تمتلك مصر تاريخًا عريقًا وإرثًا حضاريًا فريدًا، جعلها وجهة رئيسية للآثار والمقتنيات التاريخية التي تحكي قصة حضارة عظيمة. ومن بين أبرز المحطات التي شهدها التاريخ المصري الحديث، جاءت حملة إنقاذ آثار النوبة خلال ستينيات القرن الماضي، عندما تعرضت معابد النوبة لخطر الغرق بسبب بناء السد العالي. وفي إطار هذا الجهد الدولي لإنقاذ التراث المصري، وقفت العديد من الدول الغربية بجانب مصر، مما دفع الحكومة المصرية إلى إهدائها عددًا من المعابد الأثرية النوبية تقديرًا لدورها في الحفاظ على هذا التراث. اقرأ أيضا | وصول 9 محولات جديدة لتركيبها بمحطة السد العالي وخزان أسوان 1و2 ** تم إهداء خمسة معابد كاملة إلى خمس دول غربية، وهي: * معبد دندور للولايات المتحدةالأمريكية. * معبد ديبود لإسبانيا. * معبد طافا لهولندا. * معبد الليسيه لإيطاليا. * معبد كلابشة (بوابته البطلمية) لألمانيا. هذه الهدايا الأثرية ليست مجرد مبانٍ حجرية، بل هي قطع من تاريخ مصر القديم، تحمل معها قصصًا عن الحضارة المصرية، وعظمة فنونها المعمارية، وعلاقتها مع الشعوب التي تفاعلت معها عبر العصور. ** كيف وصلت هذه المعابد إلى الدول الغربية؟ * إنقاذ آثار النوبة: حملة دولية لإنقاذ التراث مع بداية مشروع بناء السد العالي في أسوان خلال فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، واجهت مصر تحديًا كبيرًا يتمثل في احتمال غرق العديد من المعابد والآثار النوبية تحت مياه بحيرة ناصر. كان لا بد من إيجاد حل سريع للحفاظ على هذه الكنوز الحضارية من الفقدان. طلبت الحكومة المصرية المساعدة من منظمة اليونسكو عام 1959 لإطلاق حملة دولية لإنقاذ آثار النوبة. استجابت العديد من الدول لهذه المبادرة، وقدمت الدعم المالي والتقني، مما ساهم في تفكيك العديد من المعابد ونقلها إلى أماكن أكثر أمانًا بعيدًا عن مياه النيل. * لماذا تم إهداء المعابد؟ تقديرًا للدور الذي لعبته بعض الدول في دعم مصر خلال هذه الحملة، قررت الحكومة المصرية تقديم هدايا أثرية فريدة تعبيرًا عن امتنانها. لم تكن هذه المعابد مجرد قطع فنية، بل كانت تمثل شهادة حية على التعاون الدولي في حماية التراث الإنساني. ** المعابد المهداة: موقعها الجديد وقيمتها التاريخية * معبد دندور (الولاياتالمتحدةالأمريكية) يقع في متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك. بُني في عهد الإمبراطور أغسطس عام 15 قبل الميلاد، وكرّس لعبادة الإلهين إيزيس وأوزوريس. يتميز بنقوشه الجميلة التي تروي أسطورة إيزيس وابنها حورس، وقد تم تفكيكه ونقله إلى الولاياتالمتحدة عام 1965. * معبد ديبود (إسبانيا) يوجد في حديقة كاسا دي كامبو في مدريد. بُني في القرن الثاني قبل الميلاد، وكان مكرسًا لعبادة الإله آمون والإلهة إيزيس. تم تفكيكه وشحنه إلى إسبانيا عام 1968. يعد الآن أحد أهم المعالم الأثرية في مدريد، حيث يحظى بجاذبية سياحية كبيرة. * معبد طافا (هولندا) معروض في متحف الآثار القومي في ليدن. يرجع تاريخه إلى العصر الروماني، وقد كان جزءًا من مجموعة المعابد النوبية التي تعرضت للغرق. يُعرض في متحف مغلق، حيث يتم الحفاظ عليه ضمن بيئة مناسبة تمنع تعرضه للتآكل. * معبد الليسيه (إيطاليا) يوجد في متحف تورينو للآثار المصرية. يعد واحدًا من المعابد النوبية الصغيرة، لكنه يعكس الأسلوب الفني والمعماري للحضارة المصرية. تم تفكيكه بدقة وشحنه إلى إيطاليا حيث تم تجميعه ليصبح أحد معالم متحف تورينو. * معبد كلابشة (ألمانيا) يوجد في متحف بيرغامون في برلين، ويضم البوابة البطلمية الخاصة به. يعد من أكبر معابد النوبة، حيث يعود تاريخه إلى عهد الإمبراطور أوكتافيوس أغسطس. تمت إعادة تجميعه ليكون رمزًا للعلاقة الثقافية بين مصر وألمانيا. ** تأثير المبادرة على العلاقات الثقافية بين مصر والعالم لم تكن عملية إهداء هذه المعابد مجرد خطوة دبلوماسية، بل كانت بداية لعلاقات ثقافية ممتدة بين مصر والدول التي استلمت هذه الكنوز. وقد ساهمت هذه المبادرة في: * تعزيز التعاون الثقافي بين مصر والدول الغربية، حيث أصبحت هذه المعابد جسورًا تربط بين الحضارة المصرية والعالم. * الترويج للسياحة المصرية، حيث زاد الاهتمام العالمي بالآثار المصرية بعد وصول هذه المعابد إلى الخارج. * تعريف الشعوب الأجنبية بالحضارة المصرية، إذ باتت هذه المعابد بمثابة متاحف مفتوحة تُعرّف زوارها بجوانب من الفن والدين والحياة اليومية في مصر القديمة. ** انتقادات ووجهات نظر مختلفة على الرغم من أن عملية إهداء المعابد تمت في سياق حفظ التراث المصري، فإن البعض يرى أنها كانت خسارة ثقافية لمصر. من بين الانتقادات التي وُجهت: * أن هذه المعابد كان يمكن الحفاظ عليها داخل مصر ووضعها في متاحف محلية بدلاً من إرسالها للخارج. * أن عملية نقلها أخرجتها من سياقها التاريخي والجغرافي، مما أفقدها جزءًا من قيمتها الأثرية. * أن بعض الأصوات تطالب بإعادة هذه المعابد إلى مصر مثلما حدث مع بعض الآثار التي استُعيدت من الخارج. ** هل يمكن استعادة هذه المعابد يومًا ما؟ حتى الآن، لا توجد مطالب رسمية من الحكومة المصرية لاستعادة هذه المعابد، خاصة أنها كانت هدايا رسمية وليست قطعًا مسروقة، ومع ذلك، تبقى هذه المعابد جزءًا من الهوية الثقافية المصرية، ويتم توثيقها باستمرار في الدراسات الأثرية والسياحية. إن قصة المعابد المهداة للدول الغربية تعكس جانبًا مهمًا من التاريخ المصري الحديث، حيث كانت مصر أمام تحدٍ كبير لإنقاذ آثارها، ووجدت دعمًا عالميًا ساعدها على تحقيق هذا الهدف. وبينما توجد هذه المعابد اليوم في أماكن مختلفة حول العالم، فإنها تظل شاهدًا حيًا على التعاون الدولي في مجال الحفاظ على التراث. ومهما كانت وجهات النظر حول هذه الخطوة، فإنها بلا شك ساهمت في تعزيز الوعي العالمي بالحضارة المصرية القديمة، وأتاحت لعدد أكبر من الناس فرصة التعرف على كنوز مصر الفريدة.