حين يغادرنا كاتب بحجم محمد جبريل، لا تنطفئ ذكراه سريعًا، خاصة وإن كانت سيرته الأدبية أشبه بحياة داخل أخرى، تختلط فيها الواقعية بالتصوف، والتاريخ بالمتخيل، والمدينة بروحها الشعبية العميقة. فى هذا الملف، تُطل «أخبار الأدب» على عالم جبريل، ومحطات حياته التى امتدت لما يقرب من 87 عامًا (17 فبراير 1938 – 29 يناير 2025)، كان فيها صاحب مشروع أدبى متفرد، أثرى من خلاله المكتبة العربية بإبداعاته الروائية والقصصية والنقدية، التى تجاوزت 85 مؤلفًا، تجمع بين الواقعية الروحية، واستلهام التراث، والغوص فى أعماق المجتمع المصرى. منذ بداياته فى الصحافة بجريدة الجمهورية والمساء، وحتى رحيله؛ ظل جبريل متجردًا عن الصخب والشللية، زاهدًا فى الأضواء، ومخلصًا لإبداعه، واتسم بروح أدبية ظلت تمنح حتى لحظاتها الأخيرة، فتركت سيلًا من الذكريات فى قلوب من عرفوه. ولولا المساحات المحددة للجريدة؛ لصار هذا العدد الخاص ضعف حجمه، متضمناً شهادات أصدقائه وتلاميذه والنقاد، ورسائل محبة، وتأملات فى مشروعه الإبداعى، وصور من ندوة الخميس فى جريدة «المساء» التى احتضنت عشرات الموهوبين، وأصداء رحلته مع الصحافة والكتابة. قبل ما يدنو من عشر سنوات؛ انسل أبى من الحياة دون فرصة وداع، فصارت ذكراه معلقة. لم أكن مستعدة. من كان مستعدًا للفقد أصلًا؟ أسبوعى حينها كان مشغولًا بمهام يومية لا تنتهى، ولم أفكر للحظة أن الحياة قد تنتهى فى منتصف الليل، أن يسبقنا الفقد ونحن نظن أننا نملك المزيد من الوقت. جاء الرحيل سريعًا، بلا مقدمات، وبلا مشهد درامى طويل يتيح لى فرصة الاستيعاب. كان أقرب إلى خطف مفاجئ، كما لو أن يدًا خفية امتدت وانتزعته من عالمى دون أن تمنحنى وقتًا للمواجهة أو حتى الإنكار. كان محمد جبريل امتدادًا لذكرى أبى، فلطالما سمعت اسمه يتردد فى بيتنا. وحين رحل أبى صار منزله بيتًا ثانيًا لى، لم ينقطع الاهتمام والدعم، ولا التوبيخ أحيانا . وعلى مدار سنوات؛ صارت بينى وبين الأستاذ جبريل كثير من التفاصيل والمشاعر، وساعات طويلة من الحكى، لا أظن أن مساحات النشر قد تتسع لها. وإن كان هو نفسه قد سرد قدرًا يسيرًا منها فى أحد كتبه الأخيرة «أسرة القط حميدو». تلك الأسرة التى تكوَّنت من قطه «ابن حميدو» وقطتى «بكيزة» صاحبة عيون زهرة العلا – كما رآها دائمًا – وصار عدد أفرادها فى وقت ما؛ أكبر من عدد أفراد أسرتينا مجتمعين. مع وعكته الصحية فى 2020 ودخوله إلى المستشفى؛ عادت إلى ذاكرتى المشاهد الأخيرة للرحيل، وتجدد ألم الفقد الذى لا يلتئم. لم يكن مرورها بسلام سوى غفلة كى يكرر القدر نفس المشهد، ونفس المفاجأة الثقيلة، والإحساس بأن عزيزًا انتُزع منى بلا مقدمات. جاء الرحيل بين أيام معرض الكتاب المزدحمة والمنهِكة، كأنما الموت يتقن اختيار اللحظات التى أكون فيها أكثر انشغالًا، فيسرق منى الأحبة دون إنذار. هذه المرة؛ أعرف كيف يبدو الفقد. لم تكن الصدمة أقل ألمًا، لكنها مألوفة، أعيش معها تكرارًا لحكاية قديمة، ستترك أثرًا مغايرًا، وفراغًا جديدًا، وذكريات لا تموت. ربما الفقد هو امتحان للمحبة، ربما هو الطريقة التى تذكرنا بها الحياة أن كل لحظة ثمينة، وأن الكلمات التى نقولها قد تكون الأخيرة؛ لا شىء مضمون، لا اللقاءات، ولا الوعود، ولا حتى الغد.