رحل عن عالمنا يوم الجمعة الماضى المفكر والمثقف والسياسى المغربى الكبير، محمد بن عيسى عن عمر يناهز الثامنة والثمانين، وبن عيسى لمن لا يعرف كان أحد رموز السياسة والثقافة ليس على مستوى، بلده المغرب فقط، بل على مستوى العالم العربى، وكان وثيق الصلة بالحياة الثقافية المصرية، ويحتفظ بعلاقات صداقة متجذرة برموز الحياة الثقافية والفكرية والسياسية، توج ذلك باختياره عضوًا فى مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية. اعترك بن عيسى السياسة حتى صار وزيرًا لخارجية المغرب، وسفيرًا لها فى واشنطن، وفى نفس الوقت أخلص للثقافة ووهب عمره لها، حتى عُين وزيرًا للثقافة، وقبل هذا وذاك فالرجل كان صاحب تجربة فريدة، حيث نجح فى تحويل بلدته الصغيرة أصيلة أو أزيلا، كما ينطقها البعض، من مجرد قرية بسيطة لا مكان لها على الخريطة، وتفتقد إلى الحد الأدنى من الخدمات الضرورية إلى قبلة لمثقفى ومفكرى وفنانى العالم العربى وإفريقيا، بل وأوروبا، الذين كانوا يتقاطرون كل عام للمشاركة فى «منتدى أصيلة الثقافى» الذى تحول مع الأيام وعلى مدار أكثر من أربعة عقود ليكون أحد أهم المنتديات الثقافية فى عالمنا العربى، ولم يكن هناك اسم يعتد به فى عالم الشعر أوالرواية أوالفن أو حتى السياسة إلا ووقف على منصة أصيلة وقال كلمته. أخلص بن عيسى لأصيلة، ووهبها العالمية، وكان ممثلها فى البرلمان، وحولها من مجرد قرية تعيش على صيد البحر بالقرب من التقاء المحيط الأطلنطى مع البحر المتوسط إلى بؤرة سياحية وثقافية تنافس طنجة العتيدة. بن عيسى معروف بحبه الشديد لمصر، فهو ابن شرعى لقوتها الناعمة منذ أتاها طالبًا يدرس الإعلام فى جامعة القاهرة، ومنذ ذلك الحين، ومصر تشكل نقطة مركزية فى تحركاته وأفكاره، ولا يكاد يمر العام إلا وتجده مشاركًا فى فعالية هنا أو هناك، وكان لى الشرف أن أشارك فى آخر منتديين لأصيلة، آخرهما عُقد فى نوفمبر الماضى، وخصص موضوعه الرئيسى لمناقشة مستقبل جماعات العنف التى ترفع الشعارات الإسلامية فى ضوء التغيرات الحادة فى العالم والمنطقة. الجميل أن بن عيسى لم يتخلف فى المنتدى الأخيرعن حضور ندوة أو فعالية، بل شارك فيها جميعها، إما مديرًا أو معقبًا، وكأنه كان يودع أصيلة بعد أن استوت تجربتها وامتلكت أسباب البقاء والاستمرارية بعد 44 عامًا من انطلاقها .