بروتوكول تعاون لإعادة تأهيل ورفع كفاءة مدارس التعليم المجتمعي بشمال وجنوب سيناء والإسماعيلية    هل تقتحم إسرائيل رفح الفلسطينية ولماذا استقال قادة بجيش الاحتلال.. اللواء سمير فرج يوضح    للمرة الأولى منذ 6 سنوات.. السيد البدوي يدخل حزب الوفد للمشاركة في تأبين رموز بيت الأمة    أحمد عيسى: 4% زيادة فى الحركة السياحية الوافدة لمصر خلال الربع الأول من العام الجاري    وزير الاتصالات يؤكد أهمية توافر الكفاءات الرقمية لجذب الاستثمارات فى مجال الذكاء الاصطناعى    مصدر رفيع المستوى: مصر تكثف اتصالاتها مع كافة الأطراف لوقف إطلاق النار في غزة    أردوغان ينتقد الموقف الغربي تجاه حرب غزة خلال زيارة شتاينماير    كيف تنظر بكين إلى زيارة "بلينكن" الأخيرة.. صحفية صينية تجيب    مدير إدارة المدرعات بالقوات المسلحة: الاهتمام بالحصان العربي المصري يحيي التراث    رسميا.. المنصورة إلى دوري المحترفين بعد التعادل أمام مالية كفر الزيات    تردد قناة الجزيرة 2024 الجديد.. تابع كل الأحداث العربية والعالمية    متى تنتهي الموجة شديدة الحرارة التي تضرب البلاد حاليا؟.. الأرصاد توضح    مكتبة الإسكندرية تستقبل الملك السابق أحمد فؤاد    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    متحدث «الصحة» : هؤلاء ممنوعون من الخروج من المنزل أثناء الموجة الحارة (فيديو)    «الزراعة» : منتجات مبادرة «خير مزارعنا لأهالينا» الغذائية داخل كاتدرائية العباسية    بعد إنقاذها من الغرق الكامل بقناة السويس.. ارتفاع نسب ميل سفينة البضائع "لاباتروس" في بورسعيد- صور    هاني شاكر يحيي حفل عيد الربيع في دار الأوبرا (تفاصيل)    منى الحسيني ل البوابة نيوز : نعمة الافوكاتو وحق عرب عشرة على عشرة وسر إلهي مبالغ فيه    حفل ختام برنامج «دوى» و«نتشارك» بمجمع إعلام الغردقة    أزمة الضمير الرياضى    سيناء من التحرير للتعمير    ارتفع صادرات الصناعات الهندسية ل1.2 مليار دولار بالربع الأول من 2024    البورصة تقرر قيد «أكت فاينانشال» تمهيداً للطرح برأسمال 765 مليون جنيه    تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "شقو"    جمعة فى مؤتمر رابطة العالم الإسلامى بالرياض: نرفض أى محاولة لتهجير الشعب الفلسطينى وتصفية قضيته    عاجل.. تنبيه مهم من البنوك لملايين العملاء بشأن الخدمات المصرفية    عناوين مكاتب تطعيمات الحج والعمرة بمحافظة كفر الشيخ ومواعيد العمل    فوز مصر بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية: تلقينا بلاغ عن وقوع انفجار جنوب شرق جيبوتي    إجازة شم النسيم 2024.. موعدها وعدد أيامها بعد قرار مجلس الوزراء بترحيل الإجازات    قريبا.. مباريات الدوري الإسباني ستقام في أمريكا    عيد الربيع .. هاني شاكر يحيى حفلا غنائيا في الأوبرا    توقعات برج الثور في الأسبوع الأخير من إبريل: «مصدر دخل جديد و ارتباط بشخص يُكمل شخصيتك»    حكم الاحتفال بشم النسيم.. الإفتاء تجيب    أوراسكوم للتنمية تطلق تقرير الاستدامة البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات    أدعية التوفيق والتيسير في الدراسة.. الأخذ بالأسباب مفتاح النجاح    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    العروسة في العناية بفستان الفرح وصاحبتها ماتت.. ماذا جرى في زفة ديبي بكفر الشيخ؟    