تلاحق الأنظار الأزمة السياسية والأمنية والانسانية فى قطاع غزة، لكن أزمة أخرى تجرى بالتساوى ولا تقل حدة عنها وتنذر هى الأخرى بمخاطر كبيرة على أمن المنطقة والإقليم. ومنذ فترة تتسارع التطورات فى الملف السوداني، بما يهدد بمخاطر كبيرة على مستقبل ذلك البلد والإقليم، وبعد فترة من الانتصارات التى أحدثها الجيش السودانى فى السيطرة على أراض استولت عليها قوى التمرد المسماة «الدعم السريع» فى وقت سابق، لجأت هذه القوى المتمردة إلى محاولة إحداث مناورة سياسية قد تبقى لها مقعدا على الطاولة السياسية فى مستقبل البلاد. اقرأ أيضًا | مؤسسة هند رجب.. ملاحقة مجرمى عدوان غزة ولم تكن هذه المناورة الا مزيدا من مظاهر الفشل الميداني، لكنها كانت أيضا دليلا على دعم من أطراف سياسية لقوى التمرد فى السودان، بما يدين هذه القوات أكثر وأكثر. وقبل يومين، نددت الخرطوم بخطوة استضافة كينيا لما أسمتها «حكومة موازية»، بما يهدد الأمن القومى للبلاد، وشددت فى بيان على أن اجتماعات «مجموعة الحكومة الموازية هناك هو تتويج للدعم المقدم من الحكومة الكينية للدعم السريع». وأضاف بيان الخارجية أن الرئيس الكينى أصبح فى نظر الشعب السودانى ضالعاً فى العدوان عليه، لافتاً إلى أنه يعلى المصالح التجارية (مع دول أخرى) على العلاقات التاريخية بين بلاده والسودان. كما قررت الخرطوم استدعاء سفيرها لدى كينيا للتشاور. وبحسب تقارير، فإن الرئيس الكينى ويليام روتو يعد مقربا لزعيم قوى التمرد فى السودان محمد حمدان دقلو «حميدتى».. كما إنه يعد مقربا من أطراف دولية ينسب إليها عادة تقديم دعم سياسى ومادى لقوى التمرد فى السودان. وكانت موازين الحرب قد بدأت فى التغير فى أواخر عام 2024. والهجمات الجديدة التى شنها الجيش وحلفاؤه بدت أكثر تنسيقًا وتمويلًا من المحاولات السابقة. وفقدت قوات الدعم السريع سيطرتها بسرعة على مناطق هامة وجاءت انتكاسات أخرى فى مواجهة الهجوم الواسع من الجيش على عدة جبهات حول العاصمة. وفى أواخر يناير، خسرت قوات الدعم السريع السيطرة على مصفاة نفطية حيوية فى جيلي، شمال الخرطوم. وفى نفس اليوم، تمكنت القوات المتحالفة مع البرهان من كسر الحصار المفروض على مقر قيادة الجيش - وهى هزيمة كبيرة لقوات الدعم السريع، التى كانت قد حاصرت القاعدة فى الأيام الأولى للحرب. بحلول ذلك الوقت، كانت قوات الدعم السريع قد طُردت من شمال ووسط أم درمان، المدينة الشقيقة للخرطوم إلى الغرب من النيل، بينما استولى الجيش أيضًا على أجزاء كبيرة من بحرى إلى الشمال. وما زالت قوات الدعم السريع متحصنة فى مركز الخرطوم الذى أصبح شبه خال من السكان، حيث تدور معارك شوارع مع وحدات الجيش، وتبدو أنها تبدى مقاومة شرسة، مما يبطئ تقدم الجيش. وتتعدد الأسباب التى أدت إلى انهيار قوات الدعم السريع على الجبهة الشرقية، ولكن يبدو أن عدة عوامل ساهمت فى ذلك. أولاً، تظهر قوات الدعم السريع معاناة من تحديات فى الإمدادات على جبهة الخرطوم. يتمثل الطريق الرئيسى لإمداداتها عبر دارفور، وهو ما يتطلب تحريك قوافل لمسافات طويلة عبر أراضٍ مفتوحة، حيث تكون معرضة للقصف الجوي. كما أن هذا الطريق أصبح الآن يعتمد على جسر واحد فقط يعبر النيل جنوبالخرطوم. وقد ساهم قصف وفقدان مصفاة جيلى، وهى مصدر رئيسى للوقود، فى زيادة صعوبة تنقل قوات الدعم السريع، كما أن قوات الدعم السريع تعانى من الاستنفاد المتزايد، خاصة بسبب الحرب فى شمال دارفور، حيث تقاتل قواتها مجموعات مسلحة من دارفور (تتكون فى الغالب من الزغاوة) التى أصبحت الآن متحالفة مع البرهان. واضطرت قوات الدعم السريع إلى تحويل موارد وأفراد كبيرين إلى تلك الجبهة، التى تعتبرها أساسية نظرًا لأن العديد من مقاتليها وقادتها الرئيسيين ينتمون إلى تلك المنطقة، قد تكون هناك أيضًا أسباب أخرى، مثل أن قوات الدعم السريع تواجه خلافات داخلية خطيرة، خاصة مع جفاف غنائم الانتصارات المبكرة - ومعها وسائل تحفيز وتعويض العديد من مقاتليها. بالإضافة إلى التحديات داخل صفوفها، شهدت قوات الدعم السريع فى الأشهر الأخيرة انشقاق عدد من كبار القادة. وقد تحول المنشقون ضد رفاقهم السابقين. وأمام هذه التحديات الميدانية، جاءت خطوة كينيا. فهل هى مناورة سياسية سهلتها الأطراف الخارجية الداعمة للتمرد لإنقاذ قواه بعد فترة من الانتكاسات أمام الجيش الوطنى السودانى؟ أم هى الورقة الأخيرة للضغط على الخرطوم التى تبدو قد اقتربت من حسم المعركة عسكريا، بحيث تكون مناورة كينيا مستهل لمعركة سياسية تهدد أفق الاستقرار السياسى مستقبلا فى البلاد؟.