والحقيقة التى يدركها كثيرون من ساسة إسرائيل، الذين يخشون الحرب بنفس درجة خوفهم من السلام، أن القوة غير قادرة على توفير الأمن لهم، وأن منظومة الردع المزعومة سقطت فى العديد من المناسبات منذ أكتوبر 1973 أصعب ما يمكن مواجهته هو كائن مذعور، يتحكم فيه الخوف، فلا يجعله يرى فرص النجاة التى قد تكون أقرب مما يتصور، بل قد يدفعه خوفه نحو حتفه والتسبب فى مصير كارثى لمن يحيط به، فالغريق المذعور قد يتسبب فى هلاك من يحاول إنقاذه، والطفل المذعور لا يستطيع التفرقة بين الخيالات التى يتوهمها عقله، وبين اليد التى تمتد إليه لتنقذه من مخاوفه. والذعر، ويعنى الشعور بالرعب والهلاك الوشيك وهو أكبر من الخوف الطبيعى، لا يسيطر على البشر فقط، لكنه قد يهيمن على الدول أيضا، فيدفعها إلى اتخاذ قرارات لاعقلانية فى لحظة اندفاع وخوف عميقين، وقد تكون تلك القرارات سببا رئيسيا فى تكريس حالة الخوف الدائم والاضطراب المستمر، ليس فقط لتلك الدولة، بل لمحيطها الإقليمى كله. وأبرز مثال على الدولة «المذعورة» هو إسرائيل، فهذه الدولة التى لم تولد ولادة طبيعية، بل زُرعت واختُلقت فى محيط لا تنتمى إليه، تبدو بواعث الذعر متأصلة ومتجذرة حتى النخاع فى نفوس من يقومون على أمرها عبر العقود الثمانية الماضية، والأسوأ أنها تتنامى مع الأيام ولا تتراجع بحكم الاعتياد والخبرة. ■ ■ ■ وتعيش إسرائيل على مدى الأشهر العشرة الماضية أقصى وأقسى درجات ذعرها، ويستثمر ساستها، وبخاصة من اليمين المتطرف، فى حالة الذعر تلك، لأنهم يدركون جيدا أنها الحالة المثلى التى تضمن لهم أصوات المؤيدين، وقمع المعارضين، واستهداف الخصوم، وتمرير ما عجزوا عن تمريره فى حالات الخوف الطبيعية التى تمثل شعورا مستداما فى عقول ونفوس الإسرائيليين. ودائما ما كان الخوف والذعر من أهم العناصر الحاكمة للوجود الإسرائيلى، فبسبب ذلك الخوف من الزوال سعت إسرائيل إلى امتلاك ترسانة عسكرية هائلة، واحتكار السلاح النووى فى الشرق الأوسط (رغم كل محاولات النفى والتنصل رسميا)، إضافة إلى الارتباط بشبكة من الدول الكبرى الداعمة والحامية. الذعر جعل إسرائيل إحدى أكثر دول العالم إنفاقاً على السلاح والصناعات الدفاعية، بل ومن أكثر المتلقين للمعونات العسكرية فى العالم على مدى عقود، ولم تنافسها فى السنوات الأخيرة سوى أوكرانيا لظروف الحرب هناك. ورغم ذلك لم تنعم إسرائيل بالأمن، الذى كان ولا يزال الحديث عن حمايته ركنا أساسيا من خطابها السياسى، وأهم أدواتها لابتزاز عطف ودعم حلفائها، فقد خاضت إسرائيل فى تاريخها 12 حربا، سواء ضد جيوش عربية نظامية، أو ضد فصائل وتنظيمات مقاومة، يُضاف إلى ذلك 5 عدوانات ضد قطاع غزة (2008، 2012، 2014، 2021، 2023)، علاوة على مواجهة انتفاضتين شعبيتين فى الأراضى الفلسطينية المحتلة (1987 و2000)، كما غزت إسرائيل واحتلت أراضى ووجهت ضربات لكل الدول المجاورة لها، بل ونفذت عمليات تخريبية على أراضى دول بعيدة تماما عنها. كل هذا وإسرائيل تقدم نفسها للعالم على أنها دولة مستهدفة تستحق الدعم والمساندة، وأنها تعيش فى محيط من الكراهية، وأنها تواجه خطرا متواصلا على أمنها، يجعلها تركز دائما على ما يسمى ب «منظومة الردع»، التى تشكل عصب نظرية الأمن القومى الإسرائيلى، دون أن تدرك إسرائيل أن سياساتها العدوانية ضد المنطقة، ومحاولاتها الدائمة لاستخدام القوة لإخضاع ما تتصور أنه مصادر تهديد، هو أكبر مهدد لأمنها، فالمذعور دائما لا يستطيع رؤية الحقائق ولا يتمكن من إدراك