طلاب كولومبيا: لن ندخل في مفاوضات مع إدارة الجامعة    تضامن الغربية: الكشف على 146 مريضا من غير القادرين بقرية بمركز بسيون    خدماتها مجانية.. تدشين عيادات تحضيرية لزراعة الكبد ب«المستشفيات التعليمية»    مديريات تعليمية تعلن ضوابط تأمين امتحانات نهاية العام    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    تفاصيل مؤتمر بصيرة حول الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادي للمرأة (صور)    الصين تعلن انضمام شركاء جدد لبناء وتشغيل محطة أبحاث القمر الدولية    حقيقة حديث "الجنة تحت أقدام الأمهات" في الإسلام    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    هل يجوز أداء صلاة الحاجة لقضاء أكثر من مصلحة؟ تعرف على الدعاء الصحيح    دماء على «فرشة خضار».. طعنة في القلب تطيح بعشرة السنين في شبين القناطر    الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق مستقل بشأن المقابر الجماعية في غزة    للقضاء على كثافة الفصول.. طلب برلماني بزيادة مخصصات "الأبنية التعليمية" في الموازنة الجديدة    اسكواش - فرج: اسألوا كريم درويش عن سر التأهل ل 10 نهائيات.. ومواجهة الشوربجي كابوس    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    نقابة الأسنان تجري انتخابات التجديد النصفي على مقعد النقيب الجمعة المقبل    ضبط 16965 مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    الحج في الإسلام: شروطه وحكمه ومقاصده    بشير التابعي: أتوقع تواجد شيكابالا وزيزو في التشكيل الأساسي للزمالك أمام دريمز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بورتريه.. غير مكتمل
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 04 - 2019


محمد جبريل مع زوجته د. زينب العسال
أصحو من النوم علي صوته يغني لمطربته المفضلة فايزة أحمد، يحب أغنياتها الطويلة، أعرف أن جبريل يكتب إبداعًا، منذ لقائي الأول به كشف جبريل عن حبه وتعصبه الشديد لصوت فايزة.
الطرب هو المدخل السحرى لعالم محمد جبريل، يضبط الراديو على محطة »أم كلثوم« أو يشغل البيك أب الذى صرف عليه الكثير بسبب كسر إبرة التشغيل أثناء تنظيفه، قبل أن يظهر فى حياتنا الكمبيوتر والسى دى والموبايل والفلاشة، يسمع بأذنيه.، غالبيتنا نسمع بأعيننا.
الصوت الجميل يشده، الصوت القوى بلا إحساس لا يطربه، يحب الأصوات التى لها بصمة، لا تغفلها أذنه هو الصوت الذى يثير فى النفس الشجن، يحب أم كلثوم وفايزة ونجاة وشادية وفيروز وشهرزاد وعبد الحليم ومحمد عبد الوهاب فى أغنياته القديمة، ومحمد فوزى ومحمد قنديل ومحرم فؤاد وكارم محمود، ومن المطربين الشعبيين محمد طه ومحمد رشدى وبدارة، يجد فى صوت عبد الحليم - الذى أحب معظم أغنياته – الفنان الذى يجمع بين الموهبة والذكاء، الموهبة وحدها لا تكفى، يرى أن الذكاء عنصر مهم فى استمرار الفنان، ونيله إعجاب الجمهور، الذكاء يعنى الدراسة والالتزام، ومسايرة التطور. مهم أن تعرف أين موقعك بين من حولك. لا يكفى أن تكون موهوبًا، فكم موهبة ضاعت لأن صاحبها لم يتمتع بالذكاء!
فى مكتبه فى جريدة «الوطن» العمانية، لاحظت مكتبة ضخمة تضم فروعًا شتى من المعرفة، استوقفته دهشتى، فقال: هذه مكتبتى الخاصة.
أصبحت غالبية هذه المكتبة جزءًا من مكتبته فى القاهرة، قليل من الأثاث. احتلت الكتب باقى مساحة شقتنا الصغيرة، نتعثر فى الكتب، قال لتذمرى: هذا بيت كُتاب!
صرت أحمل الكتب، وأبحث عنها.
