رسام السجاد يتعامل مع متغيرات متداخلة، فهو لا يبتكر عناصره الزخرفية ولا أنساقه التكوينية، وإنما يتخير من كنوز التراث المتوارث لهذا الفن، قصورة الإنسان والحيوان والطائر في رسوم السجاد لاتعتمد علي رؤية الرسام من محيطة المرئي ولا حتي من تصوراته الذاتية، وإنما قد تبلورت عبر التجارب المتعاقبة لمصممي السجاد في التراث الإسلامي من حيث الشكل، ومن حيث تطويعه لتقنية تعاشق عقد الصوف مع خيوط السداء المشدودة بالتوازي عبر نول السجاد. وكذلك منظومة توزيع الألوان، فهي تخضع لقيم ومعايير مخالفة لمنهج تلوين المصور، اذ تحكمها علاقات تضمن التوافق الهارموني للسجادة، الأمر الذي لايخل بهيئتها الكلية، واستقرارها امام العين وهي منسدلة من علي الحائط او مفروشة علي الأرض وتحكم تلك الألوان طبيعة الصبغات المتاحة لتلوين خطوط الصوف أو الحرير. كما أن رسم السجاد يعتمد علي شبكة مربعة ناظمة لتوزيع العناصر الزخرفية عليها. ويرسم رسام السجاد عناصر في اتجاه، ويكررها في اتجاهات مقابلة كمظهرها في المرآة، ورأسية إلي أعلي أو مقلوبة الي اسفل، لأنه يحتاج ان تصبح الأقسام الأربعة للسجادة متقابلة وكل منها يبدو معتدلا للجالس بقربه فتنبثق زخارفها من المركز الي الجهات الأربع، ثم تؤطرها الشرائط علي محيطها. وهو فوق ذلك يجمع بين وحدتها الكلية الظاهرة لأول وهلة، وبين تعدد اتجاهاتها في كل ركن من أركانها. إنه عمل يرتبط بالمعرفة الوثيقة بالمصادر التراثية فيما يتعلق بالعناصر الزخرفية والقواعد الناظمة، والوعي الواثق بالمتطلبات الوظيفية وبالامكانات التقنية ولكنه لايكون مجرد حافظ ومنفذ متقن. انه مبدع حقا في انتخابه العناصر الأمثل وربما تطويعها بنسبة او بأخري لطبيعة السجادة المقصودة بالرسم، واختيار المجموعات اللونية للاشكال وللارضيات من حولها. وتحديد الزخارف أو العناصر التي تصبح محورية أو مهيمنة علي التصميم والوحدات التكميلية علي مستويات متعاقبة من الأهمية والحضور. وبينما يحرم رسام السجاد من ابتكار أو تصوير وحداته من عالمه المحيط او من خياله من تلك الوحدات، فهو يصبح فنانا منتميا لمنظومة تراثية عريقة متراكمة حكيمة وبطيئة البلورة في شكلها المتاح. وتصبح العناصر والزخارف والتكوينات تراثا ثقافيا لايمتلك حقوقه احد بذاته، فهو من ابداع الأمة، ومجموع الأفراد الذين ساهموا من منظور الثقافة والذائقة والقيم في بلورة تلك العناصر العبقرية، ويكون دور الرسام هو المناورة بالاختيار والتقديم والتأخير والاعتدال والانقلاب في وصفياتها وفي تحديد مساحتها وتوزيع الألوان بقدر كبير من التعقيد والتوافق والرسم والمحو، فهو ليس منفذا فحسب ولكن دوره الإبداعي بالغ التشابك كما تقدم: وهو عمل يتطلب قدرا وافرا من الالتزام والصبر بل والتفاني والانتباه لأنه يغزل ماهو حتمي وضروري بحكم التقنية، بماهو اختياريا وتوفيقيا بحكم مستواه وشحنته الابداعية. هذه العقلية والسلوك المركب والمعقد كان من بين ما جعل من الغيطاني كاتبا مخالفا مجربا متمردا -مطوعا لزخم معارفه وقراءاته لأمهات الكتب، والمصادر التراثية التاريخية والفلسفية والأدبية وكتب الشريعة والحسبة، والخيال المحلق في وصف عرش الرحمن وسيرة الناس ومعاجم البلدان. غير ان هذه المعارف قد اتيحت للكثيرين من غيره وأنا منهم ولم يصبحوا غيطانيين، لأن هذه المعرفة للثقافة التاريخية تظل كمواد خام لمن يستطيع تخطي حفظها الي المناورة بها واستدعائها لترجمة احوال ومشاعر معاصرة، ومراكمتها مع نظائرها في عوالم