الأمور على نحو دقيق، بل غالبا ما يرى الحقائق معكوسة، وهو ما يحدث فى حالة إسرائيل، التى تتهم أطرافا كُثرا بالإرهاب، دون أن تقتنع بأنها أكبر مصدر للإرهاب فى المنطقة!! ■ ■ ■ والحقيقة التى يدركها كثيرون من ساسة إسرائيل الذين يخشون الحرب بنفس درجة خوفهم من السلام، أن القوة غير قادرة على توفير الأمن لهم، وأن منظومة الردع المزعومة سقطت فى العديد من المناسبات منذ أكتوبر 1973، وصولا إلى أكتوبر 2023، وبين هذين التاريخين الكثير من الضربات القوية التى تلقتها تلك المنظومة، التى كلفت إسرائيل والحلفاء مليارات لا حصر لها من الدولارات لتوفيرها وتطويرها، لكن الطبقة الحاكمة فى إسرائيل تدرك أن الحلول الجادة والحقيقية تتناقض مع مبادئ الصهيونية التى لا ترى فى الآخرين سوى أعداء وضحايا محتملين!! استثمر ساسة إسرائيل على مدى عقود فى بناء حالة عميقة من الذعر لدى مواطنيهم، وأدركوا أن ذلك الذعر هو الوسيلة الأهم لتجميع أشتات المهاجرين من بلدان وثقافات متباينة ومختلفة، لا تكفى رابطة الدين ويهودية الدولة فقط لجعلهم شعبا متماسكا، وتمسك أولئك الساسة بعقيدة ترتكز على أن صناعة الخوف هى الهدف الأول للدولة العبرية، واعتباره بضاعة رائجة، لا تكتفى فقط بتحقيق الكفاية منه لمواطنيها، بل تحاول تصديره لمحيطها الإقليمى. لذلك تحتفظ إسرائيل بشبكة واسعة من الأعداء و«الفزّاعات»، لا تقتصر فقط على كل ما هو فلسطينى أو عربى أو إسلامى، بل تمتد إلى اختلاق مهددات داخلية مثل اليسار الإسرائيلى، حتى إن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتانياهو يرى فى كل معارضيه خطرا على الدولة، وسبق أن اتهم فى مناسبات عدة أحزابا وتكتلات غير يمينية بأنها أذرع لإيران داخل إسرائيل!! الأدهى أن الذعر لا يجعل حكام إسرائيل مهووسين فقط بكيل الاتهامات لخصومهم، بل أحيانا ينال حلفاؤهم نصيبا وافرا من ذلك الهوس، فاتهامات معاداة السامية جاهزة وحاضرة دائما لمهاجمة ووصم كل من يجرؤ على انتقاد سياسات اليمين المتطرف، حتى ولو كان من داخل الدول الغربية التى ساهمت فى تأسيس إسرائيل ووفرت لها الدعم والحماية على مدى عقود. الولاياتالمتحدة الراعية والداعمة الأولى لإسرائيل نفسها لم تنج من تداعيات حالة الذعر الإسرائيلى، والذعر هنا مرده ذلك الخوف المرضى من فقدان الدعم الأمريكى، فالحركة الصهيونية أدركت منذ بدايتها أنها لا تستطيع أن تحيا إلا فى كنف قوة عظمى توفر لها الحماية، ووجدت ضالتها فى بريطانيا ثم فى الولاياتالمتحدة التى تكفّلت - ولا تزال - بأن تقدم «حبلا سُريا» لإعاشة إسرائيل، وتطور الأمر ليشكل حالة غريبة فى نظريات العلاقات الدولية، إذ سعى التابع إلى السيطرة على المتبوع، واستطاعت إسرائيل عبر شبكة قوية من اللوبيات المناصرة إلى ضمان أدوات تأثير فعالة على القرار السياسى الأمريكى وتوجيهه دائما وفق رغبات البوصلة الإسرائيلية!! ولعل الحفاوة التى حظى بها رئيس الوزراء الإسرائيلى وهو يلقى خطاب الأكاذيب أمام أعضاء الكونجرس الأسبوع الماضى، أبلغ دليل على نجاح اللوبى الصهيونى فى تكوين شبكة حلفاء وداعمين داخل أروقة صناعة السياسة الأمريكية، تضمن التصدى لأى تحول فى سياسات واشنطن، وتؤمّن التحكم فى توجهات أى ساكن للبيت الأبيض، فالإسرائيليون لا يأمنون حتى لحلفائهم، والذعر الدائم من المستقبل يجعلهم لا يثقون فى أحد، حتى ولو كان ذلك الأحد هو الولاياتالمتحدة التى منحتهم دعما لم تحظ به دولة فى تاريخ العالم المعاصر. ■ ■ ■ حالة الذعر جعلت من إسرائيل التى تروج دائما أنها دولة ديمقراطية، واحدة من أكثر دول العالم ارتكابا للجرائم ضد الإنسانية، فالديمقراطية لمواطنيها اليهود فقط، بينما غيرهم مجرد أهداف مستباحة، وضحايا بلا حقوق، وتشير التقارير الحقوقية إلى أنه منذ عام 1967 وحتى الآن سُجن أكثر من مليون فلسطينى مرة واحدة على الأقل فى سجون ومعتقلات الاحتلال، وتعرضوا لكل صنوف التعذيب والامتهان، هذا فضلا عن أن إسرائيل تُصنف على أنها أكبر قاتل للأطفال فى العالم، وبحسب منظمة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسف) فقد قتلت قوات الاحتلال أكثر من 13 ألف طفل فى غزة حتى مارس الماضى، بينما يسير آلاف آخرون على طريق الهلاك جراء سوء التغذية الحاد وليس لديهم «حتى الطاقة للبكاء» وفق وصف التقرير. وطوال الأشهر العشرة الأخيرة تقتل قوات الاحتلال نحو 4 أطفال كل ساعة فى قطاع غزة، وفق أرقام الجهاز الفلسطينى المركزى للإحصاء، وهو ما يعنى أننا لسنا فقط أمام دولة مذعورة فى الوقت الراهن، بل أمام كيان مذعور حتى من المستقبل، ولا يجد بديلا للتعامل معه سوى القتل والإبادة!! ولا يبدو أن تلك الأشهر الأخيرة بكل ما حملته من مآسٍ صارت كافية لكى تهدئ من حالة الذعر الإسرائيلى، بل إن مساعى حكومة اليمين، ونتانياهو شخصيا لإطالة أمد الحرب بأية صورة تدفعه إلى إحراق المنطقة برمتها بحثا عن وقود جديد يضمن استمرار تأجج الصراع، ليس فقط ضمانا للبقاء فى السلطة وتأجيل لحظة الحساب والمحاكمة، وإنما من أجل إبقاء حالة الخوف فى الداخل الإسرائيلى لأطول فترة ممكنة بما يضمن له مزيدا من الهيمنة على الشارع وإقصاء لخصومه ومنتقديه. ويبدو أن لبنان سيكون الوجهة المقبلة لنيران الذعر الإسرائيلية، وهى جبهة لطالما كانت هدفا لجنون تل أبيب، وميدانا للنار والدم منذ عام 1982، ويبدو أن إسرائيل تبحث عن ذرائع جديدة لارتكاب المزيد من المجازر، رغم الإدراك الواضح بأن استنساخ تجربة غزة فى لبنان يبدو مستحيلا لأسباب عسكرية وأخرى تتعلق بعلاقات لبنان الدولية وارتباطه بشبكة معقدة من المصالح الإقليمية، لكن إفلات ساسة إسرائيل وقادة الاحتلال من المحاسبة والعقاب، يجعلهم أسرى حالة الغرور بقدرتهم على ارتكاب ما يشاءون من جرائم والنجاة فى النهاية!! وقف سيناريو الجنون الذى يسعى بنيامين نتانياهو لتنفيذه فى المنطقة أصبح ضرورة إقليمية ودولية قصوى، فالرجل الذى أجاد توظيف الخوف وصناعته فى الداخل الإسرائيلى ليحقق رقما قياسيا فى البقاء فى السلطة، لم يشبع بعد، ويبدو أنه يحاول أن يجعل من المنطقة برمتها «أرضا للخوف»، أملا فى أن يعيد ترميم جدار الردع الإسرائيلى القائم بالأساس على بناء حاجز نفسى من الخوف، لكن اللعب بالنار والمتاجرة بمصائر الشعوب ليس دائما مسألة مأمونة العواقب، فكرة اللهب عندما تنطلق فى منطقة قابلة للاشتعال، لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمكان أو موعد توقفها، والحروب أداة خطرة لتحقيق مكاسب سياسية. ولا يبدو أن الولاياتالمتحدة التى تمتلك من أوراق الضغط ما يكفى للَجْم محاولات نتانياهو إحراق الشرق الأوسط، راغبة فى التدخل بحسم مثلما فعلت إبان الغزو الإسرائيلى للبنان، بل على العكس يبدو أن واشنطن - المنشغلة والمرتبكة فى انتخاباتها المثيرة - تمنح طفلها المدلل والمذعور الفرصة تلو الأخرى كى يعيث فى المنطقة فسادا وتدميرا أملا فى أن تهدأ نوبة ذعره، لكن الكارثة أن تلك النوبة تتفاقم كلما تمادى القتل والتدمير دون حساب أو ردع حقيقى!!