برع المصريون القدماء في صناعة الذهب والمجوهرات، حتى أصبحت هذه الحرفة رمزًا للثراء والقوة في الحضارة المصرية، ومن بين المشاهد النادرة التي توثق تفاصيل هذه الصناعة. نجد نقشًا فريدًا داخل مصطبة مري إف نب إف في سقارة، والذي يعود إلى عصر الدولة القديمة، وتحديدًا الأسرة السادسة. هذا المشهد المصور على جدران المصطبة يعكس ورشة متكاملة لتصنيع الذهب، حيث يظهر فيها أربعة صناع مهرة يعملون بإتقان على تشكيل القلادات والحُلي الثمينة. ومن اللافت للنظر أن صغار القامة كانوا مختصين بصناعة المجوهرات في ذلك الوقت، نظرًا لتمتعهم بمهارة فائقة، إذ سمحت لهم أيديهم الصغيرة بإتقان أدق التفاصيل في تشكيل الحلي والمجوهرات، مما جعلهم عنصراً أساسياً في هذه الصناعة الراقية. فكيف كانت تدار ورش تصنيع الذهب؟ وما الأدوات والمواد التي استخدمها المصريون القدماء في إبداع تحفهم الفنية؟ أولًا: أهمية الذهب في الحضارة المصرية القديمة منذ فجر التاريخ، احتل الذهب مكانة مميزة في ثقافة المصريين القدماء، حيث كان يُستخدم في صناعة الحلي والتمائم والتوابيت وحتى الأثاث الملكي. لم يكن الذهب مجرد معدن ثمين، بل كان يُنظر إليه كرمز للأبدية والإلهية، إذ كان مرتبطًا بالشمس والإله رع. لذلك، كانت ورش تصنيع الذهب تحظى بأهمية كبيرة في المجتمع المصري القديم، وكان العاملون بها يتمتعون بمكانة مرموقة. ثانيًا: مشهد ورشة تصنيع الذهب في مصطبة "مري إف نب إف" يُعد المشهد المصور على جدران مصطبة "مري إف نب إف" في سقارة من أهم الشواهد التي توثق عملية تصنيع الذهب في عصر الدولة القديمة. يظهر في المشهد أربعة صنايعية داخل ورشة متكاملة، ينهمكون في تنفيذ مهام مختلفة تتعلق بتشكيل الذهب، يُعتقد أن هؤلاء الحرفيين كانوا يعملون على تصميم القلادات، وصهر الذهب، وتشكيله بدقة متناهية. 1- دور الحرفيين قصار القامة في صناعة المجوهرات من الملاحظ أن معظم الحرفيين الذين يظهرون في المشهد كانوا من قصار القامة، وهو أمر ذو دلالة واضحة في السياق الحرفي، فقد كان صغار القامة أكثر قدرة على التعامل مع التفاصيل الدقيقة بفضل حجم أيديهم الصغيرة، ما منحهم ميزة استثنائية في تشكيل وتصميم أدق قطع الحلي. كما أن قدرتهم على التركيز لساعات طويلة في الأعمال الدقيقة جعلتهم من أمهر الصناع في ورش الذهب المصرية القديمة. 2- أدوات وتقنيات التصنيع استخدم المصريون القدماء تقنيات متطورة لصناعة الحلي، ومنها: * الصهر: كان يتم صهر الذهب في أفران خاصة مصنوعة من الطين، باستخدام الفحم كوقود لتوفير الحرارة المطلوبة. * السبك والتشكيل: بعد الصهر، كان يُصب الذهب المنصهر في قوالب حجرية أو نحاسية للحصول على الأشكال المطلوبة. * النقش والزخرفة: استخدم الحرفيون أدوات دقيقة مثل الإبر والمثاقب الصغيرة لنقش وتصميم الحلي بأشكال معقدة. * التطعيم بالأحجار الكريمة: كان يتم تزيين المجوهرات بأحجار مثل اللازورد، والفيروز، والعقيق، مما أضفى عليها رونقًا ملكيًا فريدًا. اقرأ أيضًا| a href="https://akhbarelyom.com/news/newdetails/4559443/1/%D8%A3%D8%B5%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%AD%D9%81%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AC%D8%B1-%D9%86%D9%82%D9%88%D8%B4-%D9%81" title="أصل الحكاية| "أسرار محفورة في الحجر".. نقوش فرعونية تكشف عن ماضي سقارة العريق"أصل الحكاية| "أسرار محفورة في الحجر".. نقوش فرعونية تكشف عن ماضي سقارة العريق ثالثًا: أبرز قطع الحلي المصنوعة في العصر القديم عُرف المصريون بصناعة القلادات الضخمة والأساور والخواتم والتيجان، وكان لكل قطعة معنى رمزي خاص، من بين القطع الشهيرة التي تعود إلى هذه الفترة: * طوق الملكة أحوتب الأولى: وهو قلادة مذهلة مُزينة برأسي صقر، تعكس مدى براعة الحرفيين في التشكيل والزخرفة. * خنجر الأميرة إيتا: وهو قطعة نادرة مصنوعة من الذهب الخالص، وُجدت في مقبرة الأميرة إيتا بدهشور. * تمائم الحماية: مثل الجعارين والتمائم التي كانت تُستخدم لدرء الشر وجلب البركة للحاملين لها. رابعًا: الحرفيون المصريون ومكانتهم في المجتمع كان العاملون في صناعة الذهب يُعاملون باحترام كبير، خاصة من يخدمون في ورش القصور والمعابد، وكانت هذه الحرفة تنتقل عبر الأجيال، حيث كان الابن يتعلم من والده أسرار الصنعة، لضمان استمرار هذه المهارة الفريدة. خامسًا: تأثير الحلي المصرية القديمة على التصميمات الحديثة لا تزال المجوهرات المصرية القديمة تُلهم المصممين حتى اليوم، إذ استُوحي العديد من التصاميم الحديثة من أشكالها الفريدة، مثل القلادات ذات الرموز الفرعونية والأساور المزخرفة برموز الشمس والجعران. يكشف لنا مشهد ورشة الذهب في مصطبة "مري إف نب إف" بسقارة جانبًا مهمًا من براعة المصريين القدماء في صناعة الحلي والمجوهرات، فقد أظهروا قدرة استثنائية على تشكيل الذهب بأدق التفاصيل، مستخدمين تقنيات متطورة سبقت عصرهم بمئات السنين. كما أن دور قصار القامة في هذه الصناعة يسلط الضوء على التقدير الذي حظي به المهرة في المجتمع المصري القديم، حيث كانت الموهبة والدقة هما الأساس في اختيار الصناع. إن هذه المشاهد الأثرية ليست مجرد نقوش على الجدران، بل هي سجل حيّ يعكس إبداع المصريين القدماء وإرثهم العريق في مجال المجوهرات، والذي لا يزال يُبهر العالم حتى اليوم.