وثقافات ومع احداث اخري من ازمنة وأمكنة مختلفة بذكاء تطويعي وجسارة في التوقد الابداعي ومن ثم فقد كان الغيطاني درويشا غرقانا مع ذخائر التراث الإسلامي الرسمي والشعبي ولكن ذكاءه وخياله جعلاه يملك جرأة التحليق والنظر بعين الطائر واعادة تنظيم ركام المعارف في منظومة تضم القديم والجديد الاسطوري والتاريخي بالأرضي. وقناعاته الإنسانية والأيدولوجية المعاصرة،وتراكم الخبرات الحياتية في حواري القاهرة. وارتباطاته السوهاجية في اطار قريته وعائلته، حقائق ومواقف ومشاعر نوستاليحية شكلت مزاجه بالغ الخصوصية تداخلت بمهارة (كولاجيه) وتراكم الشفافات، وتبادل المواقع وقلبها واعتدالها وضغطها مع ذخائر التراث وتجليات الشعبي منه، ومقابله حياة الناس حينئذ وفي الزمن الراهن، ويعيد التاريخ نفسه تارة، ويراوغ تارة اخري وينقلب عليها أو يتجلي بمنهج ومنظور آخر. مع الوعي الواثق بتأثير القوي الخارجية من الأجانب والعرب من تآمر الاستعمار الي استقطاب وتخدير دولارات البترول، وتيارات الدروشة المصطنعة وألعاب السياسة باسم الدين. لملم الغيطاني قاموسا محيطا من المعازف التراثية والوعي المعاصر بمجريات الأدب والسياسة والفن والثقافة، وذكرياته الخصوصية الوثيقة بحياة الحارة المصرية العريقة وتقاليدها الحية من ناحية والموروثة من ناحية اخري في ضوء منظومة القيم السحيقة والمتطورة علي (نار هادئة) كالمثل الشعبي. إنه عقل منفتح متوقد ثاقب البصيرة مسلح بالمعرفة العميقة الواثقة والقراءة الدؤوبة في المخطوطات وامهات الكتب، وذاكرة الطفولة والشباب وجسارة المراسل الحربي (روحه علي كفه) شاهد المعاناة والارادة والمقاومة. ثم كصحفي كبير مؤسس لجريدة أخبار الأدب المرموقة والتي انتهج في تأسيسها نفس منهجه المعرفي العرفاني- العملي- العاطفي المباشر- والمراوغ، المتجهم الصارم المتوعد- صاحب الضحكات والقفشات المدهشة، وبالمثل كانت مقالاته نابضة بكل هذا الزخم مع صدق في المواقف وإحساس بأمانة المسئولية امام الإنسان المصري ووطنه الذي يعيش فيه مع انفتاحه بعقلية عالمية انسانية نقية وأمينة. هكذا فلت وتمرد علي النمطية في التفكير ومناهج البناء، وفي موضوعاته في نثار المحو غير الزيني بركات غير متون الأهرام ودفاتر التدوين وحكايات هائمة. في كل منها بنية ذات تركيب هندسي مفارق. في كل الأحوال أبحث عن المخيلة التصويرية والخيال المكاني والزماني انها حشد من الصور والأشكال، الهندسي والارابيسكي الملتف والحلزوني وامتدادات وتعامد وانسيابية وتراكم الخط العربي مع عربات الكارو والسريحة والمشربيات وأحبال الغسيل وشاعر الربابة وألف ليلة وليلة وكلها صور بالكلمات ميزت الحضارة العربية بوصفها حضارة العلامة والتلميح والكنايات والتداخلات المقصود ابهامها كما عند فلاسفة المسلمين والمتصوفة العرفانيين، وليس حضارة الصورة المباشرة والمشابهة والمحاكاة عند الغربيين. انها مخيلة دوران المرء في فلك متسع يكتسب قيمته منه ولايتصدره، انها الوعي بالشبكة الخيميائية المعقدة التي تربط العناصر بالظواهر بالفلك بالقدر باللحظة الزمانية والموقع المكاني هو يلخص الثقافة والحضارة والفن الإسلامي في توظيف مفردات أولية دارجة ومألوفة في شبكات ناظمة معقدة ومعجزة، ويجمع بين تعامداتها واستقامات خطوطها مع أنغام الارابيسك النباتية الحلزونية تكمل الحان الهندسي بليونتها والتفافها ويكونان معا، وربما مع آيات الخط العربي منظومات سماها بروفنسكي (موسيقي الكون) وهو يؤلف بين مرآة الماضي وواقع