دون دراية أو تفكير كنت أنساق إلى هذا العالم المنسرب إلى كيانى بهدوء، أشعر بالتحولات، وأستمتع بتسربها دون أن أقاوم، أنشغل بمتطلبات الحياة كفتاة تحيا فى الغربة، تعتمد على نفسها فى كل شىء، تدافع عن كيانها، والاتكال على الآخرين، تذكر نفسها بما يجب أن تحققه من نصر على ذاتها، تبتكر - فى حدود الممكن - فى تدريس مادتها، المنهج جديد، ومتطور لم تألفه من قبل، تجابه ضغوط العمل، ومقالب المدرسات الساذجة، تصبح فى أقل من ستة أشهر مصدر ثقة لإدارة المدرسة، تنشئ محبة تصل إلى عتبات الصداقة مع طالباتها القريبات من عمرها، زيارتهن فى مسكنها ترطب من هجير الغربة.
لم أعرف أننى تعلقت بهذا الرجل صاحب الوجه البشوش، حفظت حركاته الملازمة أثناء العمل، رفع النظارة، مسطرة رسم خطوط «الماكيت» فى يده، القلم الرابيدو فى اليد الأخرى، الدقة المتناهية فى رسم الجداول، المادة اللاصقة، عرفت - فيما بعد - أنه يعد الجريدة من الألف إلى الياء، بداية من كتابة الرأى إلى الإخراج الصحفى.
حاول أن يعلمنى كيف أرسم «الماكيت»، لكننى فشلت.
يتحرك بين المسجل الكبير الذى ينقل الأخبار، أكوام ورق التيكرز: الشرق الأوسط ورويترز والفرنسية، كوب الشاى بالحليب يأتى دون أن يطلبه، زجاجة المياه المعدنية، يحرص العامل أن يضعها أمامه، تتغير الزجاجة كلما تلاشت برودة الماء، حرصه على التعطر بأرامز، رائحتها ثقيلة لكنى أحببتها، هو حليق الذقن دائمًا، شعره كثيف، تغزوه شعيرات بيضاء، قمصانه مختارة بعناية ماركة بيير كاردان، الياقة والأساور بيضاء، تقليدى فى اختيار أحذيته الإنجليزية الطابع، كل فترة يحتسى ملعقة من دواء «موكوئين» المهدئ لتقلصات المعدة، يضع صورة أمامه من إطار فضى لابنيه وزوجته، يتحدث عن علاقته بالزوجة، أتيقن من أنه يعانى مشكلة ما. فى لحظة أفصحت عن ذلك، تأتيه دعوات لزيارات بعض البلدان: الأردن، العراق ألمانيا، فرنسا،المغرب، يتصل بمكتب شركة الطيران: أريد السفر إلى القاهرة.
سألنى: هل تريدين شيئًا من القاهرة؟
- لا
- ألا تودين إرسال خطاب إلى أهلك ؟
- أهلى فى الزقازيق.
- صديقى الشاعر حسين على محمد من ديرب نجم، سأزوره.
أعطيته الخطاب.
كانت إجازته فى القاهرة أسبوعين، طالت إلى شهر.
أصحو على صوته يردد اسمى، يطلب من عم مرهون حارس سكن المدرسات، أن يصف سيارته أمام السكن، ترحب به مدرسة من الإسكندرية، يخطو نحو الداخل، يقف أمام برجولة الانتظار، أنزل على عجل، أبادره بالسؤال: متى أتيت؟
- منذ ساعة.
فى السيارة أجريت معه أول حوار نشر جزء منه - فى منتصف الثمانينيات – فى مجلة «صوت الشرقية».
يومها، تحدث باستفاضة عن عالمه، أحلامه، مشروعه الأدبى المؤجل، كتابات لم تكتمل، حلمه فى إنشاء جريدة يومية، تصل إلى كل العواصم العربية، بعدها يعود إلى القاهرة.
يقلب أمامى بطاقات موسوعته الضخمة «مصر فى قصص كتابها المعاصرين»، أكثر من 4500 صفحة من القطع الكبير، خطوط متنوعة وأوراق صفراء تآكلت حوافها، أفكار، وسطور من قصص لم تكتمل، عالم أراه متحفزًا، ينتظر الانطلاق.
