لعل السؤال الأخير يدفعنا إلى التنقيب فى بعض التقارير الدولية ذات المصداقية، لنصل إلى مزيد من الإجابات المنطقية، بل ولتساعدنا فى طرح الأسئلة المنطقية والصحيحة التى يجب على العالم أن يسعى للإجابة عليها دون تخاذل، بدلا من الأسئلة الإسرائيلية «الخائبة» التى لا تسعى سوى إلى التشويش والتضليل. تتواتر منذ أسابيع التقارير والتصريحات الإسرائيلية التى تحاول أن تثير الذعر لدى الداخل الإسرائيلى بشأن القدرات القتالية للجيش المصري، ومؤخرا سعت دولة الاحتلال إلى إثارة الأمر على الساحة الدولية، فى محاولة بائسة ويائسة لتشتيت انتباه العالم عن الجرائم التى يقوم بها جيش الاحتلال فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، سواء فى غزة أو ما يجرى حاليا من جرائم فى الضفة الغربية، فضلا عن حمايته لعصابات المستوطنين التى بلغت حدا غير مسبوق فى إجرامها بحق الفلسطينيين الأبرياء. الأسئلة التى تحاول بعض الأوساط الإسرائيلية إثارتها بشأن تصاعد قدرات العسكرية المصرية، ومساعى تلك الأوساط توجيه دفة التضليل المتعمد نحو مصر، هى محاولة لا تنطلى على أحد، وتكشف حجم الحقد الصهيونى على الدور المصرى السياسى والدبلوماسى والأمنى والإنسانى لدعم القضية الفلسطينية، والتوصل إلى إقرار لهدنة ثانية فى قطاع غزة، أوقفت آلة القتل فى القطاع المنكوب. تلك المحاولات للتشويه والتضليل، تزايد سعارها مع مساعى مصر المكثفة والمخلصة بالتنسيق مع الوسطاء لكى تدخل الهدنة مراحلها التالية، التى تعد الأهم والأخطر، والتى تقود بجدية إلى وقف الحرب، لكن المؤكد أن وقف الحرب صار يمثل خطرا سياسيا وشخصيا على كثير من المسئولين الإسرائيليين، الذين باتوا يسعون بصورة محمومة لوضع العراقيل أمام أية جهود لوقف حربهم العبثية. ■■■ أسئلة بعض الساسة الإسرائيليين ووسائل الإعلام هناك بشأن قدرات الجيش المصري، تبدو غير منطقية، وتجسد حجم ما وصل إليه العقل الإسرائيلى من بؤس وإنكار للحقائق، لكن من يقرأ التاريخ الإسرائيلى سيدرك أن ذلك أسلوب معتاد ومتكرر فى الدعاية الصهيونية، التى تعتمد على اختلاق قضايا هامشية، ثم تتدرج فى دفع الاهتمام بها، لتتحول تلك القضايا لاحقا إلى مجرد ستار من الدخان تتوارى وراءه القضايا الحيوية والكبرى والجديرة بالاهتمام، وهى الأمور التى تسعى إسرائيل إلى إخفائها أو التشويش عليها عبر ذلك الستار الكثيف من التضليل المتعمد!! ورغم عدم منطقية تلك الأسئلة الإسرائيلية وخوائها الظاهر من أى معنى، لكن الرد عليها بقوة المنطق قد يكشف حقيقة ما تسعى إسرائيل إلى إخفائه والتشويش عليه، فقوة المنطق هى أكثر ما تخشاه دولة لا تملك سوى «منطق القوة»، ومارست عبر تاريخها القصير كل أشكال القتل والإرهاب والتضليل، ولا يزال قطاع كبير من ساستها يؤمنون بأن ذلك هو سبيلهم نحو البقاء، بينما كثير من العقلاء المدركين لحكمة التاريخ يوقنون بأن تلك الأساليب ليست سوى خطوات على سبيل الصعود نحو الهاوية! أول الردود «المنطقية» على الاسئلة الإسرائيلية «غير المنطقية» بشأن تنامى قدرات الجيش المصري، يكمن فى أن ذلك الجيش يمثل أكبر دولة عربية، وتعدادها يتجاوز 100 مليون نسمة، وطبيعة الظروف المضطربة التى تعانيها المنطقة، والتى كانت إسرائيل وحلفاؤها طرفا رئيسيا فى إشعالها، تفرض على دولة مثل مصر بموقعها وموضعها أن تكون دائما مستعدة لمواجهة مصادر التهديد والخطر، وهذا أمر معروف ومعتاد فى كل دول العالم التى تريد أن تعيش فى أمن وسلام، فما بالنا بدولة هى الأكبر فى منطقة صارت الأكثر هشاشة أمنيا فى العالم، بحسب كل التقارير الاستراتيجية الدولية، أليس من حقها أن تمتلك من الأدوات والقدرات ما يمكنها من حماية أمنها القومى؟! ثانيا: أن الجيش المصرى الذى كان ولايزال أكبر جيوش المنطقة وأحد أبرز جيوش العالم وفق تصنيف «جلوبال فاير باور» العالمى، وهذا وضع ليس بالجديد بل قائم منذ سنوات طويلة، والجيش المصرى مؤسسة وطنية تسعى إلى التطور، وهو فى هذا الشأن مثله مثل كل مؤسسات الدولة المصرية يعيد تطوير قدراته لمواكبة طموح الشعب فى الارتقاء إلى مكانة تليق بدولة صنعت الحضارة ورسمت ملامح التاريخ. والتجربة أثبتت أن مصر دولة تتمسك بالسلام خيارا استراتيجيا لها، وحافظت على هذا السلام لما يقرب من نصف قرن، بل كانت الملاذ الدائم لاحتواء الأزمات وإطفاء الحرائق، ولم تبادر مطلقا لاستخدام قدراتها العسكرية إلا لحماية أرضها وصون أمنها، بل سخرت تلك القدرات لخدمة السلم والأمن الإقليمى والدولي، وهى واحدة من أكثر دول العالم إسهاما فى بعثات حماية السلام تحت مظلة الأممالمتحدة، ولم تتورط يوما فى تهديد أو وعيد، بل يعلى خطابها السياسى دائما من أهمية الحلول السياسية والتفاوضية للأزمات. ثالثا: الارتقاء بقدرات القوات المسلحة والشرطة المصرية، كان أداة ضرورية لمواجهة ظاهرة الإرهاب، والتصدى لمحاولات النيل من الأمن الداخلى المصري، فى وقت كانت بعض الدول فى الإقليم والعالم تستضيف رموز تلك التنظيمات وتقدم لهم العون والدعم المادى واللوجيستي، فهل كان المطلوب أن تبقى قدرات المؤسستين العسكرية والأمنية المصرية دون تطوير لمواجهة هذا الخطر العالمي، حتى يطمئن ساسة إسرائيل؟! أعتقد أن الإجابة على ذلك السؤال لن تكون فى صالحهم لأنهم سيدخلون فى زمرة واحدة مع الإرهابيين الذين يخشون من قدرات الجيش المصرى! رابعا: أن الجيش المصرى الذى دائما ما كان يمتلك قدرات ضرورية لحماية الأمن القومى المصري، لم يهدد أمن أحد من جيران الدولة المصرية، وطيلة ما يزيد على نصف قرن، أى منذ نهاية حرب أكتوبر 1973 والتى كانت بهدف تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، لم تخرج قوات الجيش المصرى خارج حدودنا إلا لنجدة أشقاء أو للمشاركة فى تدريبات ثنائية أو دولية لرفع الكفاءة، والمساعدة فى جهود التصدى للقرصنة، أو مكافحة الإرهاب، على عكس جيش الاحتلال الذى أشعل منذ نهاية حرب 1973 التى تلقى فيها درسا قاسيا لا تزال أصداؤه حية فى الذاكرة الإسرائيلية، عشرات الحروب والمواجهات وتسبب فى سقوط مئات الآلاف من الضحايا، شهداء ومصابين ومشردين ونازحين، فمن أولى أن تُثار التساؤلات بشأن قدراته، والأهداف التى من أجلها تُستخدم تلك القدرات؟! ■■■ ولعل السؤال الأخير يدفعنا إلى التنقيب فى بعض التقارير الدولية ذات المصداقية، لنصل إلى مزيد من الإجابات المنطقية، بل ولتساعدنا فى طرح الأسئلة المنطقية والصحيحة التى يجب على العالم أن يسعى للإجابة عليها دون تخاذل، بدلا من الأسئلة الإسرائيلية «الخائبة» التى لا تسعى سوى إلى التشويش والتضليل. وأول تلك البيانات التى ينبغى التوقف عندها هو حجم صادرات إسرائيل من الأسلحة، والتى ارتفعت إلى مستوى غير مسبوق بلغ 13.1 مليار دولار عام 2023، بحسب تقرير معهد ستوكهولم، وهو أهم تقرير عالمى يرصد حركة بيع وإنتاج الأسلحة فى العالم. وبحسب التقرير ذاته استحوذت صادرات الأسلحة الإسرائيلية على حصة 2.3 بالمئة من المبيعات العالمية بين عامى 2019 و 2023، أخذا فى الاعتبار أن إسرائيل دولة صغيرة، لا يتجاوز تعداد سكانها 10 ملايين نسمة، ثلثهم من العرب، فلماذا تصر دولة الاحتلال على إنتاج كل هذا الكم من الأسلحة والذى يزيد على حاجتها وتقوم بتصديره، وقد شكَّلت الصادرات العسكرية نحو 8 بالمئة من إجمالى صادرات إسرائيل عام 2022، وبذلك تُعد أكبر مُصدّر للسلاح فى العالم من حيث نصيب الفرد، أليس ذلك أجدر بطرح التساؤلات؟! كما أن إسرائيل ورغم إنفاقها العسكرى الذى تتجاوز قيمته معظم دول منطقة الشرق الأوسط مجتمعة، هى أكبر متلقٍ للدعم العسكرى فى العالم، وبخاصة من الولاياتالمتحدة التى منحت إسرائيل منذ تأسيسها وحتى الآن ما يجاوز 300 مليار دولار، بما يمثل حوالى 55 بالمئة من إجمالى مساعدات الولاياتالمتحدة للعالم، مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه هى الأرقام المعلنة فقط، وهناك تقارير تشير إلى حصول إسرائيل على خدمات استراتيجية تتجاوز قيمتها أضعاف هذا الرقم بكثير. وبحسب بيانات معهد ستوكهولم ، فإن الولاياتالمتحدة زودت جيش الاحتلال بين عامى 2019 و2023 بنحو 69 بالمئة من الأسلحة، وهو رقم ارتفع إلى 78 بالمئة بعد أحداث 7 أكتوبر 2023. ورفعت إسرائيل إنفاقها العسكرى بشكل قياسى إلى 37 مليار دولار لأول مرة فى تاريخها، وذلك دون احتساب المساعدات العسكرية الأمريكية، رغم أن كمية الأسلحة والقنابل التى نقلتها واشنطن إلى جيش الاحتلال جوا وبحرا تجاوزت 50 ألف طن، وفق تقديرات المعهد حتى أغسطس 2024. الولاياتالمتحدة أيضا أرسلت أساطيلها لمساندة إسرائيل فى حروبها 5 مرات: الأولى عام 1948، والثانية فى 1967 وشاركت بشكل مباشر فى تقديم خدمات التجسس والاشتباك، ثم فى عام 1973 وعام 1982 عند غزو إسرائيل للبنان، قبل أن تعود تلك الأساطيل لمساندة إسرائيل فى حربها الراهنة والتى طالت جبهات عدة لم تقتصر على غزة والضفة الغربية، بل طالت لبنان وسوريا واليمن وإيران، ولا يزال التهديد الإسرائيلى الذى أطلقه رئيس الوزراء الإسرائيلى من فوق منصة الأممالمتحدة بأنه لا يوجد مكان فى الشرق الأوسط بعيد عن مرمى نيرانه، عالقا فى الذاكرة لكن العالم لا يزال يصم الآذان عن الاستماع للوعيد الإسرائيلي، بينما يسمح لساسة إسرائيل بأن يطرحوا تساؤلات هى أقرب إلى «حديث الإفك» عن قدرات الجيش المصري!! ■■■ التنقيب أيضا فى قائمة حروب إسرائيل ضد دول المنطقة، يجعلها ودون أدنى شك واحدة من أخطر مصادر التهديد ليس فقط فى الإقليم وإنما فى العالم، فقد كانت طرفا فى عشرات الصراعات المسلحة والمواجهات العسكرية ضد كل دول جوارها، منها حروب شاملة فى أعوام (1948، 1967، 1973، 1982)، وعشر أزمات مسلحة عنيفة كحرب الاستنزاف على الجبهة المصرية (1969-1970)، وكذلك مواجهتها العسكرية لانتفاضتين فلسطينيتين سلميتين (1987، 2000)، فضلا عن 8 عمليات استهداف للأراضى الفلسطينية وبخاصة قطاع غزة منذ انسحابها من القطاع عام 2005، كانت أولها عملية «أمطار الصيف» فى 2006، وصولا إلى «السيوف الحديدية» فى 2023 والتى لا تزال متواصلة إلى الآن. ويمكن أن نضيف إلى ذلك عشرات العمليات التى قامت بها قوات إسرائيلية ضد دول عربية ليس بينها وبين تل أبيب حالة حرب، نذكر منها - على سبيل المثال لا الحصر- قصف المفاعل النووى العراقى عام 1981، وصولا إلى تدمير قدرات الجيش السورى بصورة غير مسبوقة حتى فى سنوات الحرب والمواجهة قبل 50 عاما!! هذا السجل الأسود من الحروب والاعتداءات الإسرائيلية على دول الجوار وحتى على دول لا تجاور الأراضى المحتلة، أليس دليلا كافيا على مدى ما تمثله إسرائيل من خطر حقيقى على كل دول المنطقة، بل وعلى السلم والأمن الدولي، يستوجب طرح التساؤلات عن قدرات إسرائيل العسكرية، وما تحظى به من دعم غير مسبوق فى التاريخ لدولة وظيفية لا تنتمى إلى محيطها، بل تتحول بموجب ذلك الدعم إلى مصدر خطر وتهديد دائم وداهم، وهو ما يتطلب إجراءات وتحركات لحماية المنطقة والعالم من الجنون والعبث الإسرائيلى. وإذا ما أضفنا فى هذا الصدد إفلات قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين من كل صور المحاسبة والعقاب على ما ارتكبوه من جرائم ضد الإنسانية، وإبادة جماعية واغتيالات ممنهجة ضد أبناء الشعب الفلسطينى والآلاف من أبناء شعوب عربية لا ذنب لهم سوى أن دولة مارقة مثل إسرائيل زرعت ظلما وعدوانا فى منطقتهم، فإن صورة الظلم التاريخى الذى تتعرض له المنطقة ستكتمل، بسبب دولة واحدة لا يملك قادتها شجاعة الوقوف أمام مرآة الحقيقة، ليروا صورتهم بعيدا عن التضليل والتزييف، وينظروا فيما اقترفته أيديهم من جرائم، بل يصر أولئك الساسة على تشتيت الأنظار وتضليل العقول بعيدا عن التدبر فى حقيقة ما باتت السياسات الإسرائيلية تمثله من عدوان على كل قيم العدالة والقانون، بل وعلى الإنسانية ذاتها.