لم يكن الحب في مصر القديمة مجرد مشاعر عابرة أو قصص تروى، بل كان قيمة مقدسة تتجسد في المعابد، والتماثيل، والأشعار، وحتى الطقوس الدينية. واستطاع المصري القديم، أن يخلد حبه في الحجر والكلمات، لتبقى هذه القصص شاهدة على العواطف النبيلة التي جمعت الأزواج والملوك والملكات، وأصبحت جزءًا من تاريخ حضارة القديمة. وفي هذا السياق، قال الدكتور عبد الرحيم ريحان، خبير الآثار وعضو المجلس الأعلى للثقافة، إن الآثار المصرية القديمة، مليئة بالدلائل التي تعكس عمق مشاعر الحب والوفاء بين الأزواج، من معابد شُيدت تخليدًا للمحبوبين إلى تماثيل تصور العناق والاحتواء، وحتى النصوص الشعرية التي تعبر عن الشوق واللهفة، فكيف كانت مظاهر الحب في مصر القديمة؟ وما هي أروع القصص التي جسدت هذا الشعور النبيل؟ الحب الملكي في مصر القديمة: أساطير خالدة اقرأ أيضا | الآثار تشارك في بورصة السياحة الدولية بإيطاليا رمسيس الثاني ونفرتاري: قصة حب محفورة في الحجر لم يكن الملك رمسيس الثاني مجرد قائد عسكري أو ملك قوي، بل كان أيضًا عاشقًا عظيمًا، لقد خلد حبّه لزوجته الجميلة نفرتاري ببناء معبد خاص لها في أبو سمبل، إلى جانب معبده العظيم. وكُتبت على جدرانه ألقابها الفريدة مثل "جميلة جميلات الدنيا" و"المحبوبة التي لا مثيل لها". كان هذا الحب يتجلى أيضًا في نقوش المعبد، حيث تظهر نفرتاري بجانب زوجها في مشاهد تعكس الاحترام والعاطفة المتبادلة. أحمس الأول وأحمس - نفرتاري: حب يتجاوز الحياة لم يكن أحمس الأول ملكًا عاديًا، فقد ارتبط اسمه بتحرير مصر من الهكسوس، ولكن أيضًا بحب عظيم لزوجته أحمس-نفرتاري. لم يقتصر دوره على معاملتها كزوجة فقط، بل رفعها لمكانة القداسة بعد وفاتها، وجعلها من بين الثالوث المقدس في طيبة. هذا الحب امتد إلى الشعب المصري، الذي عبدها كرمز للوفاء والقوة. * أمنحتب الثالث والملكة تيي: تحدي العادات من أجل الحب في قصة لا تقل روعة، أحب الملك أمنحتب الثالث زوجته تيي حبًا عظيمًا، رغم أنها لم تكن من العائلة الملكية. واجه المجتمع والتقاليد وغيّر القوانين ليجعلها ملكة بجانبه. لم يكتفِ بذلك، بل أنشأ لها بحيرة شاسعة تعبيرًا عن حبه، وأمر ببناء معبد خاص بها، وحتى في التماثيل، يظهران جنبًا إلى جنب، بنفس الحجم، في إشارة إلى المساواة والاحترام العميق بينهما. تجسيد الحب في الفن والتماثيل المصرية منحوتات الحب والحنان حرص المصريون القدماء على تصوير العلاقات الزوجية بطريقة تعكس المودة والتقدير، حيث تظهر التماثيل الأزواج وهم يمسكون بأيدي بعضهم، أو تضع الزوجة يدها بحنان على كتف زوجها، أو تقدم له الزهور. من بين أروع الأمثلة على ذلك: تمثال "سنب" وأسرته من الأسرة الخامسة، الذي يُظهر الزوجة وهي تضع يدها بحب على زوجها القزم، في مشهد يفيض بالحنان والتقدير. كرسي عرش توت عنخ آمون، حيث تظهر الملكة وهي تضع العطر على كتف زوجها، في مشهد يبرز الرومانسية والعاطفة. تمثال رع حوتب وزوجته نفرت، الذي يقف الزوار أمامه مبهورين بدقة تعابيره، حيث تنطق تفاصيله بحب خالد عبر العصور. أشعار الحب في مصر القديمة: كلمات تنبض بالمشاعر لم يكن الحب في مصر القديمة يُحفر على الجدران فقط، بل وُثق أيضًا في البرديات، حيث ترك لنا العشاق المصريون القدماء قصائد تمتلئ بالشوق والوله. من أجمل هذه النصوص، رسالة إخناتون إلى زوجته نفرتيتي: "أقسمت بك يا إلهي أن تجعلها نورًا في قلبي لا ينطفئ، وتجعلني عودًا في ظهرها لا ينكسر، فهي مني وأنا منها، وكلانا سر وجود الآخر"، كما تضمنت بردية "شستربيتى" كلمات تحمل مشاعر العشق الخالص، حيث تبوح فتاة بمشاعرها تجاه حبيبها: "لقد أثار حبيبي قلبي بصوته، وتركني فريسة لقلقي وتلهفي، إنه يسكن قريبًا من بيت والدتي، ومع ذلك، فلا أعرف كيف أذهب نحوه." أسطورة الحب والوفاء: إيزيس وأوزوريس لا يمكن الحديث عن الحب في مصر القديمة دون التطرق إلى أسطورة الحب والوفاء الخالدة بين إيزيس وأوزوريس. عندما غدر ست بشقيقه أوزوريس وقتله، لم تستسلم إيزيس للحزن، بل بدأت رحلة بحث طويلة للعثور على جسده. عبرت الأنهار والصحارى، وبكت دموعها في النيل، حتى وصلت إلى مدينة بيبلوس، حيث وجدته محفوظًا داخل شجرة مقدسة. لم يكن هذا الحب مجرد مشاعر عابرة، بل كان رمزًا للقوة والوفاء. وعندما أنجبت إيزيس ابنها حورس، كرست حياتها لحمايته وتربيته حتى يكبر ويثأر لوالده. هذه القصة ليست مجرد أسطورة، بل هي درس خالد في الحب والتضحية، بقي محفورًا في وجدان المصريين القدماء حتى اليوم. الحب سر الخلود في مصر القديمة لقد أدرك المصريون القدماء أن الحب ليس مجرد شعور، بل قوة خالدة تتجاوز الزمن، تتجسد في الأحجار، وتُحفر على جدران المعابد، وتُروى في الأساطير والقصائد. من رمسيس ونفرتاري إلى إيزيس وأوزوريس، ظلت قصص الحب المصرية القديمة دليلًا على أن المشاعر الصادقة قادرة على مقاومة الموت والنسيان، ففي أرض الفراعنة، لم يكن الحب مجرد علاقة بين رجل وامرأة، بل كان فلسفة حياة، ورمزًا للخلود، وكما قال إخناتون: "فهي مني وأنا منها، وكلانا سر وجود الآخر."