تجربة جديدة أخوضها مع كل خطوة أخطوها نحو مبنى الجريدة، صار لى فى عُمان من يهتم بى، أحاول أن يكون فى يومى جديد، أرويه لمن أشعر فى عينيه محبة أعلنتها عيناه، وإن لم يقلها لسانه.
كنت واحدة من مجموعة لم يكن لها صلة بالصحافة، دربنا جبريل على كتابة الخبر وإجراء الحوار، وإعداد التحقيق الصحفى، وتسجيل النشرة. فى البداية أسند لى اختيار الأخبار من وكالات الأنباء، تتعلق عينى بحركة يده. ترى ما سيختاره للنشر؟ أقرأ فى موضوعات شتى، مختلفة تمامًا عن تخصصى الدراسى.
ذات صباح، صحوت على رويترز تحمل خبر عودة محمد جبريل إلى سلطنة عمان بعد رحلة عمل فى بعض الدول لشراء معدات طباعة، نشرت الخبر فى جريدة الشرق الأوسط، هكذا علمنى جبريل كيف ينشر الخبر.
ينطبق على جبريل المثل المصرى «يخلق من الفسيخ شربات».
قال: أريد العودة.
كان قد أصدر العدد اليومى من جريدة «الوطن» العمانية.
أردف فى نبرة تطمين: إذا كنت تريدين البقاء، فلا بأس.
- لا أريد الزواج بالمراسلة، سنعود معًا.
مكتب كبير يتصدر ركنا فى مدخل الشقة، توضع عليه، وبجواره، كتب اختيرت بعناية فى كافة المجالات: سياسة، اقتصاد، اجتماع، نقد أدبى، روايات عربية وأجنبية، دواوين شعر، كتب فى التراث والتصوف، كتب مهداة من الأصدقاء، عشرات الكتب المتراصة، يلزم نفسه بقراءتها تباعًا فى نهاية يومه، أو فى وسائل المواصلات، يخط بالقلم الرصاص بجوار ما يستوقفه، أو يناقشه، أو يرى فيه معلومة خاطئة تحتاج تصويبًا، أو تحمل وجهة نظر تستحق المناقشة.
عرفت الذائقة القرائية لجبريل، إذا سافرت أو زرت معرض للكتاب، أبحث عما يحب قراءته.
من أول فقرة يدرك محمد جبريل أن هذا الكاتب صاحب موهبة، لا يخيب ظنه فيواصل القراءة. حين ينتهى من الكتاب يرسم علامة صح ويمضى، هنا ينتقل الكتاب إلى مكان آخر. هذه العادة مستمرة حتى فى فترات النقاهة.
لا أتخيل جبريل بدون كتاب بين يديه، وقلم رصاص، حتى فى سفرياته لإحدى المدن داخل مصر أو خارجها، ثمة مكان للكتب بجوار متعلقاته الشخصية.
عند العودة تتزايد أعداد الكتب، أضيفت إليها إهداءات الأصدقاء والمبدعين.
ساعة واحدة يتمدد الجسم فيها بعد الغذاء فى استراحة القيلولة، لا تستمر أكثر من ساعة، يصحو ليواصل العمل حتى الساعات الأولى من الصباح.
عندما يتهيأ للنوم أدرك أن جسده ناله الإجهاد، يستغرق جبريل فى النوم سريعًا. أضاحكه قائلة: ضميرك «مستريح».
يسلم نفسه لنوم عميق، على ضوء خافت.
لا أدرى كيف كنا نربى سبعة قطط وكلب لولو؟ كيف كنا نحيا فى الشقة الصغيرة مع هذا العدد الكبير من القطط المتنوعة، ما بين سيامى ورومى وبلدى؟
كانت جزءًا من الأسرة، لها الأولوية فى كل شىء، يترك القط يلعب معه، لمسة حانية منه أو نظرة إلى القط كفيلة بأن يصير القط لصيقًا به حيثما كان، يحب أن يطعم القطط من يده، أحببت الحيوان – أعترف - من تعامل جبريل معه، علاقتى بالقطط محايدة، تلتقط يدى صورة لجبريل مع ابنيه أمل ووليد فى حديقة منزله القديم، يمسك وحشًا فى هيئة كلب، يروى لى حكاية هذا الكلب البوليسى الذى نما جسده فى شهرين، صار عملاقًا، وزاحم الأسرة، ففضل عودته من حيث أتى.