الراهن. ينظر الي المماليك من زاوية القهر والغطرسة والنهب والمعارك الدموية غير المبررة، وتلفيقهم الفساد والتجسسس وقهر الناس بمبررات شرعية وعلي يد عملاء يتقمصون هيئة النساك والمدافعين عن الحق، ليبرروا القذي والظلم والقبح، ويتتبع تطور تصاعد مثل هذه الشخصيات واستشرائها لتصبح مستعصية علي المقاومة والكشف ثم يراكمها كالشفاف علي الشفاف علي حالة البلاد الراهنة وطبقة المنتفعين وعملائهم من ذوي السماحة الزائفة لتبرير الظلم والنهب والاضطهاد باسم الحق والشرع والوطنية. وهي في الان نفسه يتأمل عمائر وصنائع المصريين الابداعية في عصر المماليك وفي هذه المرة يراكمها- كالشفاف علي الشفاف فتشرح ببلاغة وألمعية نادرة علاقة مسجد ومدرسة السلطان حسن بالقاهرة احدي ايات الابداع المعماري العالمي، ودرة العمارة الاسلامية وصروح المصريين القدماء الحجرية ليختزل كليهما في حضارة (الحجر والضوء والماء) وهي الصيغة التي ظلت ممتدة في الابداع والمزاج المصري منذ ان ابتكر (إكتب) أول بناء بالحجر في تاريخ الإنسانية في معبد (ميراروكا) بسقارة ثم الهرم المدرج في سقارة في عهد الملك زوسر من الدولة القديمة، حتي نهاية الدولة العثمانية وسقوط المصريين في الذائقة الغربية كتوابع للحملة الفرنسية وما بعدها. والتفت الغيطاني الي الظاهرة المحيرة التي تجعل حكاما وتوابعهم يتميزون بالغلظة الدموية وعبقرية التدمير والتخريب والقذي، رعاة للفن والشعر والموسيقي، ترتقي تلك الفنون في عهدهم الي افاق غير مسبوقة. لم يكن للغيطاني اية مدرسة من مدارس التعليم الجامعية صاحبة الموقف والمنهج، ولم يكن تلميذا لأحد أو أكثر من مبدع كبير. لقد كان مغنطيسيا جبارا في التقاط ثمرات المعرفة والفكر والحكمة وصهرها في بوتقته بالغة الخصوصية. هو نبت غير مصنف في الجداول طفرة نوعية فريدة في مراجها ومسيرتها وما لملمه من مصادر بالغة التشعب، وبصيرته الثاقبة، وجديته المدهشة في مثابرته علي القراءة والتحقيق، ثم التحليق فوق ما رأي وما قرأ وما عاني، وتعريضها لدوامة عنيفة لاكتشاف المشتركات من القيم والعبر هو فنان اصلي من صنع جهده وقدره، تاريخه وحاضره. أتابع مجموعة من صوره الشخصية ان لم تكن قد عاملته وعايشته ستقرأ الأوجه المفارقة في شخصية نظرته التي تقطر براءة والأخري المتشككة واللائمة البائسة والمنتصرة نظرة المحب ونظرة الغاضب ونظره الحائر والمستنكر ونظرات عديدة ترتسم علي وجهه تؤكد وتذكرنا بحضوره الطاغي. ينطبق علي الغيطاني صفة أنه (من خارج الصندوق) من حيث تكوينه المهني والثقافي والسياسي والوطني، الذي تشربه (من عمق الصندوق) الذي تقلب فيه من ممارسته لحرفة رسم السجاد المعقدة والمجهدة، والتي لا تتمتع بالاعتراف والقبول الاعتباري في المجتمع، والمعايشة الشعبية في حي الجمالية وما حوله بعد نزوحه للقاهرة من سوهاج، ومن كونه مراسلا حربيا في اتون حرب الاستنزاف والعبور، الي معاناة الاعتقال في الستينيات وممارسة مهنة الصحافة بامتياز، وتأسيس مجلة أخبار الأدب التي ولدت مرموقة وموقرة ومحركة في العالم العربي كله. الي الوله بالروح الاختزالية المينيالية في العمارة المصرية منذ الأسرة القديمة حتي عصر المماليك في مصر.. واكتشافه السر المشترك بينها وهو علاقة الحجر بالماء وبالشمس. وتأملاته في هذا المضمار باجراء المقارنات العبقرية بين المعبد المصري القديم ومسجد ومدرسة السلطان حسن، الأبعاد الروحانية- مراحل التحضير والتأهب- المجار- ثم ساحة الصلاة- بين الرهبنة والوحدانية والخشوع والسماحة والقناعة مع الطموح. وقضاء الليل بطوله في جرف الهرم الأكبر في حضور صامت متأمل، طوافه المقرون بالوجد في المساجد والزوايا والخانقاوات والأسبلة، لشحذ مشاعره الصوفية، ومن تعمقه في التراث الشعبي في الفنون والحرف وفي الأدب وذخائر التراث العربي والإسلامي وكتاب الف ليلة وليلة الذي يصور احوال المجتمع بالكلمات دون رسوم أو صور كما يفتح راوي السيرة شاعر الربابة آفاقا للخيال أكثر مما يملي احداثا وأحوالا بعينها. الف ليلة لانها بدون مؤلف معين، مثلها كراوي السيرة والشاعر الشعبي عانوا من التجاهل وسوء التقدير لكونهم غير معروفين علي قول الغيطاني ذلك الصبر والمثابرة لرسام السجاد جعل من الغيطاني زاهدا صوفيا. وقد لقبه "فانسان جوري" (بالصوفي العبقري وولي من أولياء القاهرة). كما كان مولعا بحياة وفكر ابوحيان التوحيدي وجلال الدين الرومي وابن عربي وغيرهم. اعاود تأمل مجموعة من صوره الشخصية فأراه متأملا، متحفزا، متطلعا حالما، منبسطا، غائما، متوجسا وبالغ الصفاء والبراءة. انه خزانة سيكلوجية تعكسها مرآة وجهه وهي قرين تعدد جساراته الابداعية والمهنية، ومشاعره النوستاليجية للماضي وحضوره الدافيء في اتون الحاضر، غيظه من اذرع المؤامرة علي الوطن وناسه وقيمه ونسجه لشبكة العلاقات الزمانية المتباعدة المتراكمة وتواتر وتزاحم الأمكنة في الزيني بركات حيث تتداخل الأزمنة التاريخية بينما تتشابه مواقف القمع والاستبداد والتوظيف الخبيث للصفة الدينية وتحول الزيني من محتسب الي داعم الطغيان والفساد، ثم ايقونة القهر واستغلال السلطة (عماد عبدالراضي) ويجعل من مسرح الأحداث مرج دابق وسيناء هيامه بألف ليلة التي تصور الأحداث بالكلمات يتسق مع ولعه منذ الصغر بعروضها الاذاعية التي تفسح لخياله استكمال الصور والتصورات بلا الحاح مسبق او حدود للخيال، ثم استلهم منهج الليالي السياقي في عمله (حكايات هائمة). يسترجع التاريخ ويسقطه علي الواقع المعاش في مجموعته القصصية أوراق شاب عاش منذ الف عام سنة 1969 . ويعني الغيطاني كثيرا بالتصور المكاني والبصري في نصوصه، وفي الابتكار المتحدد في صيغه، ففي رواية متون الأهرام يوضع مستويات هيراركية تتصاعد من قاع الهرم المتصور كشبكة ناظمة في رسم السجاد متسعة في ارتقائها الي قمة مركزية صاعدة. هو ابن الذخائر والمتون القديمة، وهو معاصر للأفكار الأدبية الحديثة في التشغيل الأدبي بأنساقه واتجاهاته وارتفاعاته ونقوشه وانخفاضاته وتكثيف بعض الحروف والفقرات في كتل منبهة أو صادمة، وتخفيف البعض الآخر لاختراق رؤية معاصرة للتصوير بالكلمات، عقل الغيطاني مفتوح النهايات ومن ثم لم يخضع الي نمط أو اسلوبية بنيوية معينة فهو في غيبوبة الابداع يتيح لنفسه الإبحار والتحليق والتجلي مصدرا حدسه ومشاعره علي ركام واغلال العقلانية والتوثيقية والمنطق الهندسي والمشترك الشائع فيفلت منها الي رحاب التحليق واعمال السجية والتعقل والبصيرة (نثار المحو) المجد والصحوة والوجد والحيرة هي حالات الصوفي النفسية التي يمر بها في رحلته نحو نكران الذات واستجلاء الحق المطلق. (والمحو) هو أرفع هذه المراحل حيث انكار الذات، (كالنفي) في شرح الغزالي في أحياء علوم الدين باعتباره مرحلة الوصول الي حالة الوجد. بحضوره الذي حتما لن يغيبه قضاء قدره. تحية الي مبدع مصري فريد من نوعه، ملأ الدنيا بحثا وكشفا وابداعا وتمردا ووطنية وكون من نفسه مدرسة لجيل اصبح من اركان الفن والأدب والصحافة. تحية إلي جمال الغيطاني رحمه الله.