كه يلان محمد يبدو بأنَّ الوسط الأدبى مطبوع بلون الرواية وبادرَ كثير من الأدباء الذين كانوا محسوبين على منطقة الشعر باختبار حظهم بمقارعة باب الرواية، لكن الكاتبة السورية لينا هويان الحسن تخالفُ هذا الخط مغامرةً برمى أوراقها على طاولةٍ بعيدةٍ عن النوع الأدبى الأثير فى المشهد الثقافي، ومن المعلوم أنَّ هناك عدداً من الجوائز المرصودة للرواية وقد يكون ذلك الاحتفاء عاملاً أبرزَ للانضمام إلى حلبة الكتابة الروائية هذا ناهيك عن الورشات التى تُطلق بهدف تقديم النصائح لكتابة الرواية وما يمكنُ أنْ تعولُ عليه الموهبة . الواعدة من المهارات. أبلت لينا بلاءً حسناً فى إبداعها الروائى وأصبحت أعمالها مقروئة على نطاق واسع كما أنها من أسماء مرشحة فى قائمة الجوائز الأدبية الأمر الذى يلفتُ النظر ويثير السؤال بشأنِ ذهابها إلى شكل جديد من الكتابة وحفرها فى أرض الأساطير والتنجيم لأنَّ الانزياح عن المألوف فى الكتابة دونه التحديات ويتطلبُ ضخ اللغة بطاقة استعارية مُفاجئة. يقولُ الكاتب الأرجنتينى إرنستو ساباتو أنَّ الفنانين الذين ما طالتهم لوثة الفساد فى عصرنا هم ورثة الأسطورة والسحر، لأنَّ المخيلة والأسطورة حسب رأى صاحب «النفق» تكشفان الحقيقة العميقة للشعوب. إذن يصحُ فهم ما قدمته لينا هويان الحسن فى كتابها الأخير بأنَّه محاولةُ للتذكير بالملمح العجائبى والسحرى فى تشكيلة الحياة عموما وفى تاريخ الشعوب على وجه الخصوص وبالتأكيد لا ينقطع هذا المسعى عن الحكم المكنونة فى الصيغ الأسطورية للحضارات. بدءا من البابل والسومر مرورا بالفينقيين والإغريق وصولاً إلى ما جادت به مخيلة الإنسان فى العصر الحديث إذ مابرحت البشرية تبحث عن الرموز تقوض ما تفقد صلاحيتها وتصوغ غيرها .عن موضوع كتابها الجديد ورأيها عن نظرة عدد من الأسماء العالمية لمفهوم الكتابة كان لنا حوار مع مؤلفة «حاكمة القلعتين». «نجمك العاشق» عنوان لكتابك الجديد وهو لا يدرجُ ضمن السرد الروائى. لماذا اخترت تجربة شكل جديد من الكتابة علماً بأنَّ لا صوت يعلو على صوت الرواية فى المشهد الأدبي؟ لا قوانين ولا حدود ولا قوالب، أكتب بحريّةِ نجم فى مداره. لى مساري، وطالما الحبّ موجود أكتب ما أريد، ما أشاء. لا بدّ أن أحبّ ما أكتب، وهذا كان سرّى الذى بدأت معه منذ كتبت عن الصحراء ومفاتنها وأميراتها، دون أن أحسب حسابًا لما كان سائدًا سواء فى الرواية السورية أو العربية. لى صوتى وفضائى ومداري، وكواكبى التى أستهدى بها، أى علاقتى مع الكواكب والنجوم، وليس مع النقّاد أو حتّى الكتّاب أنفسهم. ثمة صوت ساحر يعلو على كل شيء، صوت قادم من سحيق الزمان، إذا لم تكن قادرًا على استدعاء العفاريت فلا تكتب. صوت كان قبل الرواية والشعر، بل كان هو الأدب عينه، يوم كانت الأساطير وفخامة الأفكار هى صوت الحياة، لا عجب أنّ سقراط وأفلاطون ناصبوا الشعراء عداءً مبرره أنّه صوت الآلهة والإلهام والخرافات، لهذا لم أحبّ فلسفتهما، ونفرت من عالم المثل الأفلاطوني، والزهد لا يمثلني، هنا بالضبط كامل الحكاية: «الخرافات» التى هى فى الواقع ما بقى من زمن السحر والقوى الخارقة التى كانت حقيقة ومن قدرات الإنسان الطبيعية، ودائرة فلك البروج «موضوع» نجمك العاشق، هى وليدٌ خلّاب لمعارف السومريين والكلدانيين والبابليين، والدليل أن الكواكب التى ذكرتها أساطيرهم، أكدت وجودها «ناسا». ببساطة ها أنا أتنمّر على الرواية وكل الأدب، والروائى اليوم ليس لديه الحسّ الكافى لهذا الجنون الرائع. وأنا لست زميلة لأدباء اليوم. هل يتطلبُ تجديد اللغة والتمكنُ فى الكتابة المغامرة برمى أوراقك بعيدا عن طاولة الرواية؟ أنا وحدي، لا يوجد كاتب حيث أكون!؟ أليست رائعة الفكرة أن تكتب ما لن يفكر بكتابته غيرك!؟ أن تشتاق للفردية فتغادر «الكثرة»! أن تترك كلّ الكتّاب متزاحمين على طاولة الرواية وتأخذ مسارك، مدارك، تسمع صوت نجمك! طبّق لعبة التاروت على الأدب واستمتع بالمفاجآت. يقولُ همنغواى بأنَّه يفضلُ الكتابة عن الأمور المألوفة ولا يريدُ التورط فى متاهة الأعمال الضخمة التى تختنقُ فيها اللغة ماذا عن لينا، فى أى شكلٍ إبداعى ترى نفسها أكثر؟ أولًا هل الأدب اليوم مؤهّل لمعارف غير مألوفة!؟ مؤهل مثلًا للسحر!؟ لا طبعًا، يخشاه، ويخافه ويحاربه. وما أندر السحرة وما أكثر الدجالين! فلنقل أنّى مستفزَّة من طغيان الدجل، فكتبت، كتبت لأنى وجدت نفسى أحتفل بمعرفة مغيّبة، لصالح الجهل والشعوذة. العمل بالفعل ضخم، وصغّرنا الحرف فى الطباعة حتى لا يتجاوز الستمئة صفحة، وثمة جزء، اقتطعته لأنه يمكن أن يكون نصًّا حرّا آخر. واهمٌ همنغواى أنّه كان مألوف، كان رائعًا، وصيّادًا، ومغامرًا وشجاعًا أنهى حياته بسبب كبرياء الصيّاد الذى لا يُهزم. أمّا عنّي، فإن فرحتى بالوجود والحياة علامتها الكتابة، والتورّط بالخرافات، أنا متحررة من شهوة المألوف والمأمون، والمضمون، وكل التزام هو أذية مباشرة للأدب. لا انتماءات لى مع كتّاب زمني، لا أشبه هذا الزمن، لا تربطنى صلة قرابة بما يُكتب من أدب. ولا أشرح ما أكتب. أكتب وكفى. ما يضيفُ التماسك للبناء الروائى هو خلق الحدث، هل تعتقدين بأنَّ ما يفتحُ الطريق على الحشو فى الكتابة الروائية هو الاستغراق فى الوصف ؟ «الحشو» هو آفة، لكن كيف تراه أنت وأراه أنا ! ؟ اليوم «الحشو» هو كل شيء فى الأدب والفن والتمثيل، كل شيء «حشو» شراء اللايكات والمتابعين، والقرّاء.. أمر واقع كما وجوه الممثلات، «الحشو» هو الترند الضرورى الذى ينبغى أن يمر به الإبداع العربى حتى يأتى وقت الحدث «الصحو». «الحشو» حالة مسليّة بكل الأحوال، مقطع كوميدى من الزمان. إنَّ الشيء الشيطانى فى الكتابة برأى فرجينيا وولف أنَّها تستدعى استنفار كل عصب لدى المؤلف إلى أن يولدُ النصُ محكماً بدورها تعترف آغوتا كريستوف بأن الكتابة لا تعينها مؤكدةً بأنها تكادُ تكون ممارسة انتحارية بماذا يتوسلُ الكاتبُ للتخفف من هذا الصراع؟ لم أحب وولف ولا كتاباتها، بينما أغوتا كاتبة فريدة بحق. فلنتحدث عن غواية الرحلة فى وادى الشياطين، دون إلهام «عبقر» الكتابة، فالكتابة ليست قانونية، ليس موافق عليها غالبًا أقصد الكتابة الإبداعية، التخييل يغذى الطموح وسماؤه تستوعب النسور. الكتابة بالنسبة لى لم تمثل قط محنة فرجينيا وولف ولا صراع أغوتا كريستوف، بالمناسبة لا يمكن أن تكون وولف ملهمة بأى شكل، بالنسبة لي، بالكاد اطّلعت على بعض نصوصها، لا يمكننى أن اقرأ ما كتبته امرأة عبّأت جيوبها بالحجارة وأغرقت نفسها بالنهر، هذا أدب الوحل والغرقى لا يجذبني، كل ما يثير الشفقة منفر لعفاريت الكتابة النارية. فمن يقطع الصحراء ويعبر تاريخه القبلى لن يشكل له النهر الذى أغرق وولف خطرًا. علاقتى بالصحراء وذئابها ليس كلامًا استعاريًّا أو مجازيًّا، حقيقة من تزفرهم الصحراء هم ذئابها. تُعتبرُ الكتابةُ فعلا اجتماعيا لشخص منعزل هل ينطبق هذا الكلام على حياتك الإبداعية؟ الانعزال حالة فنية خالصة، الانعزال قصيدة تكتبها وحدك. هو ذهبى الثمين، اختياري، ومدروس. أى حياتى صاخبة، وهادئة فى ذات الوقت. الأدب لا يعيش دون الطقوس، والطقوس لا تستمر دون انتظام يومي، وهذا الانتظام لا يغدو مغويًا دون المكان. بيروت هى اختيارى بسبب ما توفره من طقوس يومية تسمح لك أن تكون «اجتماعيًا» وبنفس الوقت تتلذذ بعزلتك عندما تريدها. لا يمكننى العيش إلّا فى مكانٍ يشبه فتنة الروايات والحكايات.