رغم أنها حلّقت بفنها في سماء الإبداع وكانت ذات يوم ملء السمع والبصر، قلما يُذكر اسمها حاليًا وربما بعض النقاد الفنيين اليوم لا يعرفون شيئًا عنها من الأساس، إنها زينب محمد الجندى (1902-1983) وشهرتها «ملك»، وهو اسم فنى اختاره لها حسنى الخطاط والد الفنانتين نجاة الصغيرة وسعاد حسني، وكان أمير الشعراء أحمد شوقى من أشد المعجبين بها، وقال فيها قصيدته «بى مثل ما بك يا قمرية الوادي». ◄ قدمت 35 أوبريت وحريق القاهرة كتب نهاية مسرحها بدأت ملك الغناء عام 1925 وتوقف نشاطها الفنى فى عام 1952، بعد أن دمر حريق القاهرة مسرحها الذى أنشأته عام 1941 وأطلقت عليه «أوبرا ملك».. وفى عام 1961 زارها الكاتب الصحفى الراحل جليل البندارى فى هذا المسرح المتهالك، حيث كانت تعيش داخله محاصرة بالديون، وأجرى معها حوارًا وضع له عنوان «ملك بين الأطلال»، ويعد هذا الحوار من كنوز «آخرساعة» النادرة، نعيد نشره بتصرف محدود فى السطرو التالية: ◄ الطريق فى الطريق إلى الفنانة «ملك» مطربة زمان التى ملأت ليالى القاهرة بأغانيها وألحانها ومسرحياتها، لا تسمع سوى الصمت المطبق. لقد اختفت أصوات الموسيقى والألحان التى كانت تترامى من نوافذ شارع عماد الدين إلى سكان هذا الشارع الخلفى من العمال والكادحين. وعلى باب المسرح رأيت إعلانًا قديمًا ممزقًا يحمل اسم مسرح أوبرا ملك، وتاريخ آخر حفلة أقامتها فى العام الماضى (1960). وعلى الباب أيضًا التقيت ببواب المسرح، وسألته عن السيدة ملك فقال لي: تفضل. ثم جرى إلى السلم المؤدى إلى الألواج وأعلى التياترو وتركنى وحدى فى ساحة المسرح الخالى من المقاعد والحياة وكل شيء. كانت الستارة منفرجة عن منظر قديم تغطيه الأتربة وشمس أغسطس المحرقة تخترق فجوات فى السقف.. البناوير والألواج التى كانت تزدحم بالناس لم يعد يغشاها أحد. وسمعت البواب يقول لى من أعلى التياترو: تفضل. وصعدت السلم فقادنى إلى أحد الألواج المهجورة وكان به مقعد واحد متهالك، فأشار إلى هذا المقعد دون أن يكلف نفسه عناء تنظيفه، فأخرجت منديلى ونفضت التراب وجلست أنتظر حوالى ربع ساعة.. وفجأة فتح أحد الأبواب وخرجت منه ملك. ها هى «ملك» مطربة زمان التى كانت تملأ ليالى القاهرة بأغانيها وألحانها ومسرحياتها، إنها تتجه إلى الألواج فترانى المتفرج الوحيد، فتنحنى برأسها تحيينى كأنها تحى مئات المتفرجين، ووجدتنى أصفق لها بشدة وأنا جالس فى أطلال مسرحها الشهير.. وصافحتنى ملك ثم جلست على مقعد فى اللوج الذى بجواري. ◄ الفقر مش عيب وسألتنى ملك: هل هذه أول مرة تزور فيها مسرحي؟ فقلت لها: هذه أول مرة أجلس فيها فى لوج بمسرحك، وقبل ذلك كنت أتردد على مسرحك وأنا طالب ولم أكن أجرؤ على الاقتراب من هذه الألواج، كان مكانى هناك فى أعلى التياترو. قالت: الفقر مش عيب، لقد كنت فى يوم ما أقتنى سيارتين، واحدة ماديسون والثانية دودج، كما أننى أملك الآن عمارة فى الدقى ولا أستطيع أن أقترب من رصيفها. ثم قالت إن هذه العمارة تتكون من أربعة طوابق على أرض مساحتها 350 مترًا وبجوارها أرض فضاء مساحتها 650 مترًا والأرض وحدها تُقدَّر بأربعين ألف جنيه، أما المبانى فكلفتنى 16 ألف جنيه. ◄ وأين كل ذلك؟ استولى عليه أحد الدائنين.. أنا أعيش هنا مؤقتًا حتى أسترد العمارة. وقالت ملك إنها بنت هذه العمارة من أغانيها وألحانها ومسرحياتها فى سنة 1945، وأنها كانت تستطيع أن تحوِّل هذا المسرح إلى كباريه وتكسب منه مبلغًا لا يقل عن 500 جنيه فى الشهر، لكنها تفضل أن تعيش فى هذه الأطلال على أن يُقال إنها افتتحت كباريه على آخر الزمان. ◄ 35 أوبريت وقالت إنها قدمت على هذا المسرح بالذات 35 أوبريتاً منها «مايسة» و«مدام بترفلاي»، و«روميو وجولييت»، و«عمرو ابن العاص»، و«عروس النيل»، و«مدموزيل حلويات»، و«سفينة الغجر»، و«ليالى شهرزاد» وغيرها وغيرها من المسرحيات التى كلفتها 120 ألف جنيه. وأشارت إلى أن هذا المسرح كان يضم ثلاث فرق، فرقة الممثلين والممثلات، وفرقة الموسيقيين، وفرقة الكورس، وأن مجموع هؤلاء يبلغ 120 شخصًا كانوا يتقاضون مرتبات قدرها 1200 جنيه فى الشهر. من زينب إلى ملك وقالت الفنانة ملك إنها تتلمذت على القصبجى وزكريا أحمد، وأن الذى تولى تدريبها على العود هو القصبجي، وأنها غنت لأول مرة فى حياتها وعمرها سبع سنوات. صاحب الإسم ◄ وسألتها: مَنْ الذي سماك «ملك»؟ حسنى الخطاط والد نجاة الصغيرة.. أحد المتعهدين طلب منه أن يسمينى اسمًا قابلا للشهرة، فسألنى حسني: «ما اسمك؟»، فقلت له: «زينب»، فقال: «لا.. لمّا حد يسألك اسمك إيه ابقى قولى ملك»، ومن ذلك اليوم أصبح اسمى ملك. وقالت إنها ظهرت لأول مرة على مسرح حديقة الأزبكية وأنها ذهبت إلى الحفلة على بسكليت، وغنت هذه الأغنية: حوِّد من هنا وتعالى عندنا ياللا أنا وأنت نحب بعضنا ثم غنت أغنية عبدالوهاب المشهورة: خايف أقول اللى فى قلبي تتقل وتعند ويايا ولو داريت عنك حبي تفضحنى عينى فى هوايا واختتمت حفلتها الساهرة الأولى بهذه القصيدة لأم كلثوم: يا آسِيَ الحَيِّ هل فَتَّشتَ فى كَبدي ومنذ ذلك اليوم لمع اسمها كمطربة، وبدأت تعتمد على نفسها فى تلحين أغانيها، ثم تزوجت من قاضٍ وظلت معه حتى رُقى إلى مستشار، وكانوا يلقبونها ب«حرم المستشار»، ثم تعارضت حياتها الفنية مع حياتها الزوجية، فطُلِقت وتفرغت للمسرح والأغانى والديون. وهى تقول إن «الفن استولى على كل عقلى وقلبى وجوارحى جميعًا، إنه يعيش معى كالبلطجى الذى ينهب كل دخلى ولا يترك لى سوى الديون». زواج لمدة 99 يومًا وقالت إن أحسن ألحانها هى التى وضعتها لأوبريت «مدام بترفلاي» الفتاة اليابانية العاشقة التى أحبت وتزوجت من أمريكى لمدة 99 يومًا، ثم أنجب منها ولدًا وهرب إلى بلاده فعاشت تبكيه طول العمر.. وقالت إنها لحنت هذه الأوبريت عقب وفاة أمها، فخرجت ألحانها الحزينة من القلب. سبقت زماني ◄ قلت لها: ما الذى سيقوله عنك المؤرخون للموسيقى الشرقية؟ سيقولون إننى سبقت وقتى بالأوبريت. ◄ ومَنْ الذى أطلق عليكِ مطربة العواطف؟ الصحفيون. ◄ من منهم؟ لا أذكره على وجه التحديد. ثم قالت: ولكنى أذكر أن فكرى أباظة (أحد أعلام الأدب والصحافة السياسية فى مصر) قال عن قصائدى إنها خير ما يسمع الناس. ثم سألتنى ملك: هل تذكر قصيدة (يا حلوة الوعد ما نسّاك ميعادي/ عز الهوى أم كلام الشامت العادي). فرددت عليها: أذكرها تمامًا، إنها لشوقي. فقالت: لقد كنت على موعد مع شوقى ثم تخلفت فكتب هذه القصيدة وأهداها لي. ◄ ما أبلغ ما قى ل فيكِ؟ قال التابعى عنى «مطربة العواطف والجمادات»، فاتصلت به بالتليفون لأسأله ماذا تقصد بالجمادات؟ فقال: أقصد واللى ماعندوش عواطف كمان. («آخرساعة» 9 أغسطس 1961)