهم، كجزء المنهج العلمي المرجعي الذي يعتمد علي جمع المعارف والتفاصيل من أصحاب الخبرة المباشر، فضلا عن المتابعة الميدانية الشاقة في معاينة المواقع وتحديدها بدقة، وبناء لغة علمية في الوصف والرسم والتوضيح والنقد تصاعد الاهتمام بالجغرافيا في الحضارة الإسلامية، باعتبارها مضمار الربط بين أمم الإسلام وأقطاره، ووسيلة التعرف علي أحوال كل شعب ومنجزاته وعوائده، وإمكانات التواصل مع أبنائه.
طور المصورون منهجهم في تصوير الخرائط الجغرافية التي كانت طبيعتها رمزيه ودينية تركز علي الموقع المركزي للكعبة في الكون، وعلي الجبال، وعلي المعالم المذكورة في القرآن الكريم، وعلي تصوير معالم مكة والمدينة المنورة وما حولهما من معالم مقدسة، وأخذ العرب عن الهنود والفرس والإغريق وابتكروا أساليبهم الخاصة، ففي عهد العباسيين تحديداً رسمت أول خريطة للعالم، وأسهم الجغرافيون بدراساتهم الميدانية التي مزجوها بالتراث السابق في تقديم رؤية جغرافية إسلامية مطورة استفاد منها المصورون.
ومن البحور الجغرافية الأرضية، انتقلوا إلي البراح الكوني والفلكي الذي أصبح ركنا أساسياً في علوم الحضارة، والتي ربطت بين الظواهر الأرضية ومقابلتها الكوكبية وأبعادها الإيمانية والقدرية، وبلغ علماء المسلمين شأناً كبيراً في استيعاب هذه العلوم من أصولها الكلاسيكية، وطوروا تلك المعارف بالبحث والتجربة والملاحظة الحثيثة وعمل حسابات باستخدام آلات فلكية متطورة، فنجد مخطوطات بها صورة للكويكبات كالدرب الأصغر والدرب الأكبر، والتنين، والكواكب الملتهبة، وكوكبات عوا، والفكه، والنسر الواقع، وصورة الدجاجة، ودلفين، وأبراج الثور والجوزاء والسرطان والأسد وغيرها.
وقدر الفنانون المسلمون اهتمام فلاسفة المسلمين بالأجسام الحية باعتبارها معبد الروح، وخاصة جسم الإنسان والذي رمزوا له بالمملكة، وكذلك اهتمام الأطباء بدراسات أعضاء الجسد ودوراته الحيوية ولوجا لعلم التشريح للجسم البشري والحيواني والذي اهتم به أيضا رجال الدين والمتصوفة باعتبار أن كل ما توصلوا إليه من آيات الله في خلقه، وأن دراستها المتأنية هي الطريق لفهم حكمة الخالق عز وجل، تميزت تلك الرسوم فنياً بأسلوب مختلف كثيراً عن تصوير المخطوطات الأدبية والعلمية الأخري، وهي أقرب إلي منهج ومنظور رسم الخرائط الجغرافية، وتتميز بالاختزال التقريبي؛ واستبعاد التفاصيل الأقل أهمية.
من أكثر ما آثار الجدل حول التصوير في الفن الإسلامي بعدما وجد فنانوه مكانا وكيانا، ومن منطلق الاهتمام به في علوم الجغرافيا والتشريح وغيره؛ تصنيفه كونه دينيا أو مدنيا، فقد اتفق الكثير من المؤرخين إلي اعتباره فنا مدنيا يخدم العلم والحياة اليومية، بدليل أنه لا يوجد شكل من أشكال الفن الإسلامي الديني باستثناء عمارة المساجد والأضرحة، ولم يكن مقبولا استخدام الصور لشرح الأمور الدينية كما يفعل المسيحيون، وأنه لم يحدث أبداً أن زخرفت المساجد والمصاحف الشريفة بصور دينية ولو علي سبيل استخدامها في الوعظ، غير أننا نعتبر أن أي تعبير فَني مهما اختلف في موضوعه وأسلوبه يُعد فناً مقدساً، وذلك لأن تعريف الفن والفنان يعتمدان علي خاصيتين بالغتي التميز، فالفنان يحقق إبداعه من خلال الموهبة وهي هبة ربانية، ولكن القداسة من هذا المفهوم التعميمي للإبداع الفني لا تعني محاكاة أو التعبير عما هو مقدس بالضرورة .
ورغم هذا لم يخل الفن الإسلامي من محاولات التصوير الديني والتي اعتمدت علي الصور القرآنية؛ وإن كان الأمر صعبا يعرض المصورين للإضطهاد والتشكيك في إيمانهم وصولا لاتهامهم بالكفر والزندقة، ولكن هؤلاء استطاعوا تجاوز ذلك واستخلاص صور بديعة من القرآن الكريم وتلوينها وإضاءتها والتكثيف البلاغي في التعبير عن الرموز التي تجسم المعاني في تجليات مفحمة، بخلاف ما يقوله المتشددون والمتطيرون فإن رسم تلك الصور ينم عن أن رسامها يتمتع حتماً بدرجة عميقة من الإيمان إلي حد الخشوع، وكان التساؤل الملح عليه والشديد الصعوبة مفاده كيفية تصور الله وتمثيل معناه فنياً، ولكن الفنان الإسلامي المفعهم بالإيمان وجد مبتغاه في صفات الخالق عز وجل وقدرته علي التعبير عنها، ولكنه يحرص بصورة مطلقة علي تنزيه الصورة الإلهية المتسامية عن كل شبه، بل وعن كل تورية.
لم تمنع هذه الصعوبات والتعقيدات المصور الإسلامي من الولع بالتعبير عن رمز الجلالة المنزه عن التشبيه وعن المقارنة، وكذلك صورة الجنة التي حظيت بمقدر وافر من التصورات الإبداعية الرمزية والمجازية، فضلاً عن أمثلة مهمة عن الممارسات الحياتية التي تتوق إلي إنشاء جنات كبيرة وصغيرة في محيط البيئة الأرضية والمُنشآت المعمارية والمتنزهات وحتي من حول الأضرحة التي كانت بمثابة صور قدسية، وعجت بها المساجد في هيئة زخارف من التشبيكات البنائية المتواصلة "الأرابيسك" تسر الناظرين يسرحون إليها في رياضة ذهنية لا تراوغ عين المصلين أو الخاشعين في قراءة القرآن الكريم.
ومن الصور الدينية الطابع التي ولعوا بها أيضا تصوير آدم وحواء في مشاهد متكررة في المخطوطات الإسلامية وفي الرسوم الشعبية اللاحقة أيضا؛ حيث صوروهما وهما في رحاب الجنة، متمتعين برغدها، كما رسموهما في حالة استسلامهما لوسوسة الشيطان الذي دلهما علي الشجرة المحرمة بغوايتهما التي أخرجتهما من الجنة، ففي واحدة يبدو فيها علي آدم وحواء علامات اليُسر، إذ يرتدي آدم ثياباً خضراً، بينما ترتدي حواء السندس والاستبرق والحرير، وفي أخري نزعت عنهما ثيابهما ليريا سو ءاتهما.
حظت أيضا رحلة المعراج النبوية الشريفة باهتمام المصورين وتخيل البراق النبوي الشريف، وأسهم في إبداعه وإعمال خياله بشكل كبير. الآيات القرآنية الكريمة لم تصف الوسيلة التي انتقل بها الرسول عليه الصلاة السلام،وإن كان هناك اتفاق أجمع عليه الباحثون والمصورون أنها لن تخرج عن كونها دابة؛ عند البعض برأس إنسان رمزا للتفكير وعلو الشأن بين الكائنات الحية وجسد حيوان قوي يدفع بخطاه إلي أقاصي أطرافه، وجناحي طائر تعبيراً عن سرعة الحركة.
وفي هذا خيال شعبي خالص، كان له قيمته أيضا تصوير مشاهد متخيلة عن الجنة والنار، والتي حاول المصورون بها تخيل وترجمة النصوص القدسية وهي نادرة جداً في التصوير الإسلامي، وكذلك في تصوير رحلة الإسراء والحوار بين سيدنا جبريل عليه السلام يضع تاجاً علي رأسه، ويحلق بجناحيه إلي أعلي في حضرة سيدنا موسي عليه السلام والرسول الأمين دون تصوير ملامحهم، والتعبير عن الجنة من الناحية الرمزية بحدائقها وقنوات المياه والنوافير.
كانت المعضلة الأكبر في رسوم الصور الشخصية وتحديدا الوجوه التي قابلها تشددحتي بعد الترحيب بالتصوير في الفن الإسلامي، مما حدا بالبعض إلي تشويه الوجوه في الصور وفي تصوير الكائنات الحية بصفة خاصة، وهذا التشويه اعتقاداً بأن ذلك يبعدها عن مشابهة المخلوقات الحية، وكان من الشائع رسم خط أحمر علي رقاب تلك الشخوص والكائنات الحية الأخري في الرسوم تصورا أن ذلك يجعلها غير محرمة تحت ذات الاعتقاد، وأن ذلك التشويه أو قطع الرؤوس رمزيا بالخط الأحمر يعدم الحياة في الصورة.
ولكن وكالعادة لأسباب سياسية بحتة غض المتشددون البصر عن تصوير أشخاص بعينهم مثل صورة الخليفة عبد الملك بن مروان علي العملة تمهيداً لعملية الانتقال من العملة الرومانية التي تحمل صورة إمبراطور بيزنطية إلي العملة الإسلامية، وانتشرت تلك العملات في شمال أوروبا نتيجة للنشاط التجاري، وتواصل هذا التقليد في بلدان الإسلام تحت رعاية خلفاء بعد ذلك، كذلك صُور الأمير جهانجير يتأملها أبيه السلطان جلال الدين أكبر، وكان مغزي الرسم السياسي التأكيد علي شرعية جهانجير كخليفة لأبيه.
وكان فن البورتريه الذي فرق بين الرسم والتصوير، وأبعد الفنانين قليلا عن قبضة المتشددين، والذي ازدهر في العصر العباسي، بل وحظي بدعم الحكام، فوظف الخليفة المتوكل رسامين إغريق لزخرفة قصره في سامراء بالصور، والذين كانوا يحرصون علي وضوح الشبه في رسومهم للشخوص، والذي دعا كل مصور وعالم فلكي ورياضي مرموق لتصوير وجه ابن سينا علي الورق، ثم كلف مصورين آخرين بإعداد أربعين نسخة من هذه الصورة ووزعها علي قصور الحكام المجاورين له مراهناً علي مدي قدرتهم علي التعرف علي الشخصية التي قصد بها الرسم.
الهيمنة الغربية
يبدو من رصد التصوير وغيره من روافد الفن الإسلامي بمنظور شرقي أنه مغاير عن المعتاد رصده بحسب المنظور الغربي وما بينهما من اختلافات واتفاقات، فالفن الإسلامي يعكس عمق مؤثرات العقيدة الإسلامية وأبعادها الروحانية ممزوجة بالاجتهاد، والتقدم في العلوم والفلسفة، فلكل حضارة شأنها وقيمتها وأفضليتها المختلفة كثيراً عن الأخري، وقد أثبت تاريخ الفنون الإسلامية أن الخلط المتسرع بين المنظورين نتائجه كارثية.
اضمحل الفن الإسلامي في فترة بزوغ الفن الغربي بسبب استدعاء الغرب وتمكينه من الهيمنة علي الذائقة والأسلوب ومعايير الفن الإسلامي التي تبلورت بشخصيتها الفريدة، ففي البدايات كان المسلمون منفتحين علي ثقافة الآخر واستوعبوا علومه ومعارفه ومهاراته وأسلوبه في التعبير، وأظهروها في قناعاتهم الإيمانية وقاموا بتصفيتها بما يلائم تلك القناعات، ويفي بمتطلبات النهضة وبناء الدولة، وتشكيل ملامح الثقافة الذاتية المركبة من مدخلات بالغة التعدد والتنوع والثراء، وفي النهاية ظن السلاطين والشاهات والملوك أنهم يفعلون خيراً بدعوة عدد من فناني الغرب إلي بلاطهم للعمل ولتعليم فناني بلادهم المنظور الغربي الذي خالوه أكثر تقدماً من فنونهم، وأن ذلك يمكن أن يعزز قيمة ومكانة الفنون الوطنية.
كما أرسلوا عدداً من فنانيهم إلي الغرب لدراسة هذا المنظور المختلف، والتمكن من مهاراته، ولكن دولهم تعرضت للهزائم والتفكك والتحلل، وازدياد النفوذ التجاري والعسكري الغربي في أقطارهم، فأغرقت الأسواق بمصنفات غربية الطراز ، وتدريجياً أزاحوا بدائع الفنون والصنائع الوطنية وحلت محلها منتجاتهم المقحمة بشتي الطرق، وكانت إرادة أصحاب القرار انفتاحية استسلامية من خلال إحساسهم بالهزيمة والتراجع في مقابل ما هو غربي، وعبرت نوازع الانحياز والتعصب والاستعلاء الغربية عن نفسها بالسعي إلي تنحية القائم المتوارث الذي تواصل تطويره عبر عشرة قرون من التجويد والإبداع.
وعمدوا إلي إزاحة هذا التراث، وزرع تراث مخالف بمنظوره الذي تبلور في بيئات ومجتمعات غربية لها أفضلياتها وأولوياتها؛ هو قهر للعالم الإسلامي وتعزيزاً لعالمهم الغربي الذي روجوا إلي أنه النموذج الأمثل، فضلاً عن فتح أسواق شاسعة لمنتجاتهم دون تنافس محلي، كما أسس البريطانيون تحديدا مستعمرات تجارية علي الشاطئ الهندي في القرن السادس عشر وأشكال أخري في بقية مستعمراتهم.
ورغم أن تلك الإبداعات الخالدة الباقية تعد مصدرا بالغ الثراء لقراءة وتحليل عالم الفن والفنانين في الثقافة والحضارة الإسلامية، فهي وثائق صامتة، يمكن حتماً استنطاقها لتعويض الفراغ التنظيري الذي لم يملأه حكماء وفلاسفة ومتصوف المسلمين بلغتهم الغامضة والملتبسة، وشذراتهم المجزئة بلا رابط يرشد إلي بنية نظرية متماسكة، والانعدام النسبي عن أقوال الفنانين أنفسهم.
ويتطلب استنتاج نظرية جمالية للفن الإسلامي من تلك الوثائق التاريخية لأمهات الكتب الفلسفية والصوفية والشرعية؛ وضع منهج يضع في الاعتبار المحتوي الثقافي الزماني المكاني؛ الذي تم إبداع هذه الروائع من خلاله، بما في ذلك الأحكام المتشددة الجائرة، والأفكار المنفتحة عن استحياء، والمؤازرة لضرورة الفن في حياة المجتمع الإسلامي، والتجليات العبقرية الفردية لبعض المصورين والخطاطين والمزخرفين وأرباب الحرف الفنية، وتأثيرات الثقافات المتباينة في العالم الإسلامي علي وحدة وتنوع الأعمال الفنية.
وربما يعوق ذلك أيضا، الغموض الذي يشوب كتابات الفلاسفة والمتصوفة في هذا الشأن من الذين قصدوا ذلك خوفا من سوء الفهم والتأويل الخاطئ الذي قد يؤدي إلي التنكيل بهم بتهم الزندقة أو الانحراف بالعقيدة أو التجرؤ عليها، بل تعرض بعضهم بالفعل إلي ذلك التنكيل إلي حد القتل لهذه الأسباب، وأن بعضاً آخر اختار أن يحرق معظم أو كل تراثه تجنباً لردود أفعال الجهلاء والمتطيرين والمتبجحين، وسوء فهمهم لرسالته الخالصة لوجه الله الحق والإيمان القويم، وظل تراث أولئك المفكرين موضع تقدير تارة وازدراء تارة أخري.
وصلت لهذه الاستنتاج بعدما قرأت العديد من أطروحاتهم المرتبطة بمسألة الجمال والإبداع الجمعي، وموقف الذات من الكل ومبادئ التوحيد وأولوية الأمة علي أفرادها وتحليلات الذات الإيمانية والشهوية، وتجليات كل منها في استكمال شخصية الإنسان السوي، وفي إطار الشريعة الحاكمة ومن منظور النفع والصلاح، وتفاوت بشدة نسبة اقتراب البعض فيهم إلي طبيعة العمل الفني ودوره في تهذيب النفس والتحليق التأملي والاقتراب من مفهوم الوحدة والتوحيد.
وأتسم الكثير منها كما أشرنا بتصورات علي قدر كبير من الغموض والالتباس، كما قرأت بحوثاً معاصرة لكتاب معتبرين وباحثين أوروبيين وأمريكيين وعرب ومسلمين بذلوا فيها جهداً كبيرا في محاولة كشف غموض ما جاء في أمهات كتب التراث الإسلامي والعربي عن علم الجمال وعلاقته بالإنسان والدين والمجتمع أو الأمة، حيث استخلصوا بعض المحاور والتصانيف والملامح والتعميمات من مصادر بالغة التعدد، وحاول بعضهم تفسير ما توصل إليه من خلال مصطلحات ولغة العصر الفنية، وبقدر من التأويل الذي يضع كلمات علي لسان أولئك الرواد التراثيين؛ لم يقولوها بأي درجة من الثقة والوضوح، ولكنهم علي الأغلب كانوا يرغبون في ذلك.
بدت قراءة ما كتبه السلف من حكماء الإسلام، وما كتبه عنهم المعاصرون علي اختلاف مشاربهم؛ إبحارا في عالم عميق من الفكر المتواثق مع العقيدة، ومع الظاهر والباطن مع الأرضي والسماوي، ومع الخير وثماره الجمالية، والشر ومنتوجه، وأفكار التوحيد والوجدانية والوحدة والأمة التي تعلو مقاصدها وأهميتها علي النزعات الفردية، وطبيعة الحرية التي ينكرونها تماماً لصالح الذوبان في أهداف الأمة، ومن ضمن هذه الأدبيات ما يتعلق بالحلال والحرام، والمسموح والمحظور، وبين رأي بالغ التسود والتطير ينظر إلي أشكال التعبير الفني بريبة وازدراء أو يحرمها كلية، ومنها من يبارك التعبير الفني بكل أشكاله دون تحفظ باعتباره قيمة إيجابية مهمة للنفس وللمجتمع وللمعرفة.
إن الوعي بوجود منظورنن أحدهما بمنهجية إسلامية شرقية للفن، في مقابلة علي قدر قليل من التوافق، وكثير من التباين مع منهج الرؤية الغربي بجذوره اليونانية الرومانية ثم النهضة الأوروبية؛ يعطي منظوران آخران للتأمل والتفكير في تناول الظاهرة الفنية والجمالية، منظور تبناه الفلاسفة والكتاب، ومنظور ممارسة الفنانين، دون أن يفتح أحدهما بواباته علي الآخر لتوفير فرص الاقتراب والحوار والتأمل، ومن ثم التنظير والرد علي الطرف المقابل، كان كل فريق مشغولاً بمهنية بمعزل عن الآخر، بالرغم من أن القضية والموضوع المحوري الذي يشغلهما هو ذات الموضوع والقضية، وكأنهما جزيرتان منعزلتان لكل منهما مفرداته ومنهجه وتأملاته البعيدة عن الآخر، مما أثر سلبا علي عطاءاتهما ففي الاتحاد قوة وخاصة في الفن.
هذه النزعة وفكر الانعزال عن الآخر لا تزال قائمة مع استثناءات نادرة بين الكتاب والفلاسفة وعلماء الجمال العرب المعاصرين، ومن الذي يرصدون الفن والفنانين من خلال قراءاتهم للمنظرين في الغرب، ويستقرءون عنهم أحكاماً ومواقف لا علاقة لها بما يجري في دوائر الفن والفنانين، نادراً ما يزورون قاعات المعارض ومحترقات ومراسم الفنانين أو منتديات نقاشاتهم، أو المتاحف الوطنية للفنون الحديثة والمعاصرة التي لا يلتفتون إليها إلا بالسماع والشائعات، فلم يكن العقاد أو المازني أو مي زيادة يتحدثون عن جيل الرواد من خريجي مدرسة الفنون الجميلة إلا من منظور التشجيع والوطنية، والاحتفاء بإضافة الفنون الجميلة إلي ديوان الثقافة المصرية كما أشارت الأديبة مي زيادة، وكان ذلك وما زال إلي حد بعيد امتداداً لثقافة الكلمة المكتوبة التي تتحدث عن الصور دون الصور ذاتها، وأحياناً دون رؤيتها وفهم أبعادها المختلفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.