أحب جبريل حميدو القط الوافد أكثر منى، كنت أجاهد نفسى كى لا أقع فى فخ حب حميدو، أن يكون بينى وبينه مسافة، لكن جبريل أنهى هذه الحالة قائلًا: حميدو سيظل فى البيت، أنا أحبه. يبدى ضيقه عندما ألوم حميدو على فعل ما.. أضبط نفسى أمارس عاطفة الأمومة مع حميدو. بعد قرابة العامين ستأتى ضيفة جديدة، بكيزة، تنال الامتيازات نفسها، تلعب، وتتجول فى كل مكان، تفترش السعادة ملامح جبريل، فأسكت على مضض.
محمد جبريل رجل الدهشة، يعيش بقلب طفل صغير لم يتلوث، ما فى قلبه على لسانه، هكذا عرفته منذ أول لقاء معه. أعتقد أنه تحمل الكثير من الخسارات فى سبيل أن يكون ذاته، يكره النفاق، لكنه - فى المقابل - يمنح الكثيرين فرصًا لا يسعى هو إليها، روى لى معاناته فى بداية علاقتنا، جاءنى صوت الشاب الخجول وهو يتلمس خطواته الأولى باحثًا عن موضع قدم فى الحياة الثقافية، عرف من ساعده ووقف بجواره، ومن عرقل خطواته. من يومها يقف بجوار كل من يحتاج الوقوف بجواره، تكون المكافأة فرحًا غامرًا بالنجاح، ومتابعة هذا «الفرخ» الذى انطلق، هكذا فعل، ويفعل، جبريل معنا جميعًا.
لم أدرك قيمة ما قدمه جبريل إلا مع الخطر والألم أجد كل الأصدقاء والأبناء يلتفون، أستدفئ واستقوى بمحبتهم.
تترقرق الدموع فى عينى جبريل فى مواقف البهجة والألم، أذكر زفاف ابنته أمل. لم يقو على اصطحابها إلى الكوشة وسط صخب الموسيقى، وفرح الأهل، والأصدقاء، كانت فرحته الأولى، وقف مكانه. نبهته حتى يتقدم. كانت عيناه «مرغرغتين» بالدمع، يبكى جبريل بحرقة فى فقد عزيز، كما حدث مع الشاعر الكبير محسن الخياط، كان له بمثابة أخ أكبر، بكى بشدة عبر التليفون لما أخبره صهره الكاتب رياض سيف النصر أن آخر ما قاله الخياط : أهلا يا محمد، ثم أسلم روحه لغيبوبة، يبكى، وتختل عجلة القيادة ونحن فى الطريق إلى البيت عقب وفاة أخيه، أصمت أمام جلال المشاعر. أضبط محمد متلبسًا ببكاء مكتوم، وهو بجوارى بعدما ألمت بى محنة مرضية استمرت لشهور، طالت فترة المرض، ففقدت شهية الكلام، أنا الثرثارة التى كان يشتكى منها لها، هو صديقى الصدوق، لا أخفى عنه شيئًا. هو كذلك، يسمع ويتفهم ويبتسم ويعقب: هذا طبعك..
كالبحر هو، محمد جبريل، تثور ثائرته، فى الغالب يكون على حق. أدارى الخطأ بالمبررات، لا يحب القسوة فى التعامل مع الآخرين أو سوء الظن، يجد المبررات دومًا، يقول: لن ندخل فى ضمائر الناس.
يدهشنى حينما يتذكر التفاصيل الدقيقة لمكان ما لم يطأه إلا مرة واحدة، تفاصيل دقيقة لا ألتفت إليها، حينما تعلن ملامح وجهى عن دهشتى يقول: الروائى يعنى بالتفاصيل الدقيقة. المكان عنصر لا يمكن إغفاله فى أعمال محمد جبريل السردية، كتب أكثر من ثلاثين رواية قوامها حى بحرى، الحى الذى ولد فيه، فى كل رواية يتجدد المكان، وتتغير ملامحه، عبر زوايا مغايرة للفضاء المكانى، هذا المكان شبه جزيرة فى شبه جزيرة. كيف خلق محمد جبريل منه عوالم تناولتها روايات: رباعية بحرى، أهل البحر، زمن الوصل، الصهبة، صخرة فى الأنفوشى، صيد العصارى، البحر أمامها، عناد الأمواج، مواسم للحنين، مد الموج، المينا الشرقية، ورثة عائلة المطعنى، وغيرها؟
لا يقصر قراءته على ملامح المكان، بل يقرأ البشر أيضًا، يحكم على الإنسان من تصرفات بسيطة، أو من عبارة قالها، يصدق حدسه مع الأيام.
أمام مكتبه ألمح المصحف، محمد متدين بطبعه، ولد – والتعبير له - فى بيت تطل عليه مئذنة، تجولت معه فى بحرى، أزور ما تبقى من أطلال روضة مصر الفتاة، ومدرسة البوصيرى، أعد المساجد والزوايا والأضرحة والمقامات، أتعجب من المقام الصغير المحشور بين بنايتين، تحدث عنه فى «أهل البحر» وفى «زمان الوصل». يحرص جبريل على الصلاة فى وقتها، وصلاة الجمعة، وصيام شهر رمضان، يتم فيه قراءة القرآن، ورباعيات صلاح جاهين، وبعض أعمال نجيب محفوظ.
لا يشاركنا مشاهدة البرامج ومسلسلات الرمضانية، يتخير مسلسلًا واحدًا يتابعه، إن كان جيدًا استمر فى مشاهدته.
أحب السير من الموسكى إلى الحسين، لكن الزحمة الخانقة تقلق جبريل، نتجول فى منطقة الحسين، الغورية، العطارين، الصاغة، طقس رمضانى لا يمكن أن يغفله جبريل، نزور الحسين مرتين أو ثلاثًا مع أصدقاء، أهيئ نفسى للزيارة. لما زرته أول مرة عانت قدماى من التورم، خلعت الحذاء ذى الكعب العالى، واستبدلته بحذاء اشتريته من محل فى الموسكى، تأخذنا أقدامنا إلى المالكى والفيشاوى، نكتشف مقهى بلدى فى شارع جانبى لا يحضرنى اسمه، يسهر البسطاء من أهل الحى، لاحظنا النظرات المتفحصة: امرأة تجلس مع رجل!؟. ثم لم يعد المشهد يثير فضولهم، عرف الجرسون طلباتنا، وألف استقبالنا بعبارات الترحيب..
صار المقهى مقصدنا.
جبريل يحب المشى والتجول فى شوارع الجمالية، ليس للفرجة، ولكن لاستعادة ما صوره نجيب محفوظ فى رواياته، من أمكنة وشخصيات وأحداث، يقف أمام بناية: هنا وقفت عائشة تطل من النافذة على الضابط الذى أحبته، يعلن حزنه على ما آل إليه زقاق المدق، وغياب الحس الجمالى تمامًا، بما استحدثه التجار من إضافات شوهت المكان.
التقيت محمد جبريل بوساطة القدر. زارتنى - يومًا - صديقة له، عرفت منها أنه عم تلميذتى، وأنه سيسافر خلال أسبوع إلى القاهرة. هل تريدين إرسال خطاب؟
أتذكر أن اليوم كان الأحد. ذهبنا إلى مقر الجريدة، خلية نحل، فالعدد الأسبوعى للجريدة يصدر الاثنين، رجل أنيق يختلف عن الآخرين مشغول، يأتيه كوب شاى بالحليب، بينما يشرب الآخرون شاى سادة، يلتقط لى مصور الجريدة صورة تسجل الزيارة وبداية المشوار.
لم أعرف - إلا بعد زواجنا - أن جبريل قال لصديق له: هذه الفتاة سيكون لها دور فى حياتى. أعترف أن لجبريل حدسًا لا يخطئ، وافق – بعد تردد – على السفر – ذات يوم - إلى الإسكندرية.
سألت: لماذا؟
لم يجب.
سافرنا. كان الجو سيئًا، خمس حوادث سير، وضحايا على الطريق، تعطلت السيارة أمام قرية طوخ طنبشا، وجدنا شابين من القرية كانا من رواد ندوة جبريل، رحبا بنا، ظلت السيارة فى «زريبة» الدار حتى قدم الميكانيكى لإصلاحها.
فاجأنا النزيف ونحن فى الطريق لزيارة أحد أقاربى، للوهلة الأولى شعرت بالخطر من نظرات القلق ولمة أصحاب المحال القريبة من باب الخلق.. أصر على العودة إلى البيت، اتصلت بصديقته الكاتبة الصحفية عايدة صالح، أشارت بالذهاب إلى مستشفى عين شمس التخصصى، تفحصه الطبيب. شخص الحالة نزيفًا فى الإثنى عشر، تركناه وحده بعدما رفض الطبيب أن ننتظر فى الخارج، قال الطبيب: هو – الآن- فى العناية المركزة. أضاف بهدوء: لو تطورت الحالة سوف نتصل بكم.
عدنا إلى البيت، أنا وأمل ووليد. لم نتحدث، ظللنا بجوار التليفون. فى حوالى الواحدة والنصف صباحًا، تعالى رنين التليفون .
عرفت أن جبريل يعانى أزمة نزيف حادة، قال الطبيب إن الحل الوحيد إجراء عملية جراحية عاجلة. كتب جبريل هذه التجارب فى روايات تسجيلية، الحياة ثانية، ومقصدى البوح لا الشكوى، وما بقى من العمر، يحرص جبريل على الإفادة من كل ما يمر به من تجارب، حتى المرض.
مثل كل المصريين يتحمل جبريل الألم فى صمت، يقرأ الفاتحة، ويتهيأ للمجهول، يتبرع الأصدقاء والأهل بوصف علاجات سريعة، فإذا ذهب جبريل للطبيب يحرص بشدة على تعليماته، وأخذ الدواء فى مواعيده، هو مريض مثالى كما جاء فى تقرير أحد الأطباء.
لا يعرف جبريل الثرثرة، ولا يحب كتابة الخطابات، عندما كان الناس تتبادل الأخبار والاطمئنان عبر الرسائل .. خطابات قليلة وكلمات معدودة احتفظ بها أيام الخطوبة التى استمرت شهرين. بعدها تزوجنا، حديثنا المستمر يدور حول الثقافة والأدب والشأن العام.
سألنى وأنا أرتب بعض الملابس: ما هذا؟
قلت: ملابس للمناسبات والسهرة.
رده لم يتغير مع مرور قرابة الأربعين عامًا على زواجنا: أنا لا أميل إلى حضور المناسبات الخاصة. عرفت أن الوقت هو استثمار جبريل الذى يعرف كيف يديره جيدًا، هو لا يهب المال قيمة، المال للعون على العيش الكريم، لم يشتر أرضًا ولا بنى عمارة، فقط يمتلك شقة صغيرة اشتراها فى بداية الثمانينيات، لا يعرف كم فى جيبه، ولا كيف يحاسب بائعًا، يعترف أنه - للأسف - تعلم من زينب أن يعد نقوده قبل خروجه من البيت!
أسأل نفسى: ماذا لو لم أقابل محمد جبريل ظهر يوم أحد، فى نهاية شهر نوفمبر 1979؟
أعتقد أننى كنت مهيأة للعمل سيدة أعمال: أدير شركة، أو مشروعًا تجاريًا، أثق أنى كنت سأنجح، لكن محمد جبريل كان له الفضل - بلا أدنى شك - فى تحويل اهتمامى إلى مواصلة الدراسة والإبداع والنقد، أجد لمحات من شخصيتى منثورة عبر شخصيات روايات: «النظر إلى أسفل»، و«الصهبة» و«الحياة ثانية» و«مقصدى البوح لا الشكوى» و«ما بقى من العمر». لا أرى حياتى بدون جبريل، أربعون عامًا هى عمر صداقتنا وزواجنا.
يا الله! كيف فرت هذه السنوات من بين يدى؟!.
البورتريه – كما أشرت فى العنوان – غير مكتمل، هو أقرب إلى الذكريات المتناثرة، أو التبقيعات النثرية كما وصف جبريل روايته «مد